وتنهد الباشا من قلب مكلوم وقال للشاب: تفضل مع السلامة.
وصعد الزوجان إلى مخدعهما وقد نال التعب منهما كل منال، فارتمى الباشا على «الشيزلنج»، واستلقت السيدة على الفراش، وكانا واجمين حزينين.
وتنهد الباشا وقال لها: أيعجبك هذا؟ - أنت دائما تلقي علي تبعة كل شيء. - أنا رجل ينوء بعبء ثقيل، سواء في الوزارة أو مجلس الشيوخ أو الشركات؛ فأنت وحدك المسئولة عن فساد أخلاق بناتك. - لا تتكلم يا سيدي عن بناتي بهذه اللهجة التي لا أقبلها بحال .. إني أعلم أنهن أشرف النساء جميعا! - إذن أنت ترضين عن هذه الأفعال الشائنة؟
ألا ترين أن مأساة الأخت الكبرى تتكرر؟ تلك الفتاة البائسة التي أردت أن أزوجها من طبيب كبير فوقعت في غرام صعلوك متشرد ممن يسمونهم بالموسيقيين. - لا تتكلم عن صهرك بمثل هذه الألفاظ؛ فليس هو الآن بالصعلوك ولا المتشرد، ولكنه مفتش موسيقي محترم بوزارة المعارف! - أنا الذي عينته في هذه الوظيفة التي هو غير أهل لها بحال .. أنا الذي خلقته. - اخلق هذا أيضا من أجل لولو. - ولكنه غير قابل للخلق .. لقد كان الأول مغنيا فاستطعت أن أصنع منه مفتشا للموسيقى وإن كان لا يفقه شيئا في الموسيقى، ولكن ما عسى أن أصنع بهذا وكل مؤهلاته البكالوريا؟ الأوفق أن نطرده! - ليت ذلك ممكنا .. ولكنك تعلم أن لولو عنيدة صلبة الإرادة ، فلنوار سوأتنا ونصنع منه شيئا. - مهما فعلت فلن يكون أكثر من كاتب. - حنانيك يا باشا، هل شح الزمان حتى تتزوج ابنة واحد باشا مثلك ووزير سابق (ووزير لاحق إن شاء الله) من كاتب؟! - وما ذنب الزمان إذا كانت ابنة الباشا مجنونة مثل لولو؟ - دع أحاديث الغضب جانبا، وقل لي: ألا يمكن إلحاقه بأي وظيفة في مفوضية أو قنصلية؟ - مفوضية أو قنصلية؟ .. أهذا كلام يقال على واحد كل مؤهلاته البكالوريا؟ - أف .. أنا أعلم جيدا أنك متعب، ومهما يكن من أمر فينبغي ألا تكون درجته أقل من السادسة، وألا تقل ماهيته عن خمسة عشر جنيها .. وأمامك أصدقاؤك الوزراء، فليختره أي واحد منهم سكرتيرا له. - ليس الأمر سهلا يا هانم كما يبدو لك؛ فالصحف تقف بالمرصاد للمحسوبيات والاستثناءات. - وهل يرضي الصحف أن تتزوج ابنة واحد باشا من كاتب بستة جنيهات؟ - إن للصحافة هموما لا تدع لها وقتا للتفكير في مسألة زواج لولو! - إن مستقبل لولو لفوق الصحافة وهمومها، فينبغي أن تخلق هذا الشاب من جديد. - هل كتب علي أن أخلق كل يوم شابا من جديد؟ - أرجو أن تذكر أنك كنت موظفا بائسا حين تزوجتك، وأنه لولا المغفور له والدي ... - إن أباك لم يخلقني، ولكنه أتاح الظروف المناسبة لعظمتي الكامنة. - صه .. لولا أبي لكنت الآن موظفا بالدرجة السابعة على أكثر تقدير. - أبهذا الكلام تدافعين عن ذوق بناتك القذر؟ - معلهش يا باشا، إنهن ورثن عني ذلك الذوق الذي حملني فيما مضى على الزواج منك. •••
وكان السائق هائجا غاضبا، يلعن ويتوعد، والشرطي يهدئ روعه ويعزيه عن «قطع عيشه» بكلمات لا تغني، وقد قال له: أنت مخطئ يا حسن .. لماذا تدخل فيما لا يعنيك؟
قال محتدا: أهذا رجل؟ - وما الذي يغضبك أنت؟ إنها ابنته لا ابنتك.
ثم غمز بعينه وتساءل: أم هناك سبب آخر لهذا الغضب؟ .. أهو غضب أم غيرة يا شيطان؟!
فلما لم يرد عليه الجواب قال له وهو يودعه: معلهش يا حسن؛ فالحق أن الباشا لم يعرف يربي غير شنبه.
الجوع
انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين جنيها في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه، فلم تعد الخسارة تهز أعصابه أو تكرب نفسه، كان يتعاطاها بغير مبالاة بين رشف الكئوس وقذف الدعابات، ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء، ولكنه كف تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لخمار دار برأسه، فرغب في تنسم هواء الخريف الرطيب في الخارج ومراودة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض معتذرا وغادر النادي، وكان الطريق كالمقفر والجو لطيفا منعشا، فسرت منه إلى رأسه الساخن الدائر قرة وسكينة، فجد في السير مصفرا صفيرا خافتا وأحيانا مترنما، لغير غاية، وانحرف إلى الطريق المؤدي إلى قنطرة قصر النيل، وبصر بها في نهايته فانشرح صدره وحث خطاه؛ فلما بلغها مضى يسير الهوينى التماسا لمزيد من الراحة والانتعاش، ولم يكن يقطعها في تلك الساعة إلا السيارات المنطلقة في فترات متقطعة، إلا أنه حين بلغ ثلثها الأخير لاحت منه التفاتة إلى الجانب الأيسر منها، فرأى رجلا رث الهيئة في جلباب قذر ينحني متقوسا على سور القنطرة ملقيا برأسه إلى النهر فلم يلق إليه بالا، ومضى إلى نهاية القنطرة، ولم يجد رغبة للتوغل فيما وراءها فتحول إلى الجانب الأيسر ليعود من حيث أتى، وكان الرجل ما زال في تقوسه واستغراقه إن لم تكن أسكرته نسائم الهواء الرطيب فتسلل النوم إلى جفنيه .. ولما صار منه على بعد قريب رآه يقفز بحركة مباغتة إلى أعلى السور، ثم توثب كأنما ليلقي بنفسه إلى النيل، فاندفع نحوه بسرعة جنونية وأدركه في اللحظة الفاصلة، فأمسك بيسراه وجذبه إلى الخلف بشدة، فسقط على الإفريز عوضا عن أن يسقط في النهر، وبلغ منه الانفعال، وتدافعت أنفاسه، وتفرس وجه الرجل الذي هانت عليه الحياة فرآه يحدجه بنظرة جامدة ووجه مكفهر، وقد لاح لعينيه هزاله ورثاثته وشدة اصفرار وجهه، فصاح به: ماذا كنت فاعلا بنفسك؟
Bog aan la aqoon