وكنت قد عانيت الأمرين من السيد جاري، فمنذ أن جلس بجواري وهو لم يكف أبدا عن الحركة، ولا عن التعليق، ولا عن إعطاء الأوامر الخاصة للسائق حين تدخل العربة في مأزق، أوامر يقولها بينه وبين نفسه: «اطلع يا جدع»، «خد يمينك»، «سواق نيلة.»
وأنا لا أحب أن يناديني أحد بكلمة: «السيد»، لست أدري لماذا، تصور اسمك مقرونا بلقب «السيد»، حتما ستحس أن شيئا فيك قد تغير أو تجمد، أو أنك أحلت مثلا إلى الاستيداع، ولكن هناك أناس تحس أن لقب: «السيد فلان» يناسبهم جدا، وكان جاري من هذا الصنف، لا تملك حين ترى طربوشه وتكشيرته ومعطفه والشعر الأبيض في ذقنه التي تحلق يوما بعد يوم إلا أن تقول له: يا سيد، وإن لم تقلها له غضب، ولهذا فهو الذي يبدؤك باللقب حتى لا تنسى أن تعيده إليه إذا حادثته.
كان واضحا أنه يحب الأصول، والأصول أن لا يأخذ الناس على بعضهم بسهولة، ومع هذا فمنذ أن جلس بجواري وهو لا يعاملني بالأصول أبدا؛ فقد احتل وحده أكثر من ثلثي المقعد، ومع هذا ظل كوعه مغروزا في جنبي يكاد يخرج حجابي الحاجز، وكان قد قرأ من جريدتي أضعاف ما قرأته منها، وحين قررت حلا للإشكال أن أعطيها له ألقى عليها نظرة سريعة ثم طواها وردها لي، وما كدت أفتحها حتى وجدت وجهه يتسلل من فوق كتفي ويعاود القراءة، ولعله لمح فيها دواء مقويا «للأعصاب»، ثم إن عينه لم تغفل عني لحظة، حدق في وجهي مرات، ربما ليرى إن كنت أحمل شبه إحدى العائلات التي يعرفها، وحين أخرجت محفظتي لأدفع، جرد كل محتوياتها بنظراته الجانبية، واشمأنط حين وجدها شبه خالية، حتى حذائي لم يسلم من تحديقاته، ربما ليعرف إن كان نعله جديدا أم مجددا أو ليدرك نوع جوربي وحالته الداخلية، ومن كثرة خجلي أدخلت قدمي تحت المقعد لأريحه وأريح نفسي.
ولم ينقذني من نظراته إلا مجيء الشاب الصغير والفتاة الصغيرة؛ فقد تركني وتحول إليهما.
ولأنني كنت بعيدا عن النافذة، لم يعد أمامي لكي أقطع الوقت إلا أن أنظر في وجوه الركاب، ولم تفلح هذه التسلية لقطع أي وقت، فقد كفتني نظرة واحدة إلى الوجوه لكي أدرك أنها نسخ متفاوتة الإتقان من جاري العزيز، وهكذا لم يعد أمامي إلا أن أراقب الشاب الصغير والفتاة الصغيرة.
وبدأت أجد في مراقبتهما تسلية عظمى.
فقد لمحت ابتسامة الشاب الطبيعية يرتجف سطحها قليلا قليلا، ويتغير شكلها، ويصبح لها معنى خاص مضى يمسح به وجه الفتاة وشعرها وجسدها وحتى ملابس أخيها الصغير.
المسألة فيها إعجاب إذن.
وكان إعجابا، مجرد إعجاب، غير موجه إلى الفتاة بعينها، ولكن إعجاب أي شاب صغير بأي فتاة صغيرة.
ولكن الأمور بدأت تتطور.
Bog aan la aqoon