فضحك الباشا، وضحك الحاضرون جميعا وقال سعادته: أنت تفهم ما أعني، ولكنك تحب المزاح، المصريون حيوانات أليفة طبعها الذل، وخلقها التذلل، وقد عاشوا عبيدا على فتات موائد الحاكمين منذ آلاف السنين، ومثل هؤلاء لا يحق لهم أن يأسفوا على إهداء هذا المتحف إلى باريس.
فقال المسيو سارو: نحن لا نتكلم عما يحق أو لا يحق، ولكن عن الواقع، والواقع أنهم سيأسفون (ثم قال بلهجة ذات مغزى) وستأسف معهم صحافتهم.
ولكن لم يبد على الباشا أدنى اكتراث، وكان بطبعه يتعالى على ضجيج الجماهير وصرخات الصحف المفتعلة، وربما كان لأصله التركي دخل كبير في تشبثه بآرائه وعناده واحتقاره للمصريين. ولم يرد أن نسترسل في ذاك الحديث فأغلق بلباقته النادرة بابه، وانشغلنا ساعة باحتساء القهوة الفرنسية اللذيذة التي لم أذق مثلها في مصر، ثم نظر الباشا إلي باهتمام وقال: ألم تعلم يا مسيو دريان أني بدأت أنافسك في اكتشاف الكنوز؟
فنظرت إليه مستفهما وسألته: ماذا تعني يا إكسلنس؟
فضحك الباشا، وقال وهو يشير إلى حديقة القصر من نافذة الصالون: على بعد أذرع منا تجري عملية حفر جليلة الشأن في حديقة قصري.
فبدا علينا الاهتمام جميعا، وتوقعت سماع خبر مثير، وكان لكلمة حفر تأثير خاص في نفسي؛ لأني قضيت شطرا كبيرا من عمري - قبل أن أشتغل في الجامعة - أحفر وأنقب في أرض مصر الغنية الساحرة.
وقال الباشا وهو ما يزال يبتسم: أرجو ألا تسخروا مني يا سادة؛ فقد فعلت ما كان يفعله الملوك الأقدمون مع السحرة والمشعوذين، ولا أدري كيف رضخت وأذعنت، ولكن لا داعي للأسف؛ فقليل من الخرافة يريح العقل الكلف بالحقائق والعلوم. ومجمل الحكاية أنه جاء قصري منذ يومين رجل معروف في هذا البلد يدعى الشيخ جاد الله، يحترمه العامة ويقدسونه، وكم ذا بمصر من المقدسين، وألح في طلبي وأذنت له وأنا أعجب لشأنه، وحياني الرجل على طريقته، وبشرني بأنه استدل بعلمه الروحاني وبكتبه القديمة عن وجود كنز ثمين في باطن حديقتي، وطلب إلي بتوسل أن آذن له في الكشف عنه تحت إشرافي، ومناني بالذهب واللآلئ في مقابل أن أعده بالحلوان. وضقت به وهممت بطرده، ولكنه ضرع إلي وتوسل حتى استعبر وقال لي: لا تهزأ بعلم الله، ولا تستهن بعباده المقربين. فضحكت طويلا، ثم خطر لي خاطر سريع فقلت لنفسي: لماذا لا أجاري الرجل في وهمه وأسايره على اعتقاده؟! لن أخسر شيئا وسأفوز حتما بنوع من التسلية. وقد فعلت يا أصدقائي، وأذنت للرجل وأنا أتظاهر بالجد، وها هو ذا يحفر في حديقتي، ويعاونه في عمله الشاق اثنان من خدمي المؤمنين، فما رأيكم؟
قال الباشا ذلك وضحك عاليا، فضحك الجميع، أما أنا فكرت بي الذاكرة إلى الماضي إلى حادثة مشابهة، فقلت: طبيعي أنكم لا تؤمنون بعلم الشيخ جاد الله، ولا أنا أستطيع أن أومن به وا أسفاه، ولكني لا أستطيع كذلك أن أنسى أني اكتشفت قبر الكاهن «قمنا» بفضل خرافة كهذه!
فبدت الدهشة على وجوه الحاضرين، وسألني الباشا: أحقا ما تقول يا سيدي الأستاذ؟
فقلت: نعم يا باشا، لقد دلني يوما شيخ مثل الشيخ جاد الله على بقعة من الأرض في وادي الملوك، وقال لي: إنه استدل بكتبه وعلمه على وجود كنز فيها، فضربنا فيها بمعاولنا ، ولم نلبث أياما حتى اكتشفنا مقبرة «قمنا» .. وهذا بلا شك من عبقريات المصادفات.
Bog aan la aqoon