فتناولته أمة الله من يدها وقد عرفته، ولكنها راحت تغالط سمية لتخفف عنها فقالت: «كيف عرفت أنه قباؤه والأقبية تتشابه؟»
فقطعت سمية كلامها وقالت: «قد عرفته من هذا الوشي على هذا الكم فإنني طرزته بيدي وأنا أعلم الناس برسمه.» قالت ذلك وشرقت بدموعها ولم تنتظر جوابا من أمة الله وأخذت تبكي وتقول: «قتلوه. لم يبق عندي شك في قتله.»
فقطعت أمة الله كلامها وقالت: «وما علاقة هذا القباء بقتله؟»
قالت: «ألا تتذكرين أن أبي أهداه إليه يوم عزمه على السفر، وألح عليه أن يلبسه للوقاية من البرد؟ ويل له من مشهد يوم عظيم. لقد ألبسه القباء وأوعز إلى أحد من صنائعه أن يقتله، وكأنه اتخذ القباء دليلا عليه فأصابوا غرضهم منه، وهذه هي بقية القباء وعليها الدم. فهل من بعد هذا شك في أنهم قتلوه؟ وما العمل؟ كيف أسلم نفسي إلى قوم قتلوا حبيبي؟» قالت ذلك وغصت بريقها.
فقالت أمة الله: «سلمي أمرك إلى الله ولا تيأسي من رحمته، واعلمي أن ما يقدره الله واقع. فاصبري والله مع الصابرين.»
فلم تر سمية غير الصبر فصبرت نفسها. والمرء قبل وقوع المصيبة يتوهم أنها إذا وقعت يستحيل عليه احتمالها، وقد يتوهم ذلك أيضا أهله وذووه، ولكنه متى وقعت لا يعدم سبيلا لاحتمالها والصبر عليها، وأمثال هذه الحوادث كثيرة نراها كل يوم. فلا غرو إذا صبرت سمية بعدما تحققته من مقتل حبيبها.
وفي أصيل ذلك اليوم نودي الجند: «الخيل الخيل.» فركبوا بعد أن قوضوا الخيام، وساروا والفرسان في مقدمتهم وأصحاب الرايات بينهم وفيهم رؤساء القبائل يحيطون بطارق بن عمرو، وكلهم بلباس أهل البادية إلا هو فإنه لبس درعا فارسية كان قد جاء بها من العراق.
أما سمية فحملوها على هودج ومعها خادمتها، وكان يقود الجمل عبد، ويسوقه عبد، وإلى كل من الجانبين حارس على هجين. وكان طارق يتردد على الهودج يتعهده ويسأل أهله هل يحتاجون إلى شيء. ثم يركض فرسه إلى أطراف الجند ويتفقده ويدير شئونه. •••
فلنترك سمية في هودجها تفكر في مصيرها ولنرجع إلى المدينة للبحث عن عبد الله خادم حسن فقد تركناه راجعا من بيت سكينة بعد أن أوصل سمية إليه. ثم أخبرت أمة الله سمية أنه جاء إلى المنزل للسؤال عنها فلم يجدها فرجع على أعقابه.
وكان عبد الله لما رجع من بيت سكينة قد أسرع لملاقاة سيده خارج باب المدينة، وهو قلق لما سمعه من حديث سمية مع حسن في تلك الليلة، وتصور ما يحدق بسيده من الأخطار، فسار وهو يفكر في الأمر، ونسي نفسه فأخطأ الطريق وخرج من غير الباب الذي خرج منه حسن، ثم سار من طريق آخر يؤدي إلى الجهة الأخرى. وكثيرا ما يتفق ذلك في مثل هذه الحال فيتجه الرجل شرقا وهو يرى أنه يسير غربا. وبعد أن سار ساعة وهو لا يرى راكبا ولا يسمع صوتا وقد اشتد الظلام وقف ونظر إلى ما حوله فإذا هو بين النخيل لا يتبين الطريق ولا يدري أين هو، ولكنه لم يكن له علم بطريقة الاستدلال بالكواكب، فحول سيره إلى جهة أخرى، ولكنه لم يصل إلى المكان المقصود، على أنه كان كلما بعد عن المدينة استدل عليها ببعض ما يبدو فيها من الأنوار فيرجع إلى جوارها. وحدثته نفسه بدخولها ولكنه خاف أن يكون سيده في انتظاره ببعض ضواحيها، ثم بدا له أن سيده ربما قد عاد إلى بيت سمية لسبب ما، فرجع إلى المدينة وجاء منزل عرفجة فلم يجد سمية هناك كما تقدم، فعاد إلى خارج المدينة وقضى ليلته في هذا الاضطراب.
Bog aan la aqoon