فأدرك حسن أن الكهل والد سليمان، وأنه كان يترصده فأصاب ابنه خطأ. فصرف عنايته إلى إنقاذ حياة سليمان، وحاول أن ينهضه قائلا لأبيه: «إلي بالماء.» فجاءه بشيء منه من مستنقع قريب، فرش به وجه سليمان وغسل موضع الجرح في أعلى الصدر، وكان قد أصيب بنبلة أخرجها أبوه.
وكان حسن قد تعلم بعض الوسائل الطبية من معاشرة خالد بن يزيد الأموي في دمشق؛ لأن خالدا كان شديد التعلق بالعلوم الطبية حتى فاق بها سائر قريش، وكان بصيرا بصنعة الكيمياء والطب متقنا لهما، وألف في ذلك بعض الكتب والرسائل، وقد أخذ العلم عن راهب اسمه «بانس». ولم يكن مجلس خالد في دمشق يخلو من أهل العلم، فكان حسن يجالسهم ويسمع أقوالهم.
فلما غسل الجرح ضغطه، وأمر أبا سليمان بإيقاد النار فأوقدها بالزناد، ثم انتظر حسن حتى تكون بعض الرماد فأخذ قليلا منه وذره فوق الجرح وربطه.
ثم سأل عن ماء للشرب فقال الرجل: «ليس معي قربة.»
فقال حسن: «اسند ظهره لآتيك ببعض الماء من قربتي.» قال ذلك ونهض، ثم تحول نحو النخلة التي عقل جمله عندها فلم يجد الجمل هناك فطار صوابه؛ لأنه كان قد ترك كتاب خالد بن يزيد في مخبأ بالرحل الذي فوق الجمل حرصا عليه، وهذا إلى أن الجمل كان عزيزا عنده وعليه عدته وثيابه والماء وكل شيء. على أنه لم يشأ أن يضيع الوقت وسارع إلى اقتفاء أثر الجمل، وكان قد لاحظ أن حل عقال الجمل لا يدل على حدوث عنف، فتبادر إلى ذهنه أنه لم يعقله عقلا متينا فانحل من تلقاء نفسه، وانطلق الجمل هائما على وجهه أو يطلب المرعى هنا وهناك.
وسار حسن في طلب الجمل مضطربا خائفا؛ لأنه غريب في تلك البلاد، ثم وقف ونظر إلى ما حوله من الغياض والبساتين والظلام حالك، فلاح له ظل يتراءى بين النخيل أمامه، فتفرس جيدا وأصغى بسمعه فسمع هدير جمل هناك فأخذ طريقه إليه، ولاحظ أن ذلك الشبح يبتعد، فسارع السير في إثره وهو يتعثر بالأعشاب والأحجار ونظره شاخص إليه، وما زال يمشي والشبح يمشي أمامه حتى خرجا من بين النخيل إلى الفلاة، فما كاد حسن يتفرس في الشبح حتى أدرك أنه هو جمله فواصل السير في إثره، وكان الجمل أجفل من المطاردة فأسرع في سيره، وظل سائرا مدفوعا برغبته في القبض عليه حرصا على ما يحمله.
الفصل السابع
جميل وبثينة
وفيما هو يركض ويلهث إذا به يرى شيخا عليه لباس الرعاة يسير عاري الرأس وقد غرس عصاه في قفا طوقه، وعليه عباءة قصيرة وخشونة البداوة بادية في وجهه مع شدة الظلام. فناداه حسن: «يا أخا العرب، ألم تر بعيرا راكضا هنا؟»
وما أتم حسن سؤاله حتى أسرع الرجل إليه وأمسك بذراعه وضغطها بشدة في حين أشار إليه أن يسكت وينتظر، فالتفت حسن إلى ما حوله فرأى شجرة كبيرة على أكمة ورأى هناك ظلا يتحرك، فهمس في أذن الشيخ قائلا: «ما شأنك؟ أخبرني.»
Bog aan la aqoon