وقيل يجوز. وصححه ابن السيكى والمحلى قائلا لا نسلم لزوم دوام القياس بدوام نصه كمالا يلزم دوام حكم النص، فإنه يزول بالنسخ يعنى فإذا كان النص لا يدوم حكمه لأنه ينسخ فالقياس أولى بعدم الدوام، ومثل الصبان لنسخ القياس الموجود فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، بنص بأن يرد نص فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، بتحريم الربا فى الذرة فيقاس عليها الأرز، ثم يأتى نص بجواز الربا فى الأرز، ومثل نسخه بالقياس بأن يرد بعد النص على تحريم الربا فى الذرة المذكورة، وقياس الأرز عليها نص آخر بجواز الربا فى البر، فيقاس عليه الأرز فيكون الحكم الثابت للأرز بقياسه على الربا ناسخا للحكم الثابت له بقياسه على الذرة، وبشرط نسخ القياس الموجود فى زمانه صلى الله عليه وسلم بالقياس أن يكون القياس الناسخ أجلى من القياس المنسوخ عند العجز لانتفاء المرجح فى المساوى، وأجازه الآمدى بالمساوى، لأن تأخير نسخ القياس الناسخ مرجح، إذ لا بد من تأخر نص القياس عن نص القياس المنسوخ بالقياس، وعن النص المنسوخ بالقياس، ولا ينسخ بالأدنى لانتفاء المقاومة فضلا عن الترجيح، وفسر الزركشى الأجلى بأن تكون الأمارة الدالة على عليه المشترك بين الأصل والفرع، وذلك كقياس الأرز على الذرة وعلى البر، فإن قياسه على البر أجلى من قياسه على الذرة لذلك، ويشكل هذا الشرط بما تقدم من أن القياس ينسخ النص الأقوى، لكن الإشكال عند القائل بنسخ النص بالقياس إلا أن يشترط هنا كون العلة مستنبطة، وثم كونها منصوصة، فتكون منصوصيتها ثم مقابلا للجلاء هنا، ورجح بعضهم مذهب الآمدى بأن الناسخ فى الحقيقة هو النص الذى استند إليه القياس، والنص ينسخ المساوى إذا تأخر عنه ويبحث بأن النص ينسخ الأجلى إذا تأخر عنه أيضا مع عدم نسخ القياس الأدون جزما فالترجيح المذكور لا يتم فلا يكفى الأدون جزما.
وقال ابن القاسم فى الآيات البينات عدم كفاية الأدون سواء كان مجزوما به أم لا، مشكل لأن القياس بمنزلة النص، ولذا صح نسخ به، والنص يجوز أن يسنخ نصا آخر، أو إن كان النص ناسخا دون النص المنسوخ متنا ودلالة مثل أن يكون المنسوخ قطعى المتن واضح الدلالة، والناسخ ظنى المتن خفى الدلالة، فكذا ما هو بمنزلته، ويجاب بأنه ليس بمنزلته من كل وجه لأن النص مطلقا دال على الحكم بخلاف القياس، إذ لا دلالة له على الحكم إلا بواسطة العلة وهى تحتمل الخطأ لفوات شئ من متغيراتها احتمالا قريبا، وهذا الاحتمال قوى جدا فى الأدون، فلا يقوى على نسخ الأعلى، ومن هنا يظهر وجه المنع فى المساوى أيضا، فإنه لا مرجح حينئذ لأحد القياسين على الآخر مع احتمال الخطأ فيه احتمالا قريبا بخلاف الأجلى لوجود المزية مع ضعف احتمال الخطأ فيه. والله أعلم. ويجوز نسخ مفهوم الموافقة الذى هو أولى بالحكم والذى يساوى المنطوق، وبقاء المنطوق، ويجوز نسخ المنطوق وبقاء المفهوم، لأن المفهوم وأصله وهو المنطوق مدلولان متغايران فلا مانع من نسخ أحدهما وبقاء الآخر، كما لو نسخ تحريم ضرب الوالدين وهم المفهوم، ولم يحرم قول أف وهو المنطوق أو بالعكس، ولا مانع من أن يقول ذو العرض الصحيح لا تشتم زيدا ولكن اضربه. ولا لزوم بينهما حقيقيا فلا ارتباط بينهما عقلا فضلا عن أن يمتنع رفع أحدهما دون الآخر، ولو سلم فالمنافى للزوم إنما هو نسخ اللازم دون الملزوم لتضمنه وجود الملزوم بدون اللازم، وهو محال.
بخلاف العكس، إذ لا يمتنع وجود اللازم بدون الملزوم، حيث لم يكن مساويا ملزومه كالمثال بخلاف اللازم المساوى وهو المتحد مع ملزومه ما صدقا، فإنه يلزم من نفى الملزوم نفيه كقبول العلم والكتابة للإنسان، فبطل قول من قال إنه لا ينسخ المفهوم، ويبقى الأصل ولا العكس، مدعيا أنه لازم لأصله، وقيل يمتنع نسخ المفهوم مع بقاء الأصل، واختاره ابن الحاجب لامتناع بقاء الملزوم وهو هنا الأصل وهو المنطوق مع نفى اللازم، وهو المفهوم هنا بخلاف نسخ الأصل، وبقاء المفهوم لجواز بقاء اللازم مع نفى الملزوم، وقيل يجوز نسخ الأصل وبقاء المفهوم، واتفقوا على جواز نسخ المفهوم والأصل معا. ويجوز النسخ بالمفهوم اتفاقا على ما قال الفخر والآمدى، وقال أبو إسحاق الشيرازى إنه قد قال بعض بالمنع بناء على أنه قياس وأن القياس لا يكون ناسخا، ومثال النسخ بالمفهوم أن يقال اضربوا آباءكم، ثم يقال لا تقولوا لهم أف، وأكثر العلماء أن نسخ المفهوم أو أصله يستلزم نسخ الآخر، لأن المفهوم لازم لأصله وتابع له، ورفع اللازم وهو هنا المفهوم يستلزم رفع الملزوم، وهو هنا المنطوق ورفع المتبوع لا يستلزم رفع التابع، والمنطوق متبوع والمفهوم تابع، وقيل لا يستلزم نسخ واحد منهما الآخر، لأن رفع التابع لا يستلزم رفع المتبوع، ورفع المتبوع لا يستلزم رفع اللازم، واختاره ابن السبكى. وقيل نسخ المفهوم لا يستلزم نسخ المنطوق، لأنه تابع، ونسخ المنطوق يستلزم نسخ المفهوم، وقيل عكس هذا لأن المنطوق ملزوم واختاره ابن الحاجب، ويجوز نسخ مفهوم المخالفة مع المنطوق، ومع بقاء المنطوق لا نسخ المنطوق مع بقائه، لأنه تابع للمنطوق فيرتفع بارتفاعه، ولا يرتفع المنطوق بارتفاعه، وقد يبحث بأنه يتبع المنطوق فى الدلالة فقط لا فى الثبوت، والدلالة باقية قطعا فإن دلالة اللفظ لا تزول بنسخ حكمه، ولو سلم زوال الدلالة فلا يلزم من زوالها زوال المدلول، ولا سيما بعد فهمه من الدال وثبوته، ويبحث أيضا بأن مفهوم الموافقة تابع للمنطوق فى الثبوت بمثل الطريق الذى بين به تبعية مفهوم المخالفة لأصله، وقيل يجوز نسخ المنطوق مع بقاء مفهوم المخالفة، وتبعيته للمنطوق إنما هى من حيث دلالة اللفظ على مفهوم المخالفة مع المنطوق، ولا من حيث ذات المنطوق ودلالة اللفظ على حكم المنطوق لم ترفع، وإن ارتفع الحكم بدليل منفصل، ويجاب بأنه متى ارتفع تعلق حكم المنطوق سقط اعتبار دلالة اللفظ عليه، فسقط ما يترتب على اعتبارها من فهم الحكم، ويبحث فى هذا الجواب بأنا لا نسلم سقوط اعتبار الدلالة، بل يجوز اعتبارها، وفائدة اعتبارها إفادة حكم المفهوم بل لو سلمنا سقوط اعتبارها لم يضرنا، لأن الذى قلناه هو التبعية فى الدلالة لا فى اعتبارها، ولا يلزم من سقوط الدلالة سقوط نفسها، وفهم الحكم مترتب على نفسها لا على اعتبارها، وغاية ما يدفع الإشكال الفرق بأن مفهوم الموافقة أقوى من مفهوم المخالفة، لأنك إن قلت إنه منطوق كما هو قول ظاهر، لأنه حينئذ مدلول مطابقى ولا تبعية له لشئ، وإن قلت إنه قياس كما هو قول فيكفى فى الدلالة على أنه أقوى أنه قيل بأنه منطوق دون مفهوم المخالفة، ولأنه مفهوم من العلة لا من مجرد الأصل، فله من الاستقلال ما ليس لمفهوم المخالفة، فجاز نسخ الأصل مع بقائه، والأصل أعنى به المنطوق، وإن لم يجز نسخ المنطوق دون مفهوم المخالفة، ذكر ذلك ابن قاسم قال ومع ذلك فالأوجه التسوية فى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، كما أن الأوجه جواز النسخ بالمخالفة وفاقا لما صححه الشيخ أبو اسحاق، فليتأمل.
انتهى. ومثال نسخ مفهوم المخالفة دون المنطوق نسخ حديث إنما الماء من الماء، فإن مفهومه وهو عدم الغسل عند عدم الإنزال منسوخ، بحديث إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل، ومثال نسخ المنطوق ومفهوم المخالفة أن ينسخ على سبيل الفرض والتقدير وجوب الزكاة فى السائمة، وينسخ وجوب الزكاة فى المعلوفة، ففى الحديث
" فى الغنم السائمة زكاة "
ومفهوم المخالفة أنه لا زكاة فى غير السائمة، فلو نسخ الحديث والمفهوم لقيل مثلا لا زكاة فى السائمة ووجبت الزكاة فى غير السائمة، أو نحو ذلك من الألفاظ، ولا يجوز النسخ بمفهوم المخالفة لضعفه عن مقاومة النص، وصحح أبو إسحاق الشيرازى الجواز لأنه فى معنى النطق، ويجوز نسخ الإنشاء ولو كان لفظ القضاء وما يتصرف منه، فإن قول الله جل وعلا قضيت كذا إخبار أريد به الإنشاء، وكأنه قيل افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا. وقيل لا ينسخ من الإنشاء ما كان بلفظ القضاء، وما تصرف منه لأن لفظ القضاء إنما يستعمل فيما لا يتغير حكمه نحو
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
أى أمر فإنه لا ينسخ إلى جواز عبادة غير الله، وقد لا نسلم أن لفظ القضاء لا يستعمل إلا فيما يتغير حكمه، إذ لا مانع من أن يقال قضى الله كذا إلى وقت كذا، فيجوز أن يقول قضيت كذا ثم بعد ذلك يبطله، فيكون بمنزلة قضيت كذا إلى وقت كذا، وتقدم أنه يجوز نسخ ما هو إنشاء، ولفظه خبر كما لو فرض نسخ قوله تعالى
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
ومثل الشيخ خالد صاحب التصريح بقوله تعالى
Bog aan la aqoon