أصغى إليه باهتمام في الظاهر واستخفاف في الباطن. إنه يحتقر المواعظ التي تحث على الكسل ويعتدها تجديفا بذي الجلال، غير أنه تذكر سيدة في عذابها الطويل، وما عليه أن ينجزه ويحفظه ويراجعه، وشعر بأنه يبتسم ابتسامة لا معنى لها. وعاد سعفان يقول: لك همة عالية ولكن راحة البال جوهرة ثمينة أيضا ..
فقال له واستخفافه به يتصاعد: أنت رجل حكيم يا سعفان أفندي ..
وظهر في مدخل الشرفة شبح فتاة تحمل صينية تفوح منها رائحة الشاي المنعنع. انعكس الضوء الصاعد من الفرح على وجهها فوضحت بعض معالمه رغم ظلام الغرفة القابع وراءها، وجه مستدير، لونه قمحي، وثمة ملاحة ملحوظة مغلفة بغموض وأشواق. ساوره قلق. وهو يميل قليلا ليتناول قدح الشاي رأى عن قرب ساعدها السوية البضة وكأنها هي التي تنفث رائحة النعناع. وقفت دقيقة أو أقل ثم توارت في الظلام وهي تداري ابتسامة كادت تفلت منها حياء وارتباكا. وساد صمت كأنه الشعور بالإثم، وتشبع الجو بروح المؤامرة، وتضاعف قلقه. قال سعفان: ابنتي ..
هز رأسه إعرابا عن الاحترام .. - حصلت على الابتدائية قبل أن تنقطع عن المدرسة ..
واصل هز رأسه في تقدير وإعجاب. ترامت إليهما أصوات الجوقة وهي تغني التواشيح. ومضى سعفان قائلا: البيت هو المدرسة الحقيقية للبنت ..
لم يعلق؛ لم يجد ما يقوله، وضاق في الوقت نفسه بصمته. - ما رأيك في ذلك؟ - أوافقك كل الموافقة ..
ولكنه تذكر جهاد أمه الكادح في حياتها المريرة. شعر بأنه يدفع إلى مصيدة. بدأ الغناء بصوت الطرب هادئا وخافتا وناعما. وتمتم سعفان: ما أجمل الصوت! - نعم. - الحياة جميلة أيضا. - بلا شك. - ولكنها تطالبنا بالحكمة لتجود علينا بحلاوتها .. - أليست الحكمة ثمرة عسيرة؟ - كلا، هي هبة من الله سبحانه.
قال لنفسه: إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة. الرجل يحاصره وهو لن يستسلم، ولكن كيف يفوز بحريته ورضى رئيسه معا؟! لم يعد يسمع من الغناء شيئا. سعفان يتابع الغناء بأذنه ويده وقدمه وينظر إليه بين ذلك متفحصا مستطلعا. وحنق عليه كجلاد ماكر. ورأى أن عليه أن يرد الدعوة بأحسن منها دفاعا عن نفسه المهددة. آلمه ذلك ألما غير هين. إنه لا ينفق القرش بغير ضرورة ملحة. وفتح حسابا في دفتر توفير البريد مع أول مرتب قبضه؛ ولذلك لم يخطر له على بال أن يغير مسكنه أو حارته أو طعامه. وهو يؤمن بأن الادخار وسيلة هامة من وسائل جهاده الطويل وشعيرة من شعائر دينه، وأمان ضد الخوف في عالم مخيف. ولكن لا بد مما ليس منه بد. سيرد الدعوة بأحسن منها. وسيتم ذلك في مطعم لا في حجرته المكتظة بالكتب، الفقيرة في كل شيء عدا ذلك. وإذن فسوف ينفق مبلغا جسيما حقا. اللعنة على الحمقى. بات الغناء ضجيجا لا معنى له وتفتحت أبواب الجحيم. والكهل يهز رأسه طربا غير عالم بجريمته. والدنيا تطلق سخرية من سخرياتها.
8
وقبل مضي الشهر دعا الرجل للعشاء في مطعم الكاشف. تناولا سمكا شهيا وحليا بمهلبية. وكان الكهل من السعادة في غاية وخيل إليه أنه يتوقع نزول ملاك السعادة والرحمة. ولم يقنع بالعشاء فيما يبدو فاقترح قائلا: ما رأيك في سهرة في الفيشاوي؟
Bog aan la aqoon