أمسك الشيخ حسنا بيده، وجذبه إلى الجلوس بجانبه على الأرض بين شجيرات هناك، ثم أشار بيده صامتا نحو شبح صاعد من الوادي وعليه لباس النساء، ومعه شبح آخر وقال: «هذه هي الفتاة ومعها خادمتها، اضطجع مكانك لنرى ما يكون.»
فانبطحا، وبعد قليل زحفا حتى اقتربا من الشجرة واختفيا في مكان بحيث يريان ويسمعان ما يدور بين الفتى والفتاة.
ولو أن الليلة كانت مقمرة، لتبين لهما ما ارتسم على وجه الفتى حين وصلت الفتاة. فوقف وتقدم للقائها وهو يحسب نفسه في خلاء وظلمة، وكان قلب حسن في أثناء ذلك يضرب ضربات سريعة مخافة أن يرى من الحبيبين ما يخجله أو يهيج غيرته، فندم على إصغائه للشيخ الراعي لما رأى في اختلاس أسرار الناس من أمر منكر. على أنه أحس بميل شديد لاستطلاع ما يدور بين هذين العاشقين. واستطلاع مثل هذه الأسرار مما تتوق إليه النفس، والميل إلى ذلك عام في الناس على اختلاف طبقاتهم وإن تفاوتوا في احترام تلك الأسرار والإغضاء عن استطلاعها عملا بالآداب العامة.
وملتقى الحبيبين على هذه الصورة تميل النفس إلى رؤيته ولا سيما عند أهل الغرام، فلا عجب إذا اختلج قلب حسن واصطكت ركبتاه واقشعر بدنه. ولم يكن سبب ذلك التأثر إلا توقعه أمرا يخاف أن يراه ولا يريد أن يفوته. ولكنه ما كاد يرى العاشق واقفا لرد التحية حتى عرف من طول قامته وغنة صوته أنه جميل الذي رآه أصيل ذلك اليوم في مجلس سكينة. فتحقق أن الفتاة هي بثينة؛ لأنه كثيرا ما كان يسمع أحاديث غرامهما وكيف منعه أهلها منها ولكنه ما زال يحبها حبا مفرطا، كما أنها تحبه هي أيضا. وكان حسن يسمع بحب بني عذرة وعفافهم، ولكنه لم يكن يصدق أن مثل ذلك الملتقى في ذلك الخلاء على غفلة من الرقباء يكون مقصورا على إلقاء التحية.
وكانت الفتاة مقنعة، فجلست على حجر وجلس جميل على حجر لا يمس ثوبه ثوبها ولا يده يدها. جلسا متقابلين ينظر أحدهما إلى الآخر ولا يفوه بكلمة إلا ما كان عتابا أو تشاكيا، ولا يقولان فحشا ولا هجرا. فاستغرب حسن ما رآه من العفة الصادقة، ثم سمع الفتاة تنادي خادمتها، وكانت الخادمة قد وقفت على مقربة منهما، فجاءت تحمل قصعة من الطعام، فجلسا يأكلان ويتحادثان، فلما فرغا من الطعام قالت بثينة: «بلغني أنك قلت في أشعارا، فهل أنت على حبك؟»
قال: «لا أعرف في لغة البشر لفظا يعبر عما في قلبي؛ فإنه أعظم من الحب، وأشد من الغرام، وأرقى من العبادة، ولا أدري ما هو يا بثينة، فإذا اكتفيت بتسميته حبا فإني لا أراه يؤدي ما في قلبي.»
قالت: «وكيف ذلك ؟»
قال: «لا أدري يا حبيبتي. لا أدري كيف هو ولا ما هو!» ثم صعد الزفرات وقال: «إنما أعلم أنك نصب عيني أينما سرت وحيثما جلست وكيفما نظرت. إن بثينة أمام عيني، أراها جسما واضحا ومن عداها من الناس أراهم أشباحا أو ظلالا. ولم أسمع اسمها إلا اضطربت جوارحي وخفق قلبي، ولا أرى راحة إلا بالبكاء، حتى قلت:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟»
Bog aan la aqoon