فتساءل عمرو: ولكن مستقبله ورزقه؟
فقالت خالته شهيرة وكانت حاضرة: الله لا ينسى مخلوقا من مخلوقاته، فما بالكم بواحد من أوليائه؟
والواقع أن سمعته انتشرت في صورة أساطير فأخذ يقصده أصحاب الآمال المعذبة محملين بالهدايا ثم النقود، حتى اضطرت الأسرة لإعداد حجرة المعيشة بالدور الأول لاستقبال زواره، وحتى ذهل عمرو عندما وجد رزقه ينمو ويفوق رزق أخويه مجتمعين. وتلاشت مشكلته بحكم العادة، وكأنما خلق لهذه الولاية، وبدل قاسم بملابسه الإفرنجية الجلباب والعباءة والعمامة، وأرسل لحيته، وقسم وقته بين استقبال زواره وبين العبادة فوق السطح، وحتى أمه - الأستاذة العريقة - أصبحت من تلامذته ومريديه. وفتح صدره لأحزان أسرته وانغمس في مآسيهم، وشيع أمواتهم، وصلى عليهم في جوف مقابرهم. وذات يوم - وكان قد بلغ الثلاثين من عمره - خفق قلبه خفقة أعادت إليه ذكريات قديمة مبللة بماء الورد، وناداه صوت ناعم للخروج من بيته فاشتمل بعباءته وخرج، ومن توه توجه نحو بيت عمه المجاور. واستقبلته بهيجة بذهول وهي تسائل نفسها عما جعله يقتحم وحدتها اليائسة. راحا يتبادلان النظرات كالأيام الخالية، ثم قال: رأيتك في المنام تلوحين لي.
فابتسمت ابتسامة باهتة لا معنى لها فقال: وقال لي هاتف من الغيب آن لكما أن تتزوجا.
وقام من فوره فغادر البيت راجعا إلى بيته وقال لأمه: أريد أن أتزوج فاخطبي لي بهيجة.
وقالت راضية لنفسها إن جميع الأولياء تزوجوا وأنجبوا. وعندما جاء لبيب لزيارتها أبلغته بالخبر. وشاور لبيب ابني عمه عامر وحامد فاتفق الرأي على أن قاسم قادر على القيام بأعباء أسرة ولكن الأمر رهن بموافقة بهيجة. والعجيب أن بهيجة وافقت. قيل: إنه اليأس. وقيل: إنه الحب القديم، ومهما يكن من أمر فقد زفت إليه بعد أن تجدد البيت القديم بالأثاث الجديد. وتم الزفاف فيما يشبه الصمت بسبب الإظلام المخيم في فترة الحرب. واحتفلت به المدافع المضادة للطيارات. ومضت سنوات عقم ثم أنجبت بهيجة ابنها الوحيد النقشبندي الذي شابه في جماله خاله لبيب. وكان كامل الصحة والذكاء فتخرج مهندسا في عام النكسة، وأرسل قبيل السبعينيات في بعثة إلى ألمانيا الغربية، وكانت حال البلد قد أرهقت صحته النفسية فقرر الهجرة، والتحق بعمل هام في مصنع صلب بعد حصوله على الدكتوراه، وتزوج من ألمانيا واستقر هناك بصفة نهائية. وحزنت بهيجة لذلك حزنا شديدا، أما قاسم فلم يكن يحزن لشيء ... وودعه قلبه بغير دموع.
قدري عامر عمرو
ولد ونشأ في بيت بين الجناين وهو الابن الأوسط لعامر وعفت. من صغره كان شعلة في اللعب والجد والخيال. ومن صغره أيضا أولع بالاطلاع والاهتمام بالحياة العامة بخلاف أخويه، ثم وجد نفسه في اليسارية. وعشق الفن والأدب رغم موهبته العلمية، ووضع حجر الأساس في مكتبته الخاصة وهو في أولى سني الدراسة الثانوية. وكاد يكون صورة من أبيه غير أنه كان أفرع طولا وأقوى بنيانا، إلى طبيعة إيجابية ضاربة جرت عليه المتاعب. وكم كانت دهشة عامر كبيرة عندما قبض على ابنه ضمن نفر من اليساريين، وهرع الرجل إلى حميه عبد العظيم باشا فسعى الرجل إلى الإفراج عنه بحجة حداثته ولكن الباشا ذهل وقال لعامر وعفت: كيف تكون هذا الولد في بيتكما؟
فقال عامر في حياء: نحن لا نقصر في تربيتهم ولكن الآخرين يتسللون إلى حياتهم فيفسدونها .
ودخل قدري كلية الهندسة وهو مسجل في الصفحة السوداء في جهاز الأمن. ونبه حليم أخته إلى خطورة الوضع على مستقبله، وهذا ما فعله حامد مع شقيقه عامر. وتكرر اعتقاله والإفراج عنه وهو طالب في الهندسة. وانجذب ذات يوم إلى شاذلي ابن عمته مطرية لجامع الثقافة بينهما ولكنه وجده بلا أدريته وصوفيته العقلية نقيضا له فضاق به وهجره. ولما تخرج مهندسا تجنب التوظف في الحكومة، فاشتغل في مكتب هندسي لأحد أساتذته المحالين على المعاش. وكان مهندسا كفئا ولكنه سيئ السمعة من الناحية السياسية؛ وأرادت أمه أن تزوجه ليستقيم أمره من ناحية، وليعوضها عن خسارتها في شاكر، ورحب من ناحيته بالفكرة. وأرادت أن تزوجه من إحدى بنات خاله لطفي باشا ولكنها لم تلق الحماس الذي حلمت به وحدست ما وراء ذلك من سمعته السياسية. وتضاعف همها عندما رفضه جيران لها لشكهم في إسلامه وبالتالي في بطلان الزواج! وغضب قدري على فكرة الزواج كغضبه على البورجوازية بعامة، وآمن بحكمة خاليه غسان وحليم في إضرابهما عن الزواج. ولما قامت ثورة يوليو كان قد كف عن نشاطه العملي في السياسة ولكن ظل مبقيا على اعتقاده وأصدقائه فلم تتبدد من حوله عتمة السمعة. وتقدم في عمله تقدما ملموسا ومبشرا بالمزيد، ولكنه اعتقل للمرة الثالثة، واستنجد أبوه ببعض كبار الضباط من تلاميذه السابقين فأكرموه بالإفراج عنه. ومنذ ارتبطت الثورة بالكتلة الشرقية مال إليها ومضى يرى في خطاها ما لم يكن يراه من قبل. ولعل ذلك مما هون عليه بعض الشيء مصاب الوطن في 5 يونيو باعتباره كان مدخلا حاسما لترسيخ النفوذ السوفييتي في مصر ومقربا إلى الثورة الشاملة حين تنضج أسبابها. ولعل ذلك ما جعله يستقبل نصر 6 أكتوبر بسخط لم يستطع أن يخفيه، وبذله أقصى ما عنده من منطق ومعلومات ليفرغه من مضمونه أو تصويره في صورة التمثيلية المفتعلة، وقال لنفسه: انتصار البورجوازية يعني انتصار الرجعية!
Bog aan la aqoon