بل هم في الواقع لم يكلفوا خواطرهم، ولم يخرج المئات منهم لتوصيل العروسة في ذلك اليوم إلا وكل منهم يطمع في عشاء الفرح الفاخر ذي البطاطس وأكوام اللحم المسلوق المغطاة بالأرغفة المخبوزة الطازجة، ولا تحسب الحلويات والفرجة المجانية، ثم من يدري، ألا يحتمل أن تفتح لأحدهم ليلة القدر ويظفر بسيجارة مكنة؟!
ممكن إذن، أن نتصور الاضطراب الشديد الذي اجتاح موكب العزابوة لدى ظهور المارد الأسود، وكيف علت همهمتهم وتقطع طابورهم الطويل وانخلعت الأفئدة وارتفعت الرءوس تستكشف وتحاول أن تجد مخرجا وتتساءل: «مين يتكلم يا ولاد مين؟» ذلك لأنه لم يكن للموكب زعيم أو رئيس، فالعزابوة يكرهون الزعامة؛ لأن كلا منهم يريد أن يكون هو الزعيم، ولكن الزعامة هنا محفوفة بالمخاطر؛ ولهذا لا بد أن يتساءلوا ويتصايحوا: «مين يتكلم يا ولاد مين؟»
ورشح بعضهم الشيخ رجب أبو شمعة؛ لا لأنه كان يمتلك ثلاثة أفدنة بأكملها اشتراها سهما سهما ودبق ثمنها من حرمان نفسه وأولاده من لبن الجاموسة وبيعه، ولكن لأنه كان أكثرهم حكمة واعتدالا؛ أي أكثرهم خوفا، ورجل كهذا تحمد زعامته في موقف تعتبر الجرأة فيه نوعا من الحمق وقلة الأدب.
ولم يقبل الشيخ رجب إلا بعد إلحاح، بل كاد يصنع عين الحكمة ويعود وحده إلى البلد، ولكن تحت وابل من الدعوات والألقاب والتضرعات قبل، وزعق في الموكب مخاطبا إياه من أوله إلى آخره طالبا السكوت التام، وحين تم له ما أراد لكز حمارته القصيرة ذات اللون البني الذي هو أقرب إلى لون فئران الغيط منه إلى لون الحمير، وتقدم ممتطيا صهوتها، غير أنه ما كاد يقترب من المارد الأسود وثلته حتى ترجل عنها احتراما، وتقدم منهم قائلا بلهجة معجونة بملق العزابوة الأصيل: «دستوركم يا سيادنا، سلامو عليكم.»
ورفع إليه العملاق الأسود عينين يطق منهما الشرر وقال: «لا سلام، ولا كلام! حودوا على طول.»
وبلهجة أكثر ملقا قال الشيخ رجب مدعيا البراءة التامة: «على فين يا سيادنا؟» - «أنتم ضيوفنا الليلة.» - «ضيوف مين؟!» - «ضيوف السنديك بك، احنا بتوعه، وأني عنبر راجله.»
وحاول الشيخ رجب أن يتملص ويتخلص سائلا الرجل عن رأس الذبيحة التي جرت العادة أن تكون معلقة فوق نبوته، مدعيا أن عدم وجودها يعطيهم الحق في رفض الدعوة، ولكن الرجل أفهمه بطريقة لا تقبل النقاش أو الجدل أن الذبيحة ذبحت فعلا، وأنهم لا بد أن يعودوا الليلة مهما فعلوا، وسواء بالقوة أو بالتي هي أحسن، ويبدو أن كلامه هذا أثار بعض شبان العزابوة، ولم تعجبهم طريقة الشيخ رجب وأحبوا أن يظهروا شجاعتهم على الأقل أمام نساء بلدهم الموجودات في الموكب، فزمجروا وتصايحوا، ورفعوا عصيهم الخيزران استعدادا للمعركة، ولكن الشيخ رجب رفع لهم يدا حاسمة غاضبة، ولعن أباءهم جميعا علامة الزعامة، وأسكتهم، فقد كان يعرف حصة أهل بلده من الشجاعة، ويعلم نتيجة أية خناقة قد تنشب مع العزابوة؛ إذ ما تكاد الخناقة تبدو حتى يخبط العزباوي من هؤلاء خبطتين، فقد ليثبت وجوده ويقيد اسمه في سجل المتشاجرين، ولكن ما يكاد الضرب الحقيقي يشتعل وتصبح الحكاية جدا حتى يطلق ساقيه للريح، وعلى هذا قال للرجل الأسود: «مختصر الكلام: أنت عايز إيه يا عم؟» - «تحودوا بالتي هي أحسن.»
فقال الشيخ رجب وهو يلكز حمارته: «بس كده؟! حاضر، احنا ضيوفك الليلة يا سيدي، ولا تزعل! حود يا وله أنت وهو.»
ورفع عنبر العملاق الأسود حاجبيه علامة الدهشة، وكأنما فجع بهذا التسليم المطلق بلا قيد ولا شرط، وهو الذي كان يحلم بخناقة يتسلى ويفخر برواية تفاصيلها أياما كثيرة، ولا بد أنه عجب من هؤلاء القوم الذين لا يقيمون للكرامة وزنا، ولكنه على أية حال أمسك بمقود جمل العروسة، ومضى ميمما وجهه شطر العزبة ووراءه ما لا يقل عن خمسمائة من أهالي كفر العزب ما بين راكب وراجل، وواضع ثوبه في أسنانه، وحامل بلغته تحت إبطه، أو مفضل أن يمشي بجوار دابته عملا بالمثل العزباوي المشهور: «هين نفسك ولا تهين بهيمتك.»
وأهل الموكب الضخم على عزبة السنديك، وخرج البيه بشخصه يتفرج على فرح «الفلاحين» هذا، وإذا بالموكب - لدهشته الشديدة - يقف لدى سور حديقته ولا يتزحزح، والأغرب من هذا أن عنبر خادمه كان يقود الموكب.
Bog aan la aqoon