أين الإنسان الذي يرى في كل شيء من الطبيعة أشعة تبتسم كأنها تحييه فيبتسم لها كأنه يرد التحية، فلا يزال دهره مضيئا كذلك بأشعة ابتسامة وإن غمرته ظلمات الدنيا، كما لا تزال الحباحب مشتعلة بنارها الإلهية وهي حلك الظلام؟
أين عاشق الطبيعة بين هؤلاء الناس؟ أين ينبوع الضياء الحي الذي تراه لسعة نفسه وترامي ابتسامه متلألئا في طرفي السماء والأرض كأنه منفجر منهما جميعا، يأخذ من الله فيبتسم، ويأخذ من الناس فيبتسم، ويتناول كل شيء فيستشعر منه تزنح الطرب كأن فيه بعض الرجفات (الاهتزازات) الكهربائية التي تحدثها نار الفجر الشمالي الجميلة على ما يصفها الطبيعيون؟
أين الإنسان الذي لا تنحدر من أذاته دمعة عين، فيكون ابتساما في أفواه الناس كيفما طلع عليهم؛ لأن الطبيعة كلها ابتسام في فمه. ويراه المبتئس حليف الحزن الأحمق الذي لم يفد من علم الحزن إلا فلسفة الحماقة - كأنه لإشراقه وانبساطه وترفعه ظل ملك يتنقل على الأرض بتنقل الملك في السماء، ويتوهمه لا يحزن ولا يبكي حتى كأن طينته التي خلق منها جبلت من النور الممزوج بدموع الندى الخالد فلم تعد السماء تسبب لها من حوادث الدهر دمعة؛ لأن فيها دموعها السماوية، ولا يدري فيلسوف الحزن الأحمق أن ذلك الرجل الذي يحسبه ظل ملك إنما هو إنسان يحزن ويبكي كسائر الناس وربما انفجر باكيا ولكن بكاءه معان من التسليم لله تقطر في بعض ابتساماته كما تنبثق دموع الفرح من غلبة السرور.
والمرء إذا استطاع أن يتحد بقضاء الله وقدره فلا يتسخط أحدهما ولا يتبرم بأمر الله فقد استطاع بذلك أن يبتسم الابتسام الإلهي الذي يكون علامة نبوته الإنسانية في هذه الطبيعة.
إن الرجل من علماء الفلك حين يجد في تعرف أسرار السماء واكتشاف آثار الله منها يرى نفسه كأنه يعيش في الأزل الذي لا فناء له، وكأنه في حياته بصيصا من أضواء النجوم يصله بها وكأن مرصده فلك لكوكب نفسه؛ وكذلك يرى عالم الجمال الطبيعي الذي تهبه الطبيعة حاسة سادسة من الابتسام أنه يعيش في ربيع دائم كأنما هو زهرة تغتذي بنور السماء فلا تبرح ناضرة ما بقيت في السماء لمعة نور، وهذا رجل قد بذل مقادته لله طائعا وتوكل عليه راغبا فترى تسليمه لله قد جعله الله فيه قوة لينة كطبيعة اللجة التي تصدم كل شيء ولا يكسرها شيء؛ لأنه ليس قوامها من الصلابة المادية التي تنكسر وإنما شدتها من اجتماعها واندفاعها كصلابة الثقة التي تكون من اندفاع العقل بالإرادة القوية؛ وآية ذلك أنه إذا رفع إليك عينه رأيت فيها نظرة مستطيلة كأنها آتية من السماء، وترى لها عليك سلطانا كأنها نفس قوية لا نظرة ضعيفة؛ إذ تنبعث من نفسه النقية إلى عينه الصافية فلا يعترضها إلا القلب المطمئن الضاحك الذي هو في جسم عالم الجمال كالطفل الجميل في بيت السعداء: تأتي به السعادة مرة ويأتي هو بها في كل مرة، وتلك النظرة إنما هي نبوغ في بعض العيون كما أن العقول نبوغا بيد أن الطبيعة لا نظفر بها إلا في الندرة كما يظفر الزمن بجبابرة العقول الذين ينصبهم حدودا للتاريخ الإنساني، فربما غبرت الأجيال المتطاولة مجنونة بهذا العارض الزمني حتى تصيب لها عقلا من عقول التاريخ، وربما عبرت الطبيعة أجيالا متطاولة وهي تشكو عمى الناس عن جمالها حتى تأنس في أحدهم عينا من عيون الجمال.
ولقد يحسب الأجلاف من غلاظ الأكباد أن الطبيعة مبتذلة ويجدون لها غلظة في أنفسهم كأنهم ينظرون إليها من أكبادهم، وكأن ضلالهم ليست كل شيء فيها فحيثما انكفأوا لا يرون إلا طيفا من الموت تنفر في وجهه ظنون الفزع، وإذا لفتهم إلى الجمال الرائع لفتوك منه إلى قبح يعرفونه ولا تعرفه، لأنك تعتبر شكل الصفة الجميلة وهم يعتبرون شكل المادة، كأنهم يريدون أن ينشقوا ريح الزهرة من طينها، وكأن الأشياء الجميلة عندهم ألفاظ من لغو الكلام تتألف من الحروف التي تدل بتركيبها على المعاني ولكن لا معنى لحروفها تلك؛ إذ هي مؤلفة على نسق غير الذي يعهدونه من نسق الصناعة المادية، فيا ويح هؤلاء وأولى لهم ثم أولى! أيريدون أن يستعين الله بقوم من أهل الحرف والصناعات على إصلاح ما خلق وتنبسق ما ابتدع ليجدوا فيه الجمال الذي يصلح لأوهامهم، ويكافئ بمعانيه مقادير أفهامهم؟
لتنطفئ الشمس إذن كلما رمدت عين إنسان ولينسدل الليل ثانية كلما أراد فاسق أن يتلصص في مشرق الضحى، ولينهمر الغيث كلما جفت لهاة من الظمأ في الصحراء، ولكن كل نهار على ما تشاؤه البلد الرعناء يطلع بالصباح عليها ربيعا، وينقلب في الظهيرة شتاء، ويحول في الأصيل خريفا، ويرجع في العشية صيفا، وإن انقرض الناس بهذه الحياة الذريعة كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها! ويحكم أيها القوم! ألا يمكن أن تكون أذواقكم سقيمة قبل أن يكون لكم هذا السقم في الطبيعة؟ وليت شعري ما أمركم والانحدار فإذا كنتم في الأسفل ثلجتم بذلك ورأيتم أنه لا أسفل منه؛ إذ ليس لكم بعده منحدر فجعلتموه في نفسه مرتقى، ولم ترفعوا أبصاركم إلى الأعلى لتستيقنوا أنكم في أسفل سافلين وأن سبيلكم الصعود لا ما أنتم فيه من أمركم!
ليس جمال الطبيعة إرادة ولا شهوة، وإن هذه الساعة الفلكية الكبرى (السماء) لا تقدم الوقت ولا تؤخره من أجلنا، فإنه لا ننتهي إليها من هذا العالم كله إلا الألحاظ؛ ولو اجتمع أهل الأرض في صعيد واحد وصوبوا ألحاظهم جميعا إلى ذرة من الهباء ما تحركت الذرة ولا قدمها ذلك ولا أخرها.
ومصادفات الأقدار المضطربة التي لا تأخذ من الناس في ناحية معينة بل تتاح للسعداء والأشقياء جميعا من عالم المجهول بسبب مجهول في وقت مجهول - إنما هي مصادفات في وهم ذلك الإنسان لا يريد أن يرتقب من الغيب حقيقة محزنة كما ينظر منه النعمة السابغة، وهي في ذاتها حقائق ثابتة تجري سواء على سنن مطرد؛ ولما كان الإنسان لا يرجوها إلا خائفا ويخاف منها إلا رجيا فهو بطبيعته يصبغها صبغة من الحزن ما دامت في غيبها حتى تقع؛ فلا يجعل هذا الإنسان وهمه قاعدة للحقيقة، ولا يرين أن حقائق الجمال الطبيعي مما يكون طباقا لأوهام كل نفس؛ فإن ذلك تغيير للنفس لا للطبيعة.
وعندي أنه لا فرق بين الملحد الكفور الذي لا يحب حقيقة الموت إلا موت الحقيقة فيظل في قياس وهمه عائشا ما عاش كأنه بدن ميت لا نفس فيه، وبين ذلك الجلف الذي لا يدرك أسرار الجمال الطبيعي فتظل هذه الطبيعة في قياس وهمه بالغة ما بلغت من الحسن كأنها دينار زائف جديد يعجب من رونقه ويعجب من كساده ...
Bog aan la aqoon