وبينما سمية غارقة في لجج الهموم لاحت منها التفاتة إلى باحة الدار فرأت فيها نورا يتحرك وسمعت صوت باب يقفل، فعلمت أن أباها خرج من الحجرة السرية. ثم اختفى النور وسمعت تصفيقا فعلمت أن أباها يدعو الخادم، فخافت أن يكون عازما على استدعائها، فتظاهرت بالميل إلى الرقاد وقالت للجارية: «لم يعد لي طاقة بالجلوس فقد أخذ مني النعاس مأخذا عظيما فاتركيني، وإذا سأل عني أبي فأخبريه بأني نائمة منذ حين.» ففهمت الجارية غرضها فضحكت وقالت لها: «لا تخافي.» وتمددت سمية في فراشها وتظاهرت بأنها استغرقت في النوم، وبعد قليل سمعت الخادم يسأل الجارية عنها، وسمعتها تذكر له أنها نائمة فانصرف.
وأصبحت في اليوم التالي وهي ما زالت في حاجة إلى النوم، فظلت في الفراش حتى الضحى، ثم جاءتها جاريتها بماء للغسل وبطعام، فسألتها عن أبيها فقالت: «أفقت قبيل الصبح على قرع الباب، ثم علمت أن بعض الناس جاءوا يطلبون سيدي على عجل، فخرج وهو لم يتم لف عمامته.»
فأطرقت سمية وفكرت في الأمر، فحدثتها نفسها بأن لهذه الدعوة علاقة بخطيبها. ولما تذكرت سوء قصد أبيها وما سمعته من قدوم عبد الله إليها أمس، تبادر إلى ذهنها أن شرا عظيما أصاب حسنا - وذلك شأن المحب البعيد عن حبيبه؛ فإنه لا يكاد يطمئن قلبه عليه، وإذا سمع أحدا يذكره تبادر إلى ذهنه أنه في خطر، وقد يفسر الإشارات والرموز والحوادث بما يؤكد ذلك - فكيف بسمية وهي تعلم ما ينويه أبوها لخطيبها؟! فلم تتناول من الطعام إلا قليلا، ولبثت جالسة تفكر في سبب خروج أبيها وتخاف أن يكون فيه ما يسوء خطيبها. •••
قضت سمية أكثر النهار في قلق واضطراب، تارة تمشي في الدار، وآونة تخرج إلى البستان، وهي تتوقع أن ترى عبد الله آتيا أو تسمع خبرا. ثم سمعت أذان العصر فالتفتت إلى مصدره جهة باب البيت فرأت أباها داخلا فخفق قلبها ولبثت تنتظر ما يبدو منه، فدنا منها وابتسم وناداها إليه فتبعته وهي ما زالت في اضطراب، ولكنها تظاهرت بارتياح حتى أقبل على غرفة الجلوس فوقف بالباب ينزع نعاله وقال: «كيف قضيت يومك أمس عند سكينة؟»
قالت وهي تتبعه إلى وسادته التي تعود الجلوس عليها: «قضيته مسرورة، وعدت وأنت في الحجرة فنمت ونهضت في هذا الصباح، فعلمت أنك خرجت مبكرا فشغل بالي.»
فقطع كلامها ودعاها إلى الجلوس بجانبه وعلى وجهه ابتسامة متكلفة، فلما جلست قربها منه وضمها وقبلها فأحست ببرد شفتيه واقشعر بدنها لاحتكاك شعر لحيته بذقنها وعنقها لعظم ما كانت فيه من التهيج العصبي الناتج عن القلق، وقبلت يده فإذا هي أبرد من شفتيه. وتوقعت أن تسمع منه شيئا بعد هذا التملق فإذا هو يقول لها: «أظنك مللت طول المكث في هذه المدينة؟»
قالت: «إذا كنت أنت في خير وسعادة فكل حال ترضيني.»
فأعجبه قولها وألقى يده على كتفها وجعل يلاعب شعرها بين أنامله ثم قال: «بورك فيك من ابنة مطيعة، إن مثل هذا القول يجبر قلب الوالد، هذا هو البر الذي كنت أرجوه منك. فالحمد لله الذي أذهب ما كان يخامر ذهنك، وعدت إلى ما هو جدير بأمثالك من النزول على حكم آبائهن.»
فأحست سمية من هذا التعريض كأن صخرة وقعت على رأسها، وأسرع خفقان قلبها، ولو انتبه أبوها وهي مستلقية على صدره لسمع دقات قلبها ولأدرك اضطرابها، أو لعله أدرك وتجاهل خبثا ورياء. ثم قال ولم يترك لها مجالا للتفكير: «سنذهب غدا لترويح النفس في العقيق فإنه منتزه جميل، فهل يسرك أن نأخذ طعامنا وشرابنا ونقضي يومنا هناك؟»
فعجبت سمية من عناية أبيها بأمر نزهتها والترويح عنها، ولا سيما أنه كان لا يخاطبها بالحسنى أو يلاطفها إلا إذا كان له مأرب من وراء ذلك. فأصبحت لا تسمع منه مثل هذه الملاطفة إلا توقعت شرا. ولكنها لم تكن تستطيع غير مداراته فقالت: «أشكرك يا أبي على هذه العناية.»
Bog aan la aqoon