فقال عبد الله وهو يبتسم ابتسامة الاستخفاف: «وكيف يكون ذلك وهو ابن يزيد الذي أمر بحصار هذا البيت وقاتلنا حتى هدم الكعبة بمنجنيقاته ثم احترقت وأعدنا بناءها؟!»
فقال حسن: «صدقت يا مولاي إنه ابن يزيد بن معاوية، ولكن لا يخفى عليك أنه لما مات يزيد كان الحصين بن النمير لا يزال محاصرا البيت الحرام وأنتم فيه، وهو لا يعلم بموت خليفته يزيد، وقيل إنكم عرفتم بموته قبله، وإذا صح ما سمعته عما دار بينكم وبينه في شأن الخلافة ...»
فقطع عبد الله كلامه وقال: «أظنك تعني أنه عرض علي البيعة بعد موت يزيد؟»
قال حسن: «نعم يا مولاي ذلك ما أعنيه، ولو أنك أجبته إلى هذه البيعة لما كان على منصة الخلافة سواك.»
فتقطب حاجبا عبد الله بغتة كأنه تذكر أمرا يؤلمه ذكره وقال: «ولكنه أراد أن أذهب معه إلى الشام، وأبى إلا أن تكون البيعة هناك.»
قال: «وما منع مولاي أن يذهب إلى الشام؟! إنك لو ذهبت معه إليها وقربته منك لم يختلف عليك أحد.»
فأسرع عبد الله في قطع الكلام لأنه لا يحب أن يتذكر الخطأ الذي ارتكبه في ذلك ولولاه لكان بنو العوام خلفاء الإسلام بدل بني أمية؛ لشدة اضطراب حال بني أمية في ذلك الحين. وقال لحسن: «ثم ماذا؟ أوصلنا إلى حديث خالد.»
قال: «لما مات يزيد بايع أهل الشام ابنه معاوية (الثاني) كما تعلمون، وهذا لم يكن يرى لبني أمية حقا في الخلافة كما صرح جهارا في خطابه بعد أن تولاها بأربعين يوما، فإنه أمر فنودي: «الصلاة جامعة.» فلما اجتمع الناس وقف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا. ما كنت لأتزودها ميتا وما استمتعت بها حيا.» ثم دخل داره وتغيب حتى مات. فلما مات معاوية هذا اختلف الناس فيمن يولونه، واضطربت الأحوال حتى آل الأمر إلى مبايعة مروان بن الحكم؛ لأنه أكبر بني أمية سنا. وكلنا نعلم شأن هذا الرجل في أمر عثمان وكيف أنه قد أوقد جذوة تلك الفتنة التي لم نتخلص من عواقبها إلى اليوم. وهكذا تولى الخلافة مروان دون خالد بن يزيد الذي كان أحق بها منه، بحكم نظام الوراثة الذي وضعه جده معاوية. على أن بني سفيان لم يرضوا ببيعته حتى عاهدهم على أنه يجعل الخلافة بعده لخالد. فلما تولاها مروان حدثته نفسه أن يخرجها من نسل معاوية إلى نسله، فتزوج أم خالد حتى تصغر نفس خالد عن طلب الخلافة، واتفق بعد بضعة أشهر أن مروان ناظر خالدا في شأن وشتمه وأهان أمه، فخرج خالد إلى أمه وأطلعها على ما كان فقالت له: «دعه فإنه لا يقولها بعد اليوم.» وفي المساء جاءها مروان وسألها: «هل أخبرك خالد بما جرى بيننا؟» فقالت: «يا أمير المؤمنين، خالد أشد تعظيما لك من أن يذكر لي خبرا جرى بينك وبينه.» فلما أمسى المساء وضعت مرفقة على وجهه وقعدت عليها هي وجواريها حتى مات ولم يتم السنة في خلافته، والناس يظنونه مات حتف أنفه. فخلفه ابنه عبد الملك وهو يعلم بالأمر، ولكنه خشي إذا انتقم لأبيه أن يفتضح أمره ويقال إن امرأة قتلته، فظل حاقدا على خالد، وظل خالد ينظر إليه نظره إلى مختلس. ولهذا قلت لمولاي أمير المؤمنين إن خالدا أرغب من آل العوام في خلافتك.» •••
لما فرغ حسن من كلامه، أطرق عبد الله طويلا، وشعر حسن وابن صفوان بما يجول في خاطره في أثناء ذلك الصمت الطويل، ثم رفع رأسه بغتة ونظر إلى حسن وقال: «لقد فات الوقت، ما يقدره الله فهو كائن. على أني ما أظن خالدا يرضى بخروج هذا الأمر من بني أعمامه إلى رجل حاربه أبوه عليه، ولا أرى ثمة مسوغا لذلك.» ثم استدرك فقال: «ولكنك لم تذكر بعد ما هو الأمر الذي جئت لأجله؟»
فقال حسن: «إنه أمر لا يستحسن الخوض فيه الآن؟»
Bog aan la aqoon