وقبل الفجر سمع جعجعة جمل يتألم فولى وجهه شطر جهة الصوت، وقد خيل إليه أنه جمل سيده، فاستأنس به، وأخذ ينادي الجمل بما تعود أن يناديه به من الأسماء والأصوات فازداد الجمل جعجعة ولكنه بقي في مكانه حتى بلغه عبد الله فعرف أنه جمل سيده حقا غير أنه لا يستطيع النهوض كأنه معقور، فغاص عبد الله في الماء حتى دنا منه فأدار الجمل رأسه إليه كأنه يحييه ويستنجده.
ولما تحقق أنه معقور، ولم يجد حسنا عنده، اضطرب وشغل باله، فأسرع إلى الرحل فنزعه عنه، ووقف مدة وهو يفكر فيما عسى أن يكون قد حدث لحسن. واشتد به الاضطراب والقلق. ولم يجد فائدة من أن يسأل عنه في بيت عرفجة؛ لأنه لم يجده هناك بالأمس، وقد خشي إذا سأل سمية عنه أن يزيد في بلبالها. فخطر له أن يقصد إلى المكان الذي باتا فيه ليلة وصولهما إلى المدينة مع ليلى الأخيلية، فسار إليه، ومر أثناء مسيره بمنزل عرفجة فتنسم الأخبار، ولما لم ير أثرا لحسن واصل السير حتى أتى البيت فلم يجد به أحدا، فجلس وقد أخذ التعب منه مأخذا عظيما، ووضع الرحل بين يديه وجعل يفتشه فوجد أسطوانة مختومة وعليها اسم عبد الله بن الزبير فعلم أنها الرسالة التي يحملها حسن إلى مكة. فلما رآها ازداد قلقه وقال في نفسه لو أن حسنا ترك الجمل باختياره لحمل هذا الكتاب معه؛ لأنه إنما جاء هذه الديار من أجله؛ فترجح لديه أنه قتل أو أصيب بمكروه، فقضى نهاره لم يذق طعاما، وأخذ يندب مولاه تارة ويعلل نفسه بلقياه تارة أخرى. ولم يغادر سوقا ولا دربا من دروب المدينة إلا مر به وهو يتفرس في وجوه الناس ويتنسم الأخبار، فلم ير إلا انهماك الناس في إعداد النجدة للحجاج عملا بما حمله البريد إليهم. وبات ليلته بالمدينة وهو يفكر في الأمر، فقر رأيه أخيرا على أن يحمل كتاب خالد إلى عبد الله بن الزبير في مكة فيتم المهمة التي جاء حسن من أجلها، على أن يبحث عنه في أثناء ذلك.
الفصل الحادي عشر
عبد الله بن الزبير
كان عبد الله بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة، وكان قد رفض المبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي، وخرجا من المدينة إلى مكة، ودعا كل منهما إلى بيعته هو، على أن عبد الله رأى ألا يتظاهر بذلك والحسين في مكة لعلمه أنه أولى منه بالبيعة. فلما كان شخوص الحسين إلى الكوفة ومقتله في كربلاء، خلا الجو لابن الزبير فبايعه الناس واستفحل أمره، وجعل مكة عاصمته، وبايعه أهل الحجاز واليمن، وحاربه بنو أمية ولكنهم لم يبلغوا منه وطرا، فلما كانت خلافة عبد الملك بن مروان، وكان الحجاج يومئذ أحد أمراء عبد الملك، ولهذا ثقة في شجاعته رغب الحجاج في قتال عبد الله، وقص على عبد الملك رؤيا قال إنه رأى نفسه فيها وقد أخذ ابن الزبير وسلخه، وطلب من عبد الملك أن يشخصه لقتاله، فأشخصه في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وأعطاه كتاب أمان إلى ابن الزبير ومن معه إن أطاعوه، وأوصاه بأن يرفق بالكعبة.
فسار الحجاج سنة 72ه. وحدثت بينه وبين ابن الزبير مناوشات لم يتم الفوز فيها لأحدهما، فمل الحجاج، وأرسل إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير، فأذن له وأنجده بخمسة آلاف آخرين، فاشتد بذلك أزر الحجاج، وحاصر الكعبة ورماها بالمنجنيق. فعظم ذلك على المسلمين وأنبوه، ولكنه أصر على رأيه. وطال الحصار على أهل مكة حتى قل زادهم وأصابهم جوع شديد. وكانت مكة يومئذ قليلة العمار ليس فيها غير المسجد وفي وسطه الكعبة وبعض الأبنية، وكانت الكعبة قد تهدمت في حصارها قبل قدوم الحجاج فأعاد ابن الزبير بناءها على أوسع مما كانت عليه.
ونصب الحجاج المنجنيق على جبل أبي قبيس المشرف على مكة من جهة الشمال والشرق.
وكان ابن الزبير مقيما مع أهله بالمسجد الحرام، ومعه جماعة من رجاله قد بايعوه حتى الموت وصبروا معه صبر الرجال. وأما الحجاج فكانت خطته أن يستمر في تضييق الحصار على عبد الله، وبعث بسراياه يطوفون حول مكة يمنعون الدخول إليها والخروج منها. ولما طال أمد الحصار دون أن يستسلم المحاصرون استنجد الحجاج طارقا أمير المدينة كما تقدم. •••
ولنرجع إلى حسن وقد خرج من المدينة على جمل أهداه إياه أبو سليمان، ومعه العبد بلال. وبعد مسيرة أيام أشرفا على مكة عند الغروب فرأياها محاطة بشراذم من الفرسان يطوفون حولها. فقال بلال: «إني أرى الطلائع الأموية حول مكة، ولا آمن إذا واصلنا السير أن يمنعونا، فهل تأذن لي في الخروج إليهم للاستطلاع ثم أعود إليك؟»
فوافقه حسن على ذلك، وأوصاه بالرجوع إليه عند حائط انتظره فيه بعيدا من الطريق العام.
Bog aan la aqoon