وهززت رأسي، فعاد يقول: «مش برضه ...؟»
فقلت: «أيوه، شيخوخة.»
ومسح دموعا تكونت في عينيه وهو يقول: «بدون جنون؟»
فأجبته: «أيوه، بدون جنون.»
طبلية من السماء
أن ترى إنسانا يجري في شارع من شوارع منية النصر، فذلك حادث، فالناس هناك نادرا ما يجرون، ولماذا يجرون وليس في القرية ما يستحق الجري؟! المواعيد لا تحسب بالدقائق والثواني، والقطارات تتحرك في بطء الشمس، قطار إذا طلعت، وآخر حين تتوسط السماء، ومع مغيبها يفوت واحد، ولا ضجيج هناك يثير الأعصاب ويدفع إلى التهور والسرعة، كل شيء بطيء، هادئ عاقل، وكل شيء قانع مستمتع ببطئه وهدوئه ذاك، والسرعة غير مطلوبة أبدا، والعجلة من الشيطان.
أن ترى واحدا يجري في منية النصر، فذلك حادث، وكأنه صوت السيرينة في عربة بوليس النجدة، فلا بد أن وراء جريه أمرا مثيرا، وما أجمل أن يحدث في البلدة الهادئة البطيئة أمر مثير!
وفي يوم الجمعة ذاك، لم يكن واحد فقط هو الذي يجري في منية النصر، الواقع أنه كانت هناك حركة جري واسعة النطاق، ولم يكن أحد يعرف السبب، فالشوارع والأزقة تسبح في هدوئها الأبدي، وينتابها ذلك الركود الذي يستتب في العادة بعد صلاة الجمعة حيث ترش أرضها بماء الغسيل المختلط بالرغوة والزهرة ورائحة الصابون الرخيص، وحيث النسوة في الداخل مشغولات بإعداد الغداء والرجال في الخارج يتسكعون ويتصعلكون إلى أن ينتهي إعداد الغداء، وإذا بهذا الهدوء كله يتعكر بسيقان ضخمة غليظة تجري وتهز البيوت، ويمر الجاري بجماعة جالسة أمام بيت فلا ينسى وهو يجري أن يلقي السلام، ويرد الجالسون سلامه ويحاولون سؤاله عن سبب الجري، ولكنه يكون قد نفذ، حينئذ يقفون ويحاولون معرفة السبب، وطبعا لا يستطيعون، وحينئذ يدفعهم حب الاستطلاع إلى المشي، ثم يقترح أحدهم الإسراع فيسرعون ويجدون أنفسهم آخر الأمر يجرون، ولا ينسون أن يلقوا السلام على جماعات الجالسين، فتقف الجماعات ولا تلبث أن تجد نفسها تجري هي الأخرى.
غير أنه مهما غمض السبب، فلا بد في النهاية أن يعرف، ولا بد أن يتجمع الناس في مكان الحادث بعد قليل؛ فالبلدة صغيرة، وألف من يدلك، وقبل أن تلهث تكون قد قطعتها طولا وعرضا.
وهكذا لم يمض وقت طويل حتى كان قد تجمع عند الجرن عدد كبير من الناس، كل من في استطاعته الجري كان قد وصل، ولم يبق مبعثرا في الطريق غير كبار السن والعواجيز الذين آثروا التمشي حتى يبدوا كبارا في السن، وحتى يبدو ثمة فرق بينهم وبين الشبان الصغار والعيال، ولكنهم كانوا أيضا يسرعون وفي نيتهم أن يصلوا قبل فوات الأوان، وقبل أن يصبح الحادث خبرا.
Bog aan la aqoon