{ بلى } أى يدخل الجنة من لم يكن هودا ولا نصارى، وكأنه قيل من يدخلها فقال { من أسلم وجهه لله وهو محسن } فمن فاعل لمحذوف أى يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن، وهو موصولة ولك جعلها مبتدأ زبدت الفاء فى خبرها لتضمنها معنى الشرط، والخبر هو الجملة فى قوله { فله أجره عند ربه } أو هى شرطية، هذه الجملة جوابها، وعلى الوجه الأول يحسن الوقف على محسن لا على بلى، وما بعد ذلك مستأنف. ويجوز عطفه على من، وفعله المقدر عطف اسمية على فعلية، وعلى الثانى والثالث يحسن الوقف على بلى، ومعنى أسلم وجهه لله أخلص جسده كله لله. وخص الوجه بالذكر معبرا به عن الكل، لأنه أشرف الأعضاء الظاهر وفيه أكثر الحواس، وفيه يظهر أثر الخضوع والذل والعز، ومن خضع وانقاد بوجهه فخضوعه وانقياده بغيره من باب أولى، ومعنى إخلاص جسده لله استلامه لما يفعل الله به، ولما يوجبه عليه أو يحرمه عليه، ويجوز أن يكون معنى أسلم وجهه أخلص قصده، وعبر بالوجه عن القصد، لأن القصد إلى شئ فى الجملة يكون بصرف الوجه إليه، وكذا إلى جهة من الجهة، ولأن الوجه من الإنسان يقصده القاصد عند التكلم، والخطاب والنظر وغير ذلك فى الحب وشدة البغض والتقاتل، فالمراد أن يقصد الله ويصرف همته عن غيره، ويجوز أن يكون المعنى أخلص النية، فسمى الدين وجهه لأن دين الإنسان أهم شئونه ومعظمها، كما أن الوجه أفضل الأعضاء، ومن جملة دينه أعماله. وقد فسر بعضهم الوجه بالعبادة، وجملة وهو محسن حال من الضمير فى أسلم، والمراد بالإحسان التوحيد أو إتقان العمل، بأن يأتى به تاما ولا يشوبه بما يفسده، والأجر الذى له عند ربه ثواب إسلامه وجهه وتوحيده وإحسانه فى عمله يحفظه الله تعالى له لا يضيعه ولا ينقصه، بل يربو عنده وهو ما يكون له فى الجنة وما يفرح به عند الموت والقبر والبعث والمحشر. { ولا خوف عليهم } عند الموت وفى القبر ويوم القيامة. { ولا هم يحزنون } فى ذلك على شئ من الدنيا ولا على ترك الإيمان والأعمال لأنهم قد آمنوا وعملوا الصالحات.
[2.113]
{ وقالت اليهود ليست النصارى على شئ } أى على شئ معتد به، أو على شئ مصيب، أو صالح، أو على شئ يقبله الله، أو على شئ من الحق أو نحو ذلك، فحذف النعت وبقى المنعوت لأنهم على كل شئ، ولا بد لكن بشئ فاسد. وكذا فى قوله { وقالت النصارى ليست اليهود على شئ } وفائدة حذف النعت المبالغة فى اللفظ، لكون ظاهر اللفظ أن كل فريق نفى أن يكون الآخر على شئ أصلا معتد به أو غير معتد، وكان حالهم التى عليها معدومة، كفرت اليهود بعيسى عليه السلام والإنجيل، وقالوا، وهم أحبار يهود خيبر، للنصارى وهم وفد نجران لستم على دين الله، وكفرت نصارى نجران بموسى عليه السلام وبالتوراة وقالوا لليهود لستم على دين الله تعالى، وتناظروا حتى ارتفعت الأصوات عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية { وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ }. { وهم يتلون الكتاب } الجملة حال من اليهود والنصارى، أى قالت اليهود ما قالت، وقالت النصارى ما قالت، والحال أن الفريقين يقرءون الكتاب المنزل فى صدق موسى وعيسى والتوراة والإنجيل ومحمد والقرآن، وذلك على التوزيع فإن التوراة فيها تصديق عيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وأن الإنجيل فيه تصديق التوراة وموسى والقرآن ومحمد، وفى الكتاب ما يعلمون به أنهم كلهم على الباطل، وأن المحق محمد وأتباعه لأنهم صدقوا التوراة والإنجيل وموسى وعيسى والقرآن، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، فأل فيه للجنس الصادق بكتابين، والضمير فى { وهم يتلون الكتاب } لليهود والنصارى، فاليهود تتلوا التوراة وفيها تصديق عيسى والإنجيل، والنصارى تتلوا الإنجيل وفيه تصديق التوراة وموسى، فتكذيب كل فريق بنبى الآخر وكتابه ومخالفة لكتاب نفسه ونبيه، فعنفهم الله عز وجل على الكذب والمخالفة، فإن التوراة حق يجب على النصارى العمل بما لم ينسخ منها. والإنجيل حق يجب على اليهود العمل بما نسخ منه بعض التوراة، وترك العمل بالمنسوخ منها، ويجب عليهم جميعا وعلى جميع بنى آدم والجن العمل بما فى القرآن ، وترك العمل بما نسخه القرآن من التوراة والإنجيل. وقيل المراد بالكتاب هو التوراة لأن النصارى تقرؤها وتمتثل بعضها، وتخطئة اليهود للنصارى والنصارى لليهود قديم من زمان عيسى عليه السلام إلى الأن، وما بعد. ولكن نزلت الآية عقب مناظرتهم عند رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } كذلك متعلق يقال بعده، أو بمحذوف نعت لمصدر محذوف ناصبه، قال بعده أى قولا ثابتا كذلك القول. أو الكاف اسم مضاف نعت مصدر محذوف، أى مثل ذلك القول. أو اسم مضاف مفعول به لقال، والإشارة على الأوجه الأولى إلى القول بالمعنى المصدرى، وعلى الوجه الآخر إلى القول بمعنى المقول أو إلى المتقول، ومثل قولهم مفعول به على الأوجه الأولى، ومفعول مطلق على الوجه الآخر، أو بدل من الكاف أو بيان، والذين لا يعلمون مشركو العرب وعابدو الأصنام، وجاحدوا الله عز وجل وغيرهم، لأنهم لا يتلون الكتاب فهم لا يعلمون، والهاء فى قولهم لليهود والنصارى، أى قال غير اليهود والنصارى مثل قولهم إنا نحن الصيبون دون غيرنا، فكل أهل دين يضللون من خالفهم، فدخل العرب فى ذلك فإنهم قالوا ليس دين محمد شيئا، وضللوا أيضا أهل الكتاب، وأما محمد وأتباعه فهم يعلمون ويعملون بمقتضى علمهم، فهم أهل الصواب، ويقولون بإصابة كل من كان على الملة الحنيفية، وكذا المسلمون فى كل أمة يقولون بإصافة من كان عليها، وقيل المراد فى الآية مشركو العرب، وقيل أمم كانت قبل اليهود والنصارى كقوم هود ولوط ونوح وصالح وشعيب، قالوا فى أنبيائهم ومن تبعهم أنهم ليسوا على شئ.
{ فالله يحكم بينهم } أى بين اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، ومن قال له الذين لا يعلمون مثل قول اليهود والنصارى، لأن من قال له الذين لا يعلمون، ولو لم يجر لهم ذكر، لكنهم معلومون من قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } ويحتمل عود الضمير لليهود والنصارى، أى يقضى بينهم بإدخال المحق الجنة والمبطل النار، ووجه تخصيصهما زيادة التوبيخ إذ نظمنا أنفسهما فى سلك من لا كتاب له يتلوه فقالا قوله وفعلا فعله. { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من أمر الدين، فالمحق من اتبع من اليهود والنصارى ما لم ينسخ والناسخ من الإنجيل والقرآن، والمبطل من خالف ذلك. وكذا الأمم السابقة محقها من اتبع ما لم ينسخ من كتبهم والناسخ، ويحتمل أن يكون المعنى يحكم بينهم لكفرهم بمجازاة كل مما يليق به من العذاب، وأن يكون المعنى يحكم على كل بالتكذيب وإدخال النار، كما إذا جاء خصمان مبطلان إلى القاضى فى شئ كل يدعيه، فتبين أنه ليس لهما بل سرقاه فنفاه عنهما وسجنهما ومكن الشئ لصاحبه، كذلك يثبت الله الحق لسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وأتباعه ويثيبهم الجنة ويكذب اليهود والنصارى ومن خالف الحق ويخزيهم، ثم رأيت الحسن البصرى جرى على هذا الاحتمال.
[2.114]
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها } أى لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بتلاوة كتابه والصلاة والتسبيح والاستغفار، فإن القرآن وسائر كتب الله والصلاة والتسبيح والاستغفار لا تخلو من ذكر اسم من أسماء واجد الوجود سبحانه وتعالى، والآية بلفظها تشمل كل من هدم مسجدا أو مصلى أو منع الناس من دخوله أو من العبادة فيه جهارا، أو فعل فيه ما ينفر عنه الناس كغيبة المسلمين فيه والحمية فيه، والركون فيه إلى الباطل والتلبيس على العوام ومن لا بصيرة له، فإن خراب المسجد أو المصلى كما يكون بهدمه، يكون بترك عمارته. والاستفهام بمعنى النفى كما رأيت، وليست مجردة عن الاستفهام بالكلية، فإن المراد الاستفهام التوبيخى أو التقريرى المشوب بالنفى، ومصدر يذكر مفعول ثان لمنع أو على تقدير من الجارة، أى من أن يذكر فيها اسمه، أو بدل اشتمال المساجد، والرابط ها من قوله فيها، فإن ذكر اسم الله تعالى فيها ملابس لها بغير الجزئية أو الكلية، أو مفعول لأجله على حذف مضاف، أى كراهة ذكر اسمه تعالى فيها. قال الكلبى والآية نزلت فى النصارى قبحهم الله لما طرحوا الأذى فى بيت المقدس ومنعوا الناس أن يصلوا فيه وغزوا أهله وخربوه وأحرقوا التوراة، وقتلوا أهله وسبوا وغنموا. وقيل فى مشركى العرب لما منعوا النبى، صلى الله عليه وسلم، من إظهار دينه فى المسجد الحرام والصلاة فيه، ويؤذونه إذا فعل ذلك، وكذا أتباعه رحمهم الله قبل الهجرة ومنعوهم بعدها عام الحديبية من الحج ودخول مكة والمسجد الحرام، وبه قال ابن زيد. وقيل نزلت فى ذلك كله فعلة النصارى وفعلة العرب. وروى أن طوس الرومى غزى بنى إسرائيل فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم وأحرق التوراة وخرب بيت المقدس، فلم يزل خرابا حتى بناه المسلمون فى زمان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وهذا هو عين القول الأول وفيه بيان سلطانهم واسمه. وقيل إن بخت نصر المجوسى البابلى هو الذى غزا بنى إسرائيل وخرب بيت المقدس، وأعانه النصارى على ذلك من أجل أن اليهود قتلوا يحيى بن زكريا، ونزلت الآية فى ذلك، ورجح ابن جرير الطبرى القول الأول وهو تفسيره مجمع على حسنه واعتباره. قال إن النصارى هم الذين سعوا فى خراب بيت المقدس، بدليل أن مشركى العرب لم يسعوا فى خراب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى بعض الأوقات من الصلاة فيه، وأيضا الآية التى قبل هذه وبعدها فى ذم أهل الكتاب، ولم يجر لمشركى العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام.
انتهى. قلت يبحث فى كلامه بأن المشهور أن العمدة فى خراب بيت المقدس هو بختنصر وجنوده، لا النصارى، وإنما النصارى أعانوه إعانة لما رأوه مشمرا لذلك، فإنما يحسن أن تنزل الآية فيمن هو العمدة لا فيمن هو تبع، فإذا صرنا إلى التخصيص قلنا إنها نزلت فى بختنصر وجنوده، ومن أعانهم من النصارى. وإلا فالأولى أن يقال الآية نزلت فى بختنصر وجنوده ومن أعانهم من النصارى، وفى مشركى العرب وفى طوس الرومى وجنوده، إذ خرب بيت المقدس، وقتل وسبى وغنم، بعدما عمره اليهود من تخريب بختنصر، اللهم إلا أن يقال نزلت فى النصارى ولو كان العمدة بختنصر وجنوده توبيخا لهم، لأنهم أهل كتاب، كما روى عن مجاهد أنهم النصارى أعانوا بختنصر على خراب بيت المقدس، ويبحث أيضا فى كون مشركى العرب ساعين فى منع المسجد الحرام وخرابه أنهم منعوا منه أفضل الرسل وخاتمهم وأشياعه قبل الهجرة وبعدها، فإن عمارتهم إياه غير عمارة لشركهم وأقدارهم ولو لم يمنعوه أو لم يؤذوه على عمارته إلا مرة كان سعيا فى خرابه، لأنه رسول خاتم الرسل والأنبياء، ولأن منعه منع للأمة كلها، ويبحث أيضا بأن ما قبل هذه الآية ليس خاصا بأهل الكتاب، فإن العرب مذكورة بقوله عز وجل
كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم
وما بعدها ليس متعينا فى أهل الكتاب، بل محتمل كما سترى. ورجح بعضهم أن الآية نزلت فى مشركى العرب بأن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود، وكيف يسعون فى خرابه وهو موضع حجهم، ويبحث فيه بأن يقول صاحب هذا القول بأن الآية نزلت فى النصارى الخاربين له لا فيمن يعظمه، ففى رواية عن ابن عباس وغيره أن المراد النصارى الذين يؤذون من يصلى فى البيت المقدس. وصحح ابن العربى القول بأن المراد فى الآية كل من منع مسجدا من مساجد الله، قال لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال، يعنى أنه ليس لنزول الآية سبب مخصوص كلفظها عام ونزولها عام، ثم إذا بنينا على أنها نزلت لمانع ومسجد مخصوص كالنصارى وبيت المقدس كان ينبغى أن يراد بمن منع مساجد الله العموم لا خصوص أولئك النصارى مثلا. وإن قلت كيف يصح أن يقال مساجد الله إذا أريد بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت عبر بالعموم ليفيد الحكم العام، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحا ما جزاء من يؤذى الصالحين؟ وكما قال تبارك وتعالى
ويل لكل همزة لمزة
Bog aan la aqoon