ولم تنقطع الصلة بينها وبينه طوال أعوام الخصومة ... وفي أثناء ذلك حصلت على البكالوريا والتحقت بكلية الطب، ثم كانت الكارثة التي هلك فيها مازن وتلاشى من وجودها، كادت تجن من الحزن، بل والغضب، وقضت عاما في السراي أسيرة للكآبة، ثم واصلت دراستها وقد تحجر قلبها وصمم على الزهد في الدنيا. خرجت من حياتها في تلك الأيام بتجربتين مرتين؛ وفاة حبيبها، وخيبة أمل شقيقتها في حياتها الزوجية. ونزعت بكل قواها لتكريس حياتها للعمل والوحدة والقراءة الدينية. وعرضت لها فرص زواج طيبة، ولكنها كانت قد تطبعت بسوء الظن بالنوايا، وكرهت فكرة الحياة الزوجية، وتخصصت في طب الولادة، وحصلت على الدكتوراه، وأحرزت نجاحا مرموقا تزايد يوما بعد يوم. ولم تحفل بنصائح إخوتها لها بإعادة النظر في الزواج، وثابرت على عملها ووحدتها وتدينها حتى فاتها القطار دون أسف مسجلة في عالم الأحزان ظاهرة فريدة لا تتكرر. وجمعت السراي بين شكيرة وعبده ونادرة وماهر في الكبر كما جمعت بينهم في مطلع الحياة ، أمثلة حية للنجاح والفشل معا.
نعمة عطا المراكيبي
ابنة عطا المراكيبي وسكينة جلعاد المغاوري، ولدت ونشأت ببيت الغورية، وورثت عن أمها عينيها النجلاوين وشعرها الأسود الغزير بالإضافة إلى صحة جيدة لم تحظ بها الأم. ولما عزم يزيد المصري على تزويج ابنه عزيز وجد فيها الشروط المزكية؛ فهي ابنة جاره وصديقه عطا المراكيبي، وهي مصونة وجميلة، وزفت نعمة إلى عزيز منتقلة من دور إلى دور في نفس البيت بالغورية. وكانت مثالا طيبا للزوجة العاقلة المدبرة المطيعة، وأنجبت لعزيز رشوانة وعمرو وسرور، وتلقت من زواج أبيها بالأرملة الغنية صدمة، ثم تابعت ارتفاع أبيها إلى طبقة جديدة بذهول، وزارت السراي الجديدة بميدان خيرت، وسراي العزبة ببني سويف فانبهرت بما رأت أي انبهار ولم تصدق عينيها. وتوقعت أن تنهال عليها دفقات من الخير، ولكن خاب رجاؤها، وفيما عدا هدايا المناسبات فقد قبض الرجل يده عنها كأنها ليست بكريته، وليست الأخت الكبرى لمحمود وأحمد. وقال لها عزيز: إنه شحيح وممن يحبسون النعمة.
ولكنها رغم حنقها دافعت عن أبيها قائلة: بل يخاف أن تتهمه المرأة بتبديد ثروتها!
ورغم تقواها حلمت بأن تسبق الأرملة أباها إلى الآخرة فيرثها، وبالتالي ترث هي حظا من الثروة يدعم رشوانة وعمرو وسرور في حياتهم، ولكن الرجل رحل قبل زوجته بقليل، مخيبا رجاءها بموته كما خيبه بحياته. والحق أن مخالطة أخويها - محمود وأحمد - لها ولأولادها وبرهما بهم أنساها أحزانها فبادلتهما حبا بحب حتى آخر عهدها بالحياة. وامتد بها العمر حتى قرت عينا بأحفادها، ورحلت عن الدنيا بعد عزيز بعامين.
نهاد حمادة القناوي
بكرية صدرية وحمادة القناوي، ولدت ونشأت في خان جعفر، ومرحت في طفولتها في بيت القاضي، وحظيت بمنزلة طيبة لدى عمرو وراضية بوصفها طليعة الأحفاد. وكانت على جمال مقبول، وتعليم قليل سرعان ما تلاشى. ولما قاربت الخامسة عشرة خطبها عمدة متوسط العمر من أقارب أبيها، فرحب به حمادة أيما ترحيب، وأدركت صدرية بأسى عميق أن ابنتها تنفصل عنها إلى الأبد، وأنها لن تراها إلا في المناسبات، وأنها ستنتمي من الآن فصاعدا إلى الصعيد. وتأقلمت نهاد مع البيئة الجديدة؛ فتطبعت بسجايا جديدة، واكتسبت لهجة جديدة، وأنجبت للعمدة عشرا، نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وكلما زارت القاهرة كوافدة غريبة تطلعت إليها الأبصار بغرابة، وهي تشهد حرم العمدة بجسمها المترامي، وحليها الذهبية التي تغطي الساعدين والعنق، ولكنتها الغريبة المثيرة للضحك.
حرف الهاء
هنومة حسين قابيل
صغرى بنات سميرة وحسين قابيل، ولدت ونشأت في بيت ابن خلدون، على طراز أمها في الجمال؛ طويلة القامة، رشيقة القد، حادة الذكاء، شديدة في التمسك بالأخلاق والمبادئ، وشديدة الشبه في ذلك بأخيها الأصغر سليم، وتفوقت في الدراسة والتحقت بالآداب قسم اللغة الفرنسية. وقد تحمست لثورة يوليو باعتبارها ثورة إصلاح وأخلاق، ولكنها انقلبت عليها مذ حكم علي سليم بالسجن، ولم تتردد في اتهام حكيم بالخطأ في موالاته لها. وقد تخرجت في الكلية، والتحقت بالإذاعة لتفوقها من ناحية وبفضل توصيات حكيم من ناحية أخرى، وأراد عقل ابن خالتها صدرية أن يتزوج منها ولكنها رفضته لطولها وقصره، وقالت لأمها: سيكون منظرنا مضحكا إذا سرنا معا في الطريق.
Bog aan la aqoon