تشابكت يداها فوق حجرها وقالت بثبات دل على قدرتها على مواجهة المواقف: لي استفسار من فضلك. - أفندم؟ - أملك قطعة أرض نزعت ملكيتها، أظنك تفهم هذه الشئون؟ - طبعا. - الطريق المزمع إنشاؤه يغطي أغلبها ولكنه يترك أجزاء لا يمكن الانتفاع بها؟ - أعتقد أن التعويض عن ذلك يراعى عند تقدير الثمن. - ولكن الإجراءات معقدة كما تعلم! - لك أن تعتمدي علي ..
بقدر ما شعر بقوة شخصيتها بقدر ما يئس من إغرائها. إنها مستعدة للزواج وما جاءت في الواقع إلا من أجل ذلك، أما أن ترضى بعلاقة غير مشروعة معه فيبدو أمرا مستحيلا. ورجعت أم حسني، ومضيا يحتسيان القهوة في صمت تام، لعلها أصلح زوجة من أكثر من ناحية ولكنها ليست من يريد. وهبطت من السماء صورة أنسية رمضان فجلست بينهما ومحت المرأة محوا. منذ عهد السبيل الأثري لم يتحرك قلبه كما تحرك لهذه الفتاة الصغيرة. لانت أعصابه المتوترة وصفت نفسه وتلقى من الخيال نسمة منعشة أذكت أسمى عواطفه. ولما ذهبت المرأة وجد أم حسني تنظر إليه باهتمام تريد أن تطمئن على الوظيفة الحيوية التي ترعاها بعملها وإيمانها. باتت العجوز تعبد الزواج والإنجاب والأفراح وتسبح لله في معجزة الحب التي أبدعها. ولما طال سكونه قالت برجاء: لعلك غيرت رأيك؟ - لماذا؟ - ألم تر أنها مثل فلقة القمر؟
ولبث جامدا رافضا ممتنعا عن تناول يدها الحنون. فقالت باستياء: قالوا في الأمثال ...
غادر الحجرة قبل أن يسمع المثل. يا للخسارة! إذا لم يسعفه زواج قيم فقد يتبدد سعيه ويهدر أمله في وسط الطريق. وحياته أصبحت مثار تساؤلات وانتقادات لا حصر لها؛ فأناس يتساءلون لم لا يتزوج وينجب ويألف ويؤلف؟ وأناس يتساءلون كيف ينحصر في ذاته متجاهلا الأحداث التي تقع من حوله فينفعل بها المواطنون حتى الموت؟ وما هي الهموم التي تشغلهم وتستحوذ على أفئدتهم؟ إنها تتطاير مع أحاديثهم الصاخبة وتعطل أعمالهم. دواما يتحدثون عن الأولاد والأمراض والطعام ونظام الحكم وصراع الطبقات والأحزاب والحكم والأمثال والنكات. إنهم لا يحيون حياة حقيقية ويفرون من واجبهم المقدس. يجفلون من الاشتراك في السباق الرهيب مع الزمن والمجد والموت وتحقيق كلمة الله المضنون بها على غير أهلها.
22
جاءت أنسية رمضان لعرض ميزان البريد الشهري. كان صباح يوم من أيام الخريف والجو الرطيب يتسلل إلى حنايا النفس بالأسى العذب. نقل بصره بين الجدول الذي يراجعه وبين أصابع يديها المبسوطة على حافة المكتب. خيل إليه أن شيئا ما يتحرك في إحدى يديها. يتحرك ويقترب في زحف رشيق كأنه كلمة سر. يقينا أنها علبة صغيرة دستها بخفة تحت السومان بعد توكدها من رؤيته لها. - ما هذا؟
تساءل بصوت منخفض يتناسب غريزيا مع الحذر الذي اكتنف الحركة من أولها. رفع السومان قليلا فرأى علبة معدنية مفضضة بحجم نصف الكف. تساءل مرة أخرى: ما هذا؟
همست بوجه كالأرجوان: هدية بسيطة .. - هدية؟! .. ولكن ما المناسبة؟ - مناسبة سعيدة ..
بذهول وتشتت من شدة الانفعال: حقا؟ - ألا تتذكر؟
قال رغم أنه تذكر: ماذا؟ - اليوم عيد ميلادك!
Bog aan la aqoon