وعاش من جديد الأيام الأخيرة لأبيه. هذا أمر لا مفر منه. كان المرض والكبر قد أقعداه فكانت نزهته أن يفترش فروة أمام البيت، لا يكاد يرى أو يسمع، يتأمل عجزه، يتأوه هاتفا: اللهم لطفك ورحمتك ..
كان في زمانه من رجال الحارة الأشداء، عاش حياة طويلة معتمدا على عضلات ذراعيه وساقيه، يعمل بلا انقطاع ويعاني على المدى شظف العيش والفقر. قوة مهدرة تتغذى على لا شيء ويقهقه في الملمات بلا معنى ولا سبب. ووجد ذات مساء ميتا حيث يجلس على الفروة فلم يدر أحد كيف حضره الموت ولا كيف تلقاه هو. أما أمه فكانت ميتتها أدعى للدهشة. كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست وراحت تصرخ من شدة الألم. وجاءت الإسعاف فحملتها إلى قصر العيني وتقرر إجراء جراحة في الأعور قتلت في أثنائها.
أسرته ضحية فريدة للموت. شيء قال له في باطنه إنه ربما بسبب ذلك سيعمر هو طويلا. واجتاحته موجة من الأسى. كل موت معقول بالقياس إلى موت أخيه الشرطي. رجل كالجمل يقتل بطوب الثوار. أي ميتة. لا يعرفهم ولا يعرفونه. إنه يقف من تلك الأحداث موقف المتفرج المتعجب. لا يفقه لها معنى على الإطلاق. أجل عرف الكثير من مطالعة التاريخ. عرف التاريخ من أقدم العصور حتى قبيل الحرب العظمى. عرف الثورات. ولكنه لم يعشها ولم يستجب لها. وقد رأى وسمع ولكنه انعزل وتعجب. لم يحظ بعاطفة عامة واحدة تشده إلى الميدان. ما أعجب اقتتال رجال الدولة الكبار وأتباعهم. لقد عاش حياته مطاردا بالفقر والجوع فلم يدع له ذلك وقتا لمد آفاق تفكيره إلى الخارج. انحصر في الحارة بهمومها المجهولة من الجميع، الوحشية، القاسية، المتلاحقة. واليوم يعرف لنفسه هدفا دنيويا وإلهيا في آن لا علاقة له في تصوره بالأحداث العجيبة التي تجري باسم السياسة. قال إن حياة الإنسان الحقيقية هي حياته الخاصة التي ينبض بها قلبه في كل لحظة، التي تستأديه الجهد والإخلاص والإبداع. إنها مقدسة ودينية. بها تتحقق ذاته في خدمة الجهاز المقدس المسمى بالحكومة أو الدولة. بها يتحقق جلال الإنسان على الأرض فتتحقق به كلمة الله العليا. إنهم يهتفون بغير ذلك أو بما يناقض ذلك ولكنهم مجانين مزيفون؛ ولذلك فإنه لم يغفر لنفسه أنه لم يملأ عينيه من حجرة المدير العام، ولا من شخصه المتفرد الذي يحرك الإدارة كلها من وراء برافان، في نظام دقيق وتتابع كامل يذكر الغافل بالنظام الفلكي، وبحكمة السماوات.
تنهد بعمق.
قرأ الفاتحة مرة أخرى. قال مودعا: ادع لي ربك يا أبي.
ودار حول القبر الذي سقط شاهداه وتشقق ركنه ثم قال: ادعي لي ربك يا أمي.
6
ما أعجب الفصول في تعاقبها! إنه يعايشها من خلال عمله المتواصل. الشتاء في الحارة فصل شديد القسوة ولكنه يحفز للعمل، الربيع بخماسينه لعنة، الصيف جحيم، الخريف بسمة غامضة متأملة. إنه يواصل العمل بإرادة صلبة وشهوة نارية. ها هي كتب القانون تصطف تحت الفراش وفوق منصة النافذة. لا ينام من الليل إلا أقله. يعانق الأفكار ويصارع الغموض، وحتى النجاح لا يريد أن يقنع به وحده. ويوم الجمعة يخصص عادة للثقافة العامة الجديرة بالمديرين ومن في خدمتهم. واهتم بالشعر خاصة، حفظ الكثير، بل حاول نظمه ولكنه فشل. قال إن الشعر كان وما زال خير وسيلة للتقرب من الكبراء، والتألق في الحفلات الرسمية. إنه لخسران فادح أن يفشل في نظمه. ولكنه على أي حال خير طريق لإتقان النثر، والخطابة لا تقل عن الشعر في النجاح المنشود. والأسلوب الجزل مطلوب، قلبه يحدثه بذلك. واللغات الأجنبية مثله وأكثر. جميع تلك المعارف مفيدة، ولها وقتها الذي ترتفع فيه قيمتها في بورصة المضاربات الديوانية، فليس بالتعليمات المالية وحدها يحيا الموظف. أجل عليه أن يتزود من كل شيء نافع بطرف، فمن يعلم؟ وكان يقول إن حياته تيار غير منقطع ماض في مجرى النور والعرفان، يتكاثف بكل طريف، ويتشعب في مجالات الفكر، تدفعه حرارة الإيمان والكبرياء البشري الشريف، ليصب في النهاية في الأعتاب الإلهية.
أما راحة النفس فيحظى بها على سلم السبيل الأثري. في عناق الحب المشبوب. بين يدي الفتاة الجملية المحبة. في حضنها العذري المشتعل. بلا تورط في فعل أو قول. لكنه يتعلق به تعلقه بالحياة نفسها. آه لو كانت الحياة تقنع بالحب والسعادة اليسيرة. ومن شدة قلق سيدة تجاوزت تحفظها الفطري. تمادت في الإفصاح عن عواطفها الصادقة. كشفت عن لهفتها المحمومة. قالت له مرة بورع: لا حياة لي بدونك.
ولكن بدا قولها فاترا بالقياس إلى ما تمنحه شفتاها المليئتان. وقالت له مرة أيضا: أنت كل شيء، ما مضى وما وهو آت ..
Bog aan la aqoon