وانبسطت أسارير الشاب فرفع يده إلى رأسه تحية، وتربع جالسا على الأرض أمام البك، وسعل مرات متوالية يسلك حنجرته، ثم أسند رأسه إلى كفه ومضى يغني «ليالي» في صوت جميل ظن دانش في نشوته أنه أجمل من أصوات الحور في الجنان، ثم أنشد:
بكره وبعده وبعد اللي وراه بعده
وإن غاب حبيبك ما لكش في البلد بعده
وكان رأسه يهتز وجسمه يتمايل، وكان جميعه في حركة وجدانية تمثيلية غريبة، وكان صوته يتهدج ويتوجع؛ يعلو تارة حتى يملأ الفضاء، ويخفت أخرى حتى ينفذ إلى أعماق القلب. وما إن انتهى من إنشاده حتى صعدت آهات الإعجاب من كل فم، وكان الشاب أول المعجبين، وغلبته النشوة والطرب فطلب لكل واحد من الجالسين «جوزة» وصاح بالمغني: لا أسكت الله لك صوتا .. أسمعنا موالا آخر.
فهز الرجل رأسه مختالا فخورا، ووضع يسراه على أذنه ويمناه على الجوزة، وأنشد:
بيني وبين الحبايب جبل عالي وتل حشيش
وبحر خمرة ونفسي في النبيذ ولا فيش
ولما انتهى المغني من إنشاده بلغ الفرح بنفس دانش مبلغا ظن أنه لن يذوق الملل بعده أبدا، وأحس بالرضا والغبطة، وأفعم قلبه بعاطفة سعادة وخير، فود لو يستطيع أن يغمر كل محزون بفيض من سعادته، ومال بقوة قاهرة إلى مكافأة الرجل الذي مس روحه بنفثة من سحر صوته، فدس يده إلى محفظته ووجد بها بضعة قروش وورقة من ذات العشرة جنيهات، فأعطى القروش إلى صاحب القهوة، ثم نظر إلى المغني مليا ووضع الورقة في يده وهو يقول: هذه لك.
لم يداخله التردد مطلقا، وما كانت ثمة قوة في الوجود تستطيع أن تمنعه من المنح والعطاء تلك الساعة، أما الرجل فسهم ووجم وأدنى الورقة من نور المصباح وتأملها بإنكار، ولمح الورقة في يده أحد الجالسين فاقترب منه ونظر إليها لحظة ثم قال بلهجة خبير: ورقة قديمة من ذات العشرة قروش، كانت متداولة أيام السلطان.
فتضاحك دانش وقال للرجل بصوت سمعه كثيرون ممن حوله: جزاك الله على ما أسعدتني خيرا .. هذه ورقة من ذات العشرة الجنيهات قد تراها بين يديك ثروة عظيمة وأراها أنا شيئا تافها إلى ما أحسست به من سعادة .. السلام عليكم يا سادة.
Bog aan la aqoon