أنت يا قمري الجميل راية السلام الإلهية البيضاء، لا ترفع للنهار حتى يغمد حسام الضياء في جفنه الأسود، وتسكن غمغمة الحرب التي يتقاتل أهلها على الحياة، وتنطبق أجفان الناس فكأن كل جفنين إنما يمثلان حياة امرئ زمت شفتيها كيلا تنزعج ملائكة السماء بهذه الأصوات الوحشية المنكرة التي تنبعث من فم النهار فتقبل على التسبيح لله، وتقبل الطيور وهي ملائكة الطبيعة على المناغاة، ويقبل العشاق وهم ملائكة الناس على الفكر والنجوى، ويقبل الشعراء من وراء أولئك جميعا فينظمون الشعر الإلهي الذي تمتزج فيه ألحان الملائكة بأنغام الطيور وآهات العشاق؛ فيمتلئ من أسرار الفكر والعاطفة والقلب ويخرج ويكاد يخلق منه العقل، وترى فيه الروح بابا من أبواب السماء كأنه الطهارة، وكنا من أكنان الطبيعة كأنه القناعة، ومنفذا من منافذ القلوب كأنه الحب فإذا هي بالسماء والأرض بين كلمات، وإذا كلمات تملأ بين السماء والأرض؛ ثم ترى الفكر الإنساني قد استحال إلى أمواج من الخيال يجري فيها القلب كأنه زورق من الزوارق فتثيب إليه وما هو إلا أن يحتويها حتى تتناول مجدافه البديع المصنوع من جوهر العواطف والذي لا يبرح ملتصقا به كأنه يد الحسناء على قلب عاشقها، ومن ثم يجري بها في بحر الجمال الذي تشبه السماء كلها موجة من أمواجه الأبدية الذي لا ساحل له إلا نور الفجر، والذي يخيل إلي أنك أنت أيها القمر جزيرة تلوح فيه على بعد.
لا كهذا الشعر البارد الثقيل الذي تفرغه ... أفواه بعض شعرائنا ... المشهورين
2 ... وكأن ألفاظه قضقضة الأسنان من شدة البرد، وكأن معانية العذبة ماء يستساغ على الريق، وإذا بلغت به الحماسة المنطقية ... رأيته فاترا كإنما يتثاءبون به، وإذا أراد أحدهم أن يضع روحه في بيت من الأبيات ولو انطرح بعده جثة باردة ... خرج هذا البيت رغم أنفك حارا كما شاء وانصرف عن أنفك وأنت تتنسم كأن ما فيه من الروح إنما خرج إليه من تحت إبطه ...
شعراء!! وشعراء الشرق!! نعم ونعيم عين: وعند الزنوج جماعة يحسنون الرقص على نقر الطبول هم شعراؤهم، بل شعراء العقول الذاهلة والأحلام الطائشة، بل شعراء الوحشية التي تكتب بأسنانها وأظافرها.
هذه الوجوه التي صلبت من التمرغ على الأعتاب، وهذه الأيدي التي ينكرها الله حين تمد ... وهذه الرءوس الفارغة إلا من جنون العظمة، وهذه القلوب التي تسع كل متماثلين إلا الإخلاص وحب الحقيقة، وهذه الأفواه التي تمج الماء في كل جهة، وهذه الألسنة المعقودة على بعض ألفاظ كما يعقد القروي الجلف تلك العقد الكثيرة في منديله على درهمين - هذه كلها، مجموعة ومتفرقة، مما يتنزه الشعر الإلهي أن يسف إليها؛ لأن أنفاس السماء لا تسقط هذا السقوط كله ولا يعذبها الله بأن تهب على الأرض لكنس غبارها.
لو عدا الشاعر الصحيح طور التكوين الشعري بصفاته لما كان منه إلا نبي. وإن تلك الأعضاء الشعرية التي يفيض الفكر عليها كلها لهي الأعضاء التي يتجسم بها مجد الأمة ليكون ملكا من ملوك التاريخ لا لصا من لصوصه تشهد معارف وجهه أنه منطلق من حبسه، فيتراءى عليه غبار الأعتاب كأنه بقية مما كان فيه من الظلمة وتراه لا يلوذ من خزيه إلا بزوايا التاريخ المجهولة ويود بجدع الأنف لو يمسخ حجرا من أحجارها التي كل عذرها في الخراب.
الشاعر الصحيح رجل الكمال السماوي؛ لأن الشعر إذا لم يكن مع الشرائع كان عليها، وفي ذلك فساد كبير؛ والشعراء أنفسهم: كالشرائع تكون لمن يشاء أن تكون له؛ وهم يحكمون النفوس بالحب، والشرائع تحكمها بالرهبة، ولولاهم ما أعطي الناس قوة فهم التعزية فلم يكن لهم أن يطمئنوا لدين من الأديان، وإنك لترى الشاعر يستل جمال هذه الطبيعة كلها من نفسه الكبيرة ليلقي على الناس محبة منها، كأن الطبيعة لا تجد طريقا إلى النفوس الضعيفة إلا بعد أن تصفى وتصفق في نفوس الشعراء فتخرج منها كما تنبعث المعاني الغزلية الكبيرة من عيني الحسناء الفاتنة ولكل معنى طابعه الخاص به في النفس مع أنها جميعا من مصدر واحد.
ما هذه العظائم الكبرى التي يمثل بها الزمن تاريخ العقل الإنساني إلا أفكار ولدت بديئا في قرائح الشعراء، ثم كفلتها الطبيعة تحملها في مهد من قلب امرأة جميلة، أو تمتهد لها في عقل رجل حكيم، أو فيما تختاره هي كائنا ما كان، حتى في الاستبداد والوحشية والحماقة والجنون وغيرها؛ لأن للطبيعة حكمتها التي لا يعرف كنهها الإنساني إلا باستقراء تاريخ الأشياء في أجيال وقرون قبل ذلك كثيرة، وهو نفسه بعض هذه الأشياء.
فالشاعر الزائف كالدينار الزائف: كلاهما لا يجوز على أحد إلا مع الغفلة؛ وكلاهما رذيلة في نفسه بالغش ومصيبة على غيره بالخسارة.
وإن الذباب ليقع على الزهر كما يقع النحل ليجني العسل، وإنه ليطن في الروض كما تغرد الطيور لترقيص قلوبها الصغيرة؛ ثم يطير عن الزهرة ذبابا كما وقع ويسكت ذبابا كما طن، وكيفما نظرت إليه لا تراه إلا ذبابا؛ ولكنه من الطير، ولكنهم من الشعراء!
Bog aan la aqoon