Sidaas Ayaa La Abuuray: Sheeko Dheer
هكذا خلقت: قصة طويلة
Noocyada
ولبست حبرتي وبرقعي، وانتعلت حذاء عالي الكعب، وأخذت أخرج مع والدتي إلى الأسواق، وفي بعض زياراتها لصديقاتها فإذا هذا الشعور بالأنوثة يزداد في نفسي، وإذا حيويته تسرع إلى النماء أضعاف نموها قبل أن ألبس الحبرة والبرقع، ولعل ما شعرت به من اختلاف نظرة الرجال إلي في أثناء سيري مع والدتي عما كانت عليه قبل هذا الحجاب قد كان سببا في هذا التزايد السريع في نمو شعوري.
وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي، فكنت أقضي أمام المرآة زمنا أصلح في أثنائه من شأني، وألاحظ في أثنائه أدق التفاصيل في مظهري، فكنت أعنى حتى بالشعرات التي تخرج من تحت رأس الملاية ونظامها عنايتي بموضع البرقع من أنفي حتى يزيد في جاذبية نظراتي، ثم أعنى بانسدال الملاية على جسمي حتى تنم في دقة عن ميول قوامي وبارع اعتداله.
ولم يزعجني حديث والدتي عن نحافتي، فقد كنت أقرأ بعض المجلات والقصص الإنجليزية، فأرى فيها تصويرا للسيدات والأوانس النحيفات يشهد بجمالهن ويثير الإعجاب بهن، وكنت أقرأ مثل ذلك فيما تترجمه هذه المجلات عن الأدب الفرنسي. ليست النحافة إذن عيبا لذاتها، وإن أثار الجسم الناعم البض من المعاني المألوفة في مصر ما لم يكن يدور إذ ذاك بخاطري، ثم إنني رأيت في هذه المجلات والقصص حديثا عن جاذبية المرأة، وأنها ترجع إلى رقتها ودماثة طبعها وحسن حديثها، فأغراني ذلك بالعناية بهذه النواحي من أنوثتي أكثر من عنايتي بما أقاوم به نحافتي.
على أن شيئا من ذلك كله لم يصرفني عن صلواتي احتفاظا بمكانتي بين زميلاتي وأساتذتي في المدرسة، وإرضاء لشعور داخلي كان يتردد في أعماق وجداني بأن الزينة لا تخالف التقوى، وكم اغتبطت حين سمعت الشيخ الذي يتلو القرآن كل صباح جالسا في غرفة الانتظار بالطابق الأسفل من منزلنا يرتل:
خذوا زينتكم عند كل مسجد ، فقد ثبتت هذه الآية شعوري الداخلي، واطمأن لسماعها وجداني، فازددت عناية بزينتي كما ازددت حرصا على أداء فروض الله.
وازددت على الزمن شعورا بأن القراءة تتم الزينة، صحيح أنها ليست الزينة المادية التي تلفت النظر إلى أشخاصنا حين مسيرنا في الأسواق ودخولنا على صديقات والدتي، بل هي الزينة المعنوية التي تزيد نظراتنا ذكاء وجاذبيتنا فعلا في النفوس، لذلك أكببت على الكتب والمجلات التي كنت أستعيرها من مكتبة المدرسة، أو أشتريها من المكتبات، وشعرت لهذا الإكباب بلذة قوية كانت تأخذني عن نفسي، وتصرفني عن كل ما سواها، وإن جلبت علي في كثير من الأحيان لوم والدتي خوفا على عيني، وإشفاقا منها أن تصرفني القراءة عن الاضطلاع بواجبات الفتاة والمرأة في العناية بأمور المنزل وحسن تدبيره.
وخشي والدي حين رأى إكبابي على قراءة الكتب والمجلات الإنجليزية أن يضر ذلك بلغتي العربية وثقافتي الدينية، فاختار لي مدرسا شيخا كانت له به ثقة، وكثيرا ما رأيته يصحبه، بل لقد حضر إلى العزبة في أثناء مقامنا بها في الصيف مما دلني على أن له على أبي دالة تزيد في ثقته به.
وكان هذا الشيخ على حظ غير قليل من الذكاء، درس أول أمره في الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم فجود اللغة العربية بها، وجعل همه أن يطلع على ما يظهر من كتب مؤلفة أو مترجمة إلى العربية ليجاري العصر ولا يقبع في زوايا الماضي على حد تعبيره، فلما بدأ تدريسه لي لم يلبث حين وقف على مبلغ علمي أن اختار لي كتاب «عيسى بن هشام» للمويلحي، وكتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين، وكتاب «التربية» الذي ترجمه محمد السباعي عن هربرت سبنسر.
وقرأت جانبا من هذه الكتب الثلاثة معه، وسمعت إليه يفسر ما رآه غامضا علي من ألفاظها وعباراتها، فأغراني ذلك بالمضي في قراءتها في أثناء وحدتي، وتفتحت لذلك أمامي آفاق جديدة يقصر دونها الكثيرات من أمثالي، بل يقصر دونها كثيرون من رجال ذلك الوقت ونسائه، وقد كنت أقف وجلة أحيانا أمام ما أقرأ؛ لأنه يخالف مألوف الحياة في مصر إذ ذاك، وهو مع ذلك مكتوب بلغتنا العربية، فيجب أن نفكر فيه، وألا نعتبر قراءته مجرد تسلية لقتل الوقت، ويجب أن ننتهي من هذا التفكير إلى رأي، وكنت أسأل أستاذي الشيخ أحيانا فيما يستوقفني، فلا يزيد على أن يبتسم ثم يقول: الزمن يا فتاتي كفيل بإنضاج رأيك في كل ما تقرئين.
ولقد أخذني العجب يوما لحوار جرى بين والدي وأستاذي حسبت حين سمعته أن الشيخ يبالغ فيما يسميه «عصريته»، فقد ذكر والدي أن شابا من أبناء أحد أصدقائه تزوج من أجنبية يهودية، فكان جواب الشيخ: وماذا في ذاك؟ ثم تطور الحوار إلى جدل ديني كان الشيخ فيه دون والدي تعصبا لعقيدته، فقد رأى والدي أن زواج اليهودية من المسلم يتيح لها الفرصة لتقف من زوجها أو من أهله أو من خلطائه على حقيقة الإسلام، فإذا هي لم تعتنقه من بعد كانت مكابرة، وكان مصيرها إلى الجحيم، أما الشيخ فرأى أنها إذا لم تقتنع بحجة زوجها أو أهله أو خلطائه وعملت صالحا فلا جناح عليها أن تقيم على دينها، وأن يغفر الله لها، ويدخلها الجنة.
Bog aan la aqoon