ووجدا في عطا المراكيبي في حاله الجديدة الشخص المناسب للكلام في الموضوع. ولكن داود رفض باعتباره فلاحا حقيرا، ولم يشفع له علمه ولا زيه ولا وظيفته ... وتألم الشاب ونظر إلى أخيه مسترشدا فقال عزيز: عندنا أسرة الوراق التي كان أبونا يشتغل في وكالتهم.
أسرة من أصل مصري شامي، ووجدوا ضالتهم في حفيدة الوراق الكبير سنية الوراق، فرحبوا بالعريس، وتم الزفاف، ومضى داود بعروسه إلى بيت جديد بالسيدة، وقد أنجب منها ولدا - عبد العظيم - وثلاث بنات اختطفهن الموت صغارا. وترقى داود في عمله حتى حصل على رتبة الباشوية ورسخت مكانته الرسمية والعلمية. وقيض له أن يوفق بين شخصيتيه المتنافرتين توفيقا ناجحا فكان في عمله الطبي خير رسول لحضارة جديدة، له رؤيته المستقبلية الوطنية التي يحفزها شعور أليم بما ينقص وطنه في مجاله، وله صداقاته الوطيدة بأقرانه من المصريين والأجانب، وإلى جانب ذلك توافق مع زوجة - رغم جمالها ودرجتها الاجتماعية وتعليمها الأولي الساذج - لم تكن تختلف اختلافا جوهريا عن أمه فرجة السماك، ولا عن زوجة أخيه الأكبر نعمة المراكيبي ... بل إنه لم يتحرر من تقاليد الأسرة والبيئة، فكان يزور بيت الغورية بدافع الحب والواجب معا، وهناك ينسى شخصيته المكتسبة تماما فيجلس إلى الطبلية ويأكل بشراهة السمك والطعمية وثريد العدس والفسيخ والبصل الأخضر، ويتابع بعين العطف والمودة النامية بين عبد العظيم من ناحية وبين رشوانة وعمرو وسرور من ناحية أخرى، ويزور الحسين ويجول في الباب الأخضر، ويتعرف إلى أصهار أخيه عطا المراكيبي ثم ابنيه محمود وأحمد، وصديقه الشيخ معاوية القليوبي الذي يصير حما لابن أخيه عمرو. في تلك الأوقات كان يرتد إلى داود الأول ابن يزيد المصري وفرجة الصياد، ابن الغورية وروائحها الذكية النافذة ومآذنها السامقة ومشربياتها المسربلة بالتاريخ، وقد تمنى أن يجعل من ابنه عبد العظيم طبيبا مثله ليعيد سيرته، ولكن الشاب اتجه إلى دراسة الحقوق، مدرسة الصفوة والوزراء، ثم مارس حياة قانونية فخيمة وناجحة. ولما بلغ الدكتور الباشا الخمسين عشق جارية سوداء، وتزوج منها، محدثا في الأسرة دهشة ومثيرا أقوالا. وقد اختار لها مسكنا خاصا في السيدة، وخصص لها قبرا في حوش الأسرة الذي شيده يزيد المصري على كثب من ضريح سيدي نجم الدين عقب حلم رآه. وقد امتد به العمر حتى عصر الاحتلال وعاصر مع أخيه الثورة العرابية، وأيداها بالقلب، وتجرعا مرارة سقوطها، ورحل الشقيقان في عامين متعاقبين في أوائل عهد الاحتلال، ودفنا جنبا إلى جنب في القبر الذي افتتحه يزيد المصري، وسرعان ما حلت بجناحه الحريمي فرجة الصياد، ونعمة عطا المراكيبي وسنية الوراق، والجارية آدم في قبرها الخاص.
دلال حمادة القناوي
ولدت ونشأت في بيت والديها بخان جعفر، وهي صغرى ذرية صدرية وحمادة القناوي، ومسكنها على مبعدة يسيرة جدا من بيت جدها عمرة، وكانت تألف عمرو وراضية كما تألف والديها. ومثل جميع الأحفاد تحب راضية وتسحر بغرائبها، خاصة أن الجدة لا تكف أبدا عن نشر ثقافتها الفطرية المسربلة بالخوارق في جميع الأجيال. وتقول لابنتها صدرية: دلال جميلة، ولكن كيف تسللت لذريتك القاهرية هذه النبرة الصعيدية؟
فتقول صدرية ساخرة: من البغل!
مشيرة إلى زوجها الذي أنفقت حياتها في ترويضه، وتضحك راضية قائلة: إنه غبي كالحجر، ولكنه رجل كريم.
وكعادته لم يسمح لدلال - كنهاد ووردة - بأكثر من عامين في الكتاب ثم تولت صدرية تربيتها وتدريبها. وراحت صدرية تستعرض فتيان الأسرة من أبناء أخواتها وأخويها وعمها وآل المراكيبي وداود. ولكن بنات القناوي كن يجيئهن العرسان من قنا وما حولها باسم آل قناوي، تقدم لها عمدة شاب يدعى زهران المراسيني يملك أرضا مجاورة لأرض أبيها وأعمامه.
وقالت صدرية: قضي علي بأن يفرق القطار بيني وبين بناتي.
وأجلت مأساة شقيقتها وردة الزواج عاما، ثم زفت إليه في القاهرة، وبعد أسبوع واحد حملها إلى وطنه، واستقرت دلال بالكرنك بصفة نهائية، وأنجبت أربع بنات وثلاثة صبيان، ولم تكن تزور القاهرة إلا في المناسبات.
دنانير صادق بركات
Bog aan la aqoon