فرفعت رأسها وهي تجيل عينيها المطبقتين كأنها تحاول أن تنظر إلى ابنها، ونظر حسن إلى وجهها وقد تغطى جانباه بالنقاب فرأى دمعتين تقطرتا من جانبي أنفها بغير أن يبدو للبكاء أثر في وجهها. فلم يستغرب صبرها وتجلدها لما سمعه من ثبات جأشها وقوة قلبها. ثم قالت: «لقد صنعت خيرا يا بني.» وسكتت وكأن في نفسها شيئا تكتمه ثم قالت: «في أي ساعة نحن من الليل الآن؟»
قال عبد الله: «نحن في الصباح.» وما أتم كلامه حتى سمع في الخارج دوي شديد أعقبته صيحات الاستنكار من الواقفين بالباب الخارجي للمسجد، فأدرك حسن أن الهجوم قد بدأ، وأن ما سمعوه هو صوت وقوع حجارة المنجنيقات على الكعبة. ونظر إلى عبد الله فإذا هو قد تغيرت سحنته وبان القنوط في وجهه ثم التفت إلى أمه وقال: «لقد بدأ أعداؤنا هجومهم الأخير يا أماه، وقد آليت ألا أفعل أمرا إلا استشرتك، فبماذا تشيرين؟»
فنظر حسن إلى أسماء وتفرس في وجهها فإذا هي تزيح النقاب عن وجهها، ثم قالت وشفتاها ترتجفان من الشيخوخة لا من الخوف: «أنت أعلم بنفسك يا بني، فإن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك. ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: «كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت.» فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين!»
فقال عبد الله: «إنما أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي.»
فقالت: «يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ، فامض واستعن بالله.»
فقبل عبد الله رأسها وقال: «هذا رأيي الذي أصر عليه حتى اليوم، ووالله يا أماه ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى ذلك الأمر إلا غضبتي للحق، ولقد زدتني برأيك هدى وبصيرة.» ثم سكت قليلا، وقال: «اسمعي يا أماه، إني أشعر بأني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إيثار منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم الله ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد. ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي.»
فقالت وقد بان الجد في جبينها: «أرجو أن يكون عزائي فيك جميلا. إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. فامض لشأنك، والله معك، ولئن قتلت ففي سبيل الله.»
ثم اتجه عبد الله إلى حجرة أخرى ليودع أخته، وظل حسن واقفا في انتظار عودته، فسمع أسماء تتأوه وقد رفعت وجهها وقالت:
اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين.
فاستغرب حسن صبرها وقوة إيمانها. ثم عاد عبد الله إليها وهم بتقبيل يدها، فأمسكت بيده وضمته إلى صدرها قائلة: «هذا وداع فلا تبعد.»
Bog aan la aqoon