ومن الالتفات أن تذكر معنى فتتوهم أن السامع اختلجه شئ، فتلتفت إلى كلام تزيل به اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك، كقول ابن ميادة
فلا صرمه يبدو وفى اليأس راحة ولا وصله يصفو لنا فنكارمه
كأنه لما قال فلا صرمه يبدو قيل له ما تصنع به؟ فأجاب بقوله وفى اليأس راحة، ذكر السعد ذلك، والواضح عندى إنما ذكر بعد التفات السكاكى يختص بالبديع، وليس من التفات فن المعانى ولو ذكره بعد، وفائدة الالتفات التفنن فى الكلام والنظرية له وتنشيط السامع وإيقاظه للإصغاء إليه، وذلك موجود فى كل التفات، وقد يختص مواقعه بلطائف أخر، كما فى هذه السورة الكريمة فاتحة الكتاب، فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد عن قلب حاضر، يجد من نفسه محركا للإقبال على ذلك الحقيق بالحمد سبحانه، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام قوى ذلك المحرك إلى أن يؤول الأمر إلى خاتمتها، وهى قوله { مالك يوم الدين } المفيدة أن ذلك الحقيق بالحمد مالك للأمر كله فى يوم الجزاء أو لنفس اليوم، فحينئذ يوجب ذلك المحرك لتناهيه فى القوة والإقبال على ذلك الحقيق بالحمد، والخطاب بتخصيصه لغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات. ذكر الخطيب القزوينى ذلك، قال السعد فى شرحه المطول والمعنى يوجب ذلك المحرك أن يخاطب العبد ذلك الحقيق بالحمد بما يدل على تخصيصه، بأن العبادة وهى غاية الخضوع والتذلل له لا لغيره، وبأن الاستعانة فى جميع المهمات منه لا من غيره وتعميم المهمات مستفاد من إطلاق الاستعانة، والأحسن أن تراد الاستعانة على أداء العبادة، ويكون اهدنا بيانا للمعونة ليلتئم الكلام، وتكون العبادة له لذاته لا وسيلة إلى طلب الجوانح والاستعانة فى المهمات، فاللطيفة المختص بها موقع هذا الالتفات، هو أن فيه تنبيها على أن العبد إذا أخذ فى القراءة يجب أن تكون قراءته على وجه يجد ذلك المحرك من نفسه، هذا الذى ذكره المصنف - يعنى القزوينى - جار على طريقة المفتاح، وطريقة الكشاف هى أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء والعبادة، فالتفت وخوطب المعلوم المتميز، فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لأجل ذلك التمييز الذى لا تحق العبادة إلا به ، لأن المخاطب أدخل فى التمييز وأعرق فيه، فكان تعليق العبادة له تعليق بلفظ المتميز ليشعر بالعلية، ويمكن أن يقال إن ازدياد ذكر لوازم الشئ وخواصه يوجب ازدياد وضوحه وتميزه والعلم به، فلما ذكر الله - جل وعلا - توجه النفس إلى الذات الحقيق بالحمد، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام ازداد ذلك، وقد وصف أولا بأنه المدبر للعالم وأهله، وثانيا بأنه المنعم بأنواع النعم الدنيوية والأخروية، لتنظم لهم أمر المعاش، ويستعد والأمر المعاد، وثالثا بأنه المالك لعالم الغيب وإليه معاد العباد، فانصرفت النفس بالكلية إليه لتناهى وضوحه وتميزه بسبب هذه الصفات، فخوطب تنبها على أن من هذه صفاته يجب أن يكون معلوم التحقق عند العبد متميزا عن سائر الذوات حاضر فى قلبه، بحيث يراه ويشاهده حال العبادة، وفيه تعظيم لأمر العبادة، وأنها ينبغى أن تكون عن قلب حاضر كأنه يشاهد ربه ويراه ولا يلتفت إلى ما سواه.
وذكر القاضى أن الله - جل وعلا - بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف من الذكر بالبسملة والحمدلة، ومن الفكر بقوله { رب العالمين } ومن التأمل فى أسمائه والنظر فى نعمه بقوله { الرحمن الرحيم } والاستدلال بصنائعه المشار إليه بقوله { مالك يوم الدين } على عظم شأنه وباهر سلطانه، ثم اتبع ذلك بما هو منتهى أمره وهو أن تخوض لحة الوصول إلى حقيقة معرفته انتهى بالمعنى. قال والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد أى مذلل، وثوب ذو عبدة بفتح العين والباء إذا كان فيه غاية الصفاقة، ولذلك لا تستعمل إلا فى الخضوع لله تعالى، والاستعانة طلب المعونة، وهى إما ضرورية أو غيرها، والضرورة ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة أو مادة يفعل بها فيها، وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورة تحصل ما تيسر به الفعل، ويسهل كالراحلة فى السفر للقادر على المشى أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا تتوقف عليه صحة التكليف، يعنى الصحة العقلية، وإلا فالصحة الشرعية قد تتوقف على تلك القدرة، فأكثر الواجبات المالية، وقوله ومادة يفعل بها فيها.. إلخ، ليس بضرورى فى مطلق الفعل، وإنما هو فى فعل يكون فى مادة والضمير بها للآلة وفى فيها للمادة والعبادة قسمان عبادة تسخير كما فى قوله تعالى
تسبح له السماوات السبع والأرض
وعبادة بالاختيار كقوله تعالى
ومن فيهن
باعتبار ما شملته من من العقلاء، فهذه الآية شاملة للقسمين فما تقدم هو للقسم الأول، وقوله
ومن فيهن
لهما، وذلك لأن من هذه مستعملة فى العاقل وغيره، وإن قلنا إنها استعملت هنا فى العاقل فقط فالآية أيضا شاملة لهما، وكما فى قوله
Bog aan la aqoon