واليهود خمس فرق فرقة لم يصلهم خبر بعثه، صلى الله عليه وسلم، فهو معذور إن عمل بالتوراة عند بعضنا وعند إنكار قومنا، وغير معذور عند الباقين، وفرقة آمنوا وعملوا بما معه لما وصلهم خبر بعثه، وفرقة كفروا به فى الجهر تمردا وفسوقا، وفرقة لم يجهروا بهذا ولكن جهلهم نفس الكفر، وفرقة علموا أنه رسول وجحدوا بألسنتهم، وكذا الكلام فى نبذ التوراة، ومن جهل نزول التوراة وغيرها، وكان على شريعة من الله فهو معذور على ما مر.
[2.102]
{ واتبعوا ما تتلوا } لحكاية الحال الماضية، فالمضارع للحال تنزيلا لا تحقيقا، والأصل أن يقال ما تلت. { الشياطين } عطف على جملة نبذ فريق، أى نبذوا كتاب الله واتبعوا كتاب السحر التى تقرؤها شياطين الإنس والجن، ويجوز أن يكون تتلوا بمعنى تتبع، أى اتبعوا ما تتبع الشياطين من السحر شياطين الإنس والجن، وبه قال ابن عباس. وقيل تتلوا تفترى وتكذب، وقيل فصلوا، ويترجح كون الشياطين شياطين الجن. قالوا من كتب { واتبعوا } إلى قوله { يعلمون } فى طست من نحاس أحمر طاهر الجسم والثياب وبخرها بلبان، ومحاها بالماء وشربها فى بيت، بطل ما به وزال عنه، وإن كتبت سحرا فى أربع أوراق زيتون ودفنت فى أربعة أركان البيت الذى فيه البق مات، ومن كتبها فى إناء وغسلها بماء كرفس وشربها على الريق نفعت من نزف الدم ووجع الأرياح. { على ملك سليمان } أى على عهده وذلك أن الشياطين دفنوا كتب السحر تحت كرسيه ومصلاه وبيت خزانته حين نزع ملكه، وتأتى قصة نزعه ورده فى محلها، وقيل قبل نزعه ولم يشعر بذلك وقرءوه واتبعوه ورسموه على لسان آصف كذبا عنه، هذا ما علم آصف بن برخيا من خزانة بيت المقدس سليمان الملك، ولم يشعر سليمان بذلك، وقيل كانت الشياطين تسترق السمع، بل تدخل السماء وتضم إليه الأكاذيب كلمة بمائة كذبة، وقيل سبعين وتلقيه إلى الكهنة فيكتبونه، وفشا ذلك وشاع بيان أن الجن تعلم الغيب، واشتغلوا بالسحر وكتبوه، روى الحاكم عن ابن عباس كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدونونها، فجمع سليمان الكتب ودفنها تحت سريره، وقال لا أسمع أحدا يقول إن الجن يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها. وروى أن إبليس دلهم عليها تحت كرسيه، وهو بصورة رجل من الإنس وقعد بعيدا، وقالوا له ادن، فقال إنى صادق ولا أدنو ولكن احفرا فإن لم تجدوا فاقتلونى، وسبب تباعده أنه لا يدنو من كرسيه شيطان إلا احترق وهذا ينافى ما ذكر من أنه الشياطين دفنوها تحت كرسيه فوجدوا فيها السحر والشرك، فقالوا إنما ملككم سخرت له الجن والإنس والريح والدواب والطير بهذا فتعلموه ورفضوا كتب أنبيائهم، وأنكر عليهم صلحاؤهم وقالوا معاذ الله أن يكون هذا العلم من علم سليمان، وفشت الملامة لسليمان فكان بعضهم يبرئ منه سليمان، وبعض ينسبه لسليمان، ويقول إنه ساحر ويلومه قبل رجوع ملكه وبعده فى نفسه، ومع صاحبه وشاع، وبعض كان يقبله ويعلم أنه سحر ولا يسبه به حتى قالت السحرة من اليهود أخذنا السحر عن سليمان، وأنه كان خيرا منا يتعلم ما تعلمنا، ويفعل ما نفعل، ولذلك كان أكثر ما يوجد السحر فى اليهود، قال بعض اليهود فى زمان رسول الله، صلى الله عليه وسلم انظروا إلى محمد يذكر سليمان فى الأنبياء وما هو إلا ساحر، فنزل قوله تعالى رد عليهم { وما كفر } ما عمل كبيرة شرك ولا كبيرة دونه.
{ سليمان } بالسحر أى لم يعمل السحر ولم يعلمه فضلا عن أن يكفر به، وكان مقتضى الرد أن يقول وما عمل سليمان السحر، ولكن قال بدل ذلك { وما كفر } إيذانا بأن السحر كفر، وبأن من كان نبيا معصوم عنه إذ كان كفرا. { ولكن الشياطين } بالتشديد والفتح فى لكن، ونصب الشياطين وكذا التشديد فى قوله تعالى { ولكن الله قتلهم } ، { ولكن الله رمى } وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائى بكسر النون مخففة، ورفع ما بعدها، وقرأ الحسن الشياطون بالواو وفتح النون، لأن من العرب من يعرب مثل ذلك كجمع المذكر السالم وهو مخفف لنون لكن، وسمع بستان فلان حوله بساتون. { كفروا } بتعلم السحر للعمل به وتعلمه وكفرا يعم الشرك وما دونه، فإنما كان من السحر مناقضا للتوحيد أو النبوة أو الرسالة أو الوحى شكر كاعتقاد أن الكوكب هو المؤثر كما يدل له حديث مسند الربيع أصبح من عبادى مؤمن وكافر، أو إن فعله مؤثر بنفسه لا بالله، عز وجل ما كان غير ذلك فكبيرة دون الشرك، وأما تعلمه لا للعمل به، فقيل مكروه وقيل حرام وقيل حلال وقيل إن تعلمه ليعمل به فحرام أو ليتوقاه فمباح وإلا فمكروه، بل تعلمه لئلا يغتر به، أو ليتوقاه يكون عبادة إذا أحتاج إلى ذلك، وعن أبى حنيفة وأحمد ومالك يكفر بتعلم السحر وبتعليمه، وقال بعض الحنفية إن تعلمه ليجتنبه لم يكفر، وإن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفع كفر، وإن اعتقد أن الشياطين تفعل للساحر ما يشاء كفر، وعن الشافعى من تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر كفر، مثل ما يعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها وإلا فلا، إلا أن اعتقد إباحة السحر، ولفظ الكفر شامل لذلك، وليس من استعمال الكلمة فى معنييها، لأن الكفران موجود فى الشرك وفى الكبيرة التى دونه جميعا. { يعلمون الناس السحر } هذا تبيين لسبب وصفه إياهم بالكفر، وهو تعليم السحر وهو سبب ظاهر يتضمن سببا آخر، وهو تعلمه، فإن تعليمك الشئ فرع علمك أو تعلمك، ويراد بالشياطين شياطين الإنس والجن كما مر، وتترجح كونهم شياطين الجن، ويجوز أن يراد هنا بالشياطين اليهود المعنيون بقوله { واتبعوا }. وإن قلت فما تعليم الجن للسحر، قلت كتابتهم إياه، فإن الكتابة تعليم لقارئها وسامعها ووسوستهم أيضا به فى الصدور، ومشافهتهم أيضا، والجملة حال من واو كفروا أو مستأنفة.
وإنما يتم السحر بالتقرب إلى الشياطين، ولا يتصور ممن ليست نفسه شريرة خبيثة، فإن فعله لم يتم له، ومثل ذلك عين المعيان واستخدام الجان والتصرف بالأعمال معهم لا يتم بالعمل فى الأسباب لمن ليست نفسه كذلك، أما استخدامهم والتصرف بالتقوى فكثير واقع مثل ما وقع لإمام العلم والدين الشيخ أبى عبدالله محمد بن بكر رحمه الله وغيره من أصحابنا رحمهم الله، قال القاضى المراد بالسحر ما يستعان فى تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستقيم إلا لمن يناسبه فى الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط فى التضام والتعاون، وبهذا يميز الساحر عن النبى والمولى. انتهى وذلك ما فيه تخييل غير الموجود موجود، أو تخييل موجود غير موجود، وتخييل قلب الأعيان وما يمرض أو يميت أو يجن ونحو ذلك، وأما ما يكون بحدة الفطنة والفكر والتخييل مع معونة الآلة والأدوية والعقاقير وخفة اليد، فليس بالسحر المذموم شرعا، ولكن سحرا حقيقا فى اللغة، لأن السحر فيها كلما دق من أعلم أو علم أو عمل وخفى سببه، ومن ذلك سحر سحرة فرعون رضى الله عنهم، لأنهم طلوا خشبا وعصيا وحبالا بالزئبق وأدخلوه فيها فتحركت بالزئبق بواسطة حرارة الشمس، فتسمية مثل هذا سحرا بالنظر إلى اللغة، وإنما كفروا قبل التوبة بمكابرة موسى بذلك، وقيل تسمية ما كان كذلك سحرا مجازا، وليس كما قيل إلا إن أراد أنه مجاز شرعا، فإن السحر لغة هو ما تقدم من العلم أو العمل الدقيق الخفى، وزعم شيخ الإسلام عن روضة النووى وغيرها من كتب النووى أن ذلك النوع مذموم محرم، وليس كذلك فإن مراد النووى غير ما ذكر، وإنما يحرم إن قارنه إيهام أنه سحر أو نحو ذلك من المحرمات، ويطلق لغة أيضا على إلا زالت، وصرف الشئ عن وجهه تقول العرب ما سحرك عن كذا، أى ما صرفك، وذلك معنى حاصل فى السحر المحرم، وعرف بعضهم بأنه عبارة عن التمويه والتخييل، وليس بجامع لأنه لا يشمل سحرا سحر التمريض والإجنان والإمامة إذا كان بلا تخييل، وقيل السحر علم بكيفية استعداد تقتدر بها النفوس البشرية على ظهور التأثير فى عالم العناصر، أى فى نوع الطبائع، والصحيح أن السحر حق بمعنى أنه شئ ثابت يكون سببا فى المضرة والتخيل، وخالق المضرة والتخييل هو الله هل من خالق غير الله، وقد بسطت الكلام على ذلك فى تحفة الجب فى أصل الطب، ويدل لذلك حديث سحر اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مذهبنا ومذهب الشافعى وأحمد ومالك، وزعم أبو حنيفة أنه لا حقيقة له ولا تأثير فى الجسم، وبه قال أبو جعفر الأشتراباذى من الشافعية وهو حرام. قال صلى الله عليه وسلم،
" اجتنبوا السبع الموبقات " قيل يا رسول الله وما هن؟ قال " الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنى والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "
رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة. وفى الحديث
" اقتلوا الساحر "
وروى جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال
" حد الساحر ضربه بالسيف "
Bog aan la aqoon