Sidaasuu U Hadlay Nasr Abu Zayd
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
Noocyada
لكن الأمر أعقد من ذلك، «فكيف وبطالب الدين حاجة ماسة إليه» إلى معرفة المجاز «من جهات يطول عدها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفية يأتيهم منها، فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا أنهم يهتدون» يعني إنكار البلاغة كارثة معرفية، وعبد القاهر يضيف: وكارثة دينية؛ لأن طالب الدين في حاجة ماسة إلى معرفة المجاز، ويتكلم على أن الجهل بالمجاز مدخل الشيطان. هنا عبد القاهر الجرجاني في قلب تحويل البحث اللغوي والبلاغي إلى بحث لاهوتي؛ «وقد اقتسمه البلاء - مفهوم المجاز - من جانب الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرم بنفسه دفعة براءة، ويشمئز منه جملة من ذكره وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر - المعنى الظاهري بدون تأويل - لازم، وضرب الخيام حولها حتم واجب. وآخر يغلو فيه ويفرط ويتجاوز حده ويخبط فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو إليه» عبد القاهر غاضب من المفرطين الذين ينكرون وجود المجاز، وهو مفهوم تحتاج المعرفة الدينية إليه، ومن جانب المفرطين في وجهة نظر عبد القاهر الذين يبالغون في التأويل باستخدام المجاز.
طبعا هنا نفهم أن المفرطين هم الظاهرية، والمفرطون في نظر عبد القاهر هم المعتزلة. تكلمنا المرة الماضية عن المفرطين المعتزلة. اليوم سننظر إلى المفرطين: الظاهرية، وأنا هنا ألجأ إلى ابن القيم الجوزية توفي سنة 751 هجريا، فمع ابن القيم تمت صياغة المفاهيم الصياغة اللاهوتية النهائية. ابن القيم الجوزية تلميذ ابن تيمية. وكما نعرف أن ابن تيمية هو الذي صاغ المذهب الحنبلي صياغة لاهوتية وفلسفية ولغوية؛ لأن ابن حنبل لم يصغ هذه المفاهيم، والفقهاء الحنابلة بين ابن حنبل وابن تيمية لم يكونوا متعمقين في علم الكلام ولا في المعرفة، لكن يعود الفضل لابن تيمية وضع فلسفة المذهب الحنبلي في صيغتها النهائية على كل مستويات المعرفة.
ابن القيم تلميذ ابن تيمية. الإشكالية الأولى التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة إشكالية الكلام الإلهي قدم الكلام الإلهي وحدوث الكلام الإلهي، التي خاض فيها المعتزلة، قال: «قد علم بالاضطرار»، وأنا وضعت لها لونا آخر (بالاضطرار) «من دين الرسول
صلى الله عليه وسلم
أن الله تكلم حقيقة، وأنه تكلم بالكتب التي أنزلها على رسله كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها، وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء. فهذه الألفاظ التي تكلم بها وفهم عباده مراده منها لم يضعها سبحانه لمعان قصد بها في كلامه»، وهو مسألة نقل المعنى «إلا على أصول الجهمية والمعطلة الذين يقولون كلامه مخلوق من جملة المخلوقات». هنا نظرية اللغة في منشئها لم تستطع التحرر من هذا السياق اللاهوتي حول مشكلة كلام الله، هل كلام الله قديم أم محدث؟ وبالتالي هل اللغة هي وضع إلهي، أم أن اللغة هي وضع إنساني؟ طبعا المعتزلة وكثير من مفكري المسلمين حتى الأشاعرة ومنهم عبد القاهر كما سنرى، لم يكن يمكن لهم أن يتجاهلوا حقيقة تعدد الأوضاع اللغوية. بالتالي كان لا بد أن يفترضوا أن اللغة وضع إنساني وليست وضعا إلهيا. وضع إنساني أسموه «التوفيق»، يعني بتوفيق من الله في النهاية، لكن بجهد الإنسان، والظاهرية وابن القيم يقولون «بالتوقيف». هذا هو الفرق بين التوفيق والتوقيف بما أن اللغة وضع إلهي، إذن ليست اللغة قائمة على المواضعة والاصطلاح، أي إن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة ليس لها علاقة بالبعد الاجتماعي والثقافي.
ابن القيم الجوزية هنا كما رأينا في النص السابق قال «بالاضطرار»، يعني جعل هذه المعرفة التي هي معرفة لاهوتية مرتبطة بكلام الله جعلها معرفة اضطرارية. وهذا يتناقض مع إجماع نظرية المعرفة الإسلامية، وهو التمييز بين المعرفة الاضطرارية والتي هي البديهيات، وبين المعرفة النظرية. وضع ابن القيم كما يضع بعض المعاصرين لنا هذه المعرفة «معرفة اضطرارية» في اللغة المعاصرة يسمونها «المعلوم من الدين بالضرورة»، وبالضرورة والاضطرار شيء واحد.
وقال «إن الله تكلم حقيقة»، وهذه عبارة مخيفة؛ لأن الله تكلم حقيقة معناها أن الله سبحانه وتعالى يمتلك جهازا صوتيا لكي يتكلم حقيقة. يعني نحن نتكلم في القرن الثامن - الهجري - يعني لم يكن حتى الظاهرية والحنابلة القدماء يقولون هذه العبارات بهذا الشكل من البساطة. وأنا أتيت ابن القيم أحيل إلى ما يحدث في الخطاب المعاصر من هذه القضايا والأقوال. ابن القيم اعتراضه على مشكلة الاصطلاح والمواضعة قائم على افتراض ذهني، أنه اجتمع مجموعة من العقلاء؛ يعني كان فيه مجلس حدث، وقرروا أن كلمة طويل تدل على الرجل الطويل، وأن كلمة قصير تدل على الرجل القصير. طبعا هذا لم يحدث في اللغة. علماء اللغة يقولون المواضعة يقصدون أنه ليست هناك علاقة لا عقلية ولا منطقية ولا صوتية، بين الصوت وهو الدال، وبين المعنى وهو المدلول. عبد القاهر بعد هذا سيقول: «ولو كان العرب قالوا بدل قصير طويل»، لو قالوا طويل بدل قصير لأصبحت هذه مواضعة؛ أي إن العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة هي علاقة مواضعة اصطلاح اعتباطية. هنا ابن القيم الجوزية وكتابه اسمه «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة»، وهناك كتب أخرى بعنوان «الصارم البتار».
قضية اللغة الآن بصرف النظر عن الظاهرية والحنابلة ارتبطت في الفكر الإسلامي بشكل عام مع هذا الاستثناء، ارتبط بأن الوجود سلسلة من العلامات الدالة. ومن هذه السلسلة من العلامات يصل الإنسان إلى المعرفة، ما يسمى بمعرفة الشاهد. عند المعتزلة وعند الفلاسفة لا بد أن يبدأ الإنسان بمعرفة الشاهد، ثم يعرف الغائب بقياس الغائب على الشاهد. يصبح الوجود هو مناط الفكر، النظر في أدلة العالم توصل إلى المعرفة وهي الفكر. «الاستدلال نظر في الأدلة»، العالم يفضي إلى المعرفة الفكر، العالم الفكر.
اللغة تعبير عن المعرفة، فلا نستطيع أن ننظر إلى نظرية اللغة، دون أن نربطها بنظرية الفكر، دون أن نربط هذا. تصور الوجود عند علماء المسلمين.
النقطة الثانية: أن الفكر اللغوي والفكر البلاغي قبل عبد القاهر اعتمد على ما يسمى ثنائية «اللفظ والمعنى»، يعني هناك كلام كثير في تاريخ البلاغة العربية، أن هناك «من الكلام ما حسن لفظه وساء معناه، وما حسن معناه وساء لفظه، وأن الكلام البليغ هو ما حسن لفظه ومعناه» فيه ثنائية هنا يمكن أن تقول كلاما جميلا حسنا بعبارات غير حسنة، والعكس صحيح.
Bog aan la aqoon