أى بينا لهم الحق وتركوه، ولم يرد التوفيق، لأن الموفق لا يمكن أن يترك الحق إلى العمى، وقوله { هدى للناس } أى إرشاد تجميعهم لكن من تدبره بعقله، ونظر فى المعجزات والآيات نفعه واشتفى به، ومن أعرض ازداد خسارا كما قال الله عز وجل
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
كالطعام والشراب الكريمين، فإنهما ينفعان الجسم الصحيح ويتضرر بهما المريض، لعلة فيه لا فيهما، وتخصيص بعضهم الهدى بالوجه الأول وبعضهم بالثانى مردود بورودهما جميعا، ولا نسلم أنه لا يقال مهدى إلا لمن اهتدى، بل يقال أيضا لمن هدى فلم يهتد، ولئن سلمناه لنقولن إنما قيل مهدى للمنفع بالهدى لانتفاعه دون غيره، ولا مدخل لذلك فى أن الهدى للدلالة، أو للدلالة الموصلة إلى البغية بتثليث الموحدة، أعنى إلى المطلوب.
وإن قلت كيف يكون هدى وفيه المجمل والمتشابه؟ قلت لزوال الإجمال بتبيينه صلى الله عليه وسلم، والمتشابه لا يضر بهم جهله، ويكفى الإيمان به، وأيضا قد يبينه راسخ فى العلم، والمتقى من يبالغ فى الحذر من شىء يعالج الحذر منه وينفر من أن يقع فى أقل قليل منه كمحاذرة السم، فقد يحذر ما لا يكون فيه ذلك المحذور بحسب ما ظهر مخافة أن يكون فيه وهو لا يعلم به، أو أن يؤدى إلى ما هو فيه، ويختص ذلك فى الشرع بشدة محاذرة المعصية والشبهة، وما يخاف أن تكون فيه إحداهما أو يؤدى إلى إحداهما فهو يترك كثيرا من الحلال لئلا يقع فى ذلك، وفى عرف الخواص من أهل الشرع أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق سبحانه وتعالى، وينقطع إليه بجملته ظاهره وباطنه، ويجوز تفسير التقوى به فى قوله تعالى
اتقوا الله حق تقاته
وهو التقوى الحقيقى المطلوب، وعن ابن عباس رضى الله عنهما المتقى من يترك الفواحش والكبائر والشرك، وفي معناه التارك ما حرم الله المؤدى ما افترض، فإن ترك أداء الفرض فاحشة أو كبيرة أو بشرك، وفى معناه أيضا من لا يراه الله حيث نهاه، وفى معناه المقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفى معناه تارك الاغترار بالطاعة والإصرار على المعصية، هذه العبارات كلها فى معنى عبارة ابن عباس، ويتولد من ذلك ألا يرى نفسه خيرا من أحد، وكل ذلك من الوقاية وهى الحجز بين الشيئين، فإن المتقى يحتجز من غضب الله عز وجل وعذابه، والتاء الأولى من المتبقى بدل من الواو، والثانية تاء المفتعل، وإن قلت كيف يكون القرآن أو بعضه هدى للمتقى؟.. بل هدى للضال وإلا لزم تحصيل الحاصل؟ قلت المعنى أنه يزيدهم الهدى أو أن الاتقاء الحاصل معهم، إنما حصل لهم بهدى القرآن، أو معنى المتقين المشارفون للاتقاء على الإيجاز والتشريف والتفخيم لهم، أو أريد بالهدى غايته، لأن غير المتقين يحصل لهم مبدأة، وقرأ أبو الشعثاء جابر بن زيد رحمه الله أو سليم بن أسود لا ريب بالرفع والتنوين على إعمال لا عمل ليس، أو على إهمالها، فعلى إعمالها عمل ليس الأحسن كون خبرها محذوفا، وفيه نعت اسمها، أو فيه خبر لهدى، وهدى مبتدأ، أى لا ريب فيه، فيه هدى للمتقين، وعلى كل قراءة وكل وجه نكر هذا التعظيم، وإنما لم يقدم لفظ فيه على لا ريب كما قدم فيها على قول، لأنه لم يقصد نفى الريب عن القرآن خاصة وإثباته لسائر الكتب المنزلة كما قصد إثبات القول لسائر الخمور، ونفيه عن خمر الجنة فقط، فلو قيل لا فيه ريب لأوهم الكلام أن فى سائر الكتب ريبا.
[2.3]
{ الذين } نعت للمتقين مقيد له، أعنى لمنعوته الذى هو بعض المتقين، إن فسرنا التقوى بترك ما لا ينبغى مترتبة عليه ترتب التحلية بالحاء المهملة، وهو التزيين بالأشياء الجميلة على التحلية، وهى التجريد من الأوساخ والأصداء، وترتب النفس فى الشئ على تصقيله، أو نعت للمتقين موضح له، إن فسرنا التقوى بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية، لاشتمال التقوى على الإيمان والصلاة والزكاة، وهن أصل الأعمال والحسنات وأعمال القلب والبدن والمال، وعليهن يترتب سائر الطاعات وتجنب المعاصى غالبا، قال الله تبارك وتعالى
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
وقال صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon