187

Sheekada Ciise Ibnu Hishaam

حديث عيسى بن هشام

Noocyada

ثم أضيئت بعد ذلك شموع الكهرباء، فعادت الشمس متوزعة في مصابيح الضياء، كالنجوم تتلألأ في أفق السماء، وتقشع دياجي الظلماء، ولما توسطنا ساحة «الأوپرا» و«الأوپرا بار»، وقف الباشا وقفة الإعظام والإكبار، يكفكف غرب الدمع والاستعبار، ويقول: سلام على إبراهيم، أإبراهيم في النار، كيف لا يضطرم القلب استعارا، ويجري الدمع مدرارا، فلا أستطيع أواري،

2

ولا أستطيع أواري، وقد تمثل أمامي في هذه البقعة، وهي موسومة بسوء السمعة، بطل مصر، ورافع بنود النصر، وقائد جيوش الحرب وهاديها، في مفاوز الأرض وبواديها، وموقد نيران الوقائع وصاليها، وخائض غمرات المعامع وجاليها:

في كل منبت شعرة من جسمه

أسد يمد إلى الفريسة مخلبا

وكيف جاز لهم أن يضعوا عنوان البأس والجد، في مواضع الهزل والدد،

3

ويقيموا لإبراهيم صنما على صورته، في وسط سوق الفسوق وسرته، مشيرا بيمناه إلى مواطن اللهو والفجور، وأماكن الفحش والعهور، ودينه ينهاهم عن تشييد الأصنام وإقامتها، ويأمرهم بكسرها وإبادتها، ويا بؤس قوم جعلوا اليد التي كانت تشير للكماة والفرسان، في ميدان الضرب والطعان، بمصافحة المنايا، ومقارعة الأفران، تشير اليوم وسط هذا الميدان، بمغازلة البغايا، ومعاقرة الدنان، فسبحان محول الأحوال ومبدل الأزمان، فقلت له: ما هذه الأفكار المحزنة، أحنينا إلى تلك الأزمنة، وقد انقضت بخيرها وشرها، وذهبت بحلوها ومرها، وأين أنت من طريقك في الحكمة والسداد، ومن سبيلك في الهداية والرشاد؟ فخفض عليك من حزنك وهمك واترك تلك الهواجس فأنت ابن يومك، ولا تجعل لهواك القديم عليك سلطانا مطاعا، فذهب ما استفدناه من العلم ربحا مضاعا، أما إقامة التماثيل في الميادين، ومخالفتها للشرع والدين، فقد أقامها حكامنا تقليدا للغربيين، ولمن ينكرها أحد من طلبة العلم وعلماء المسلمين، فاستنامت إليها الأفكار، ولم يوقظها التحريم والإنكار.

وأما وضع التمثال في هذا المكان دون سواه، وإشارته فوق الحصان بيمناه، فلعل الآمر بوضعه أراد أن يذكر هؤلاء الغافلين الذاهبين بما كان لآبائهم الأولين، من الشأن الرفيع، والركن المنيع، أيام إمارته، وينبههم على ما انتشر ذكره في الآفاق، وخلدته لهم بطون الأوراق، من اقتحام المهالك، وافتتاح الممالك، تحت قيادته، وهو يشير اليوم بتلك اليد؛ ليستفزهم إلى مواقف العز والمجد، ويستنفرهم عن مواطن الخلاعة والبطالة إلى مواطن الشجاعة والبسالة، فتبسم الباشا من قولي ضاحكا، وقال: ما عهدتك في الجواب محاولا مماحكا، فقلت له: دع هذا وانظر إلى هذه البنية الإيوانية، ذات الأرائك الخسروانية، فقال: أعظم به من بناء، بين بيوت الكبراء! قلت: هو بيت لهو رفع إسماعيل قواعده، وبوأ الناس مقاعده، يشاهدون فيه صنوف الألاعيب، وضروب الأعاجيب، مما يؤخذ عن أساطير الأولين، وأقاصيص الراوين، وما تفتن فيه كل غادة حسناء، من جمال الزينة وحسن الرواء، وتفتن به كل قينة هيفاء، من فنون الرقص والغناء، اقتداء بالغربيين في ديارهم، واحتذاء لآثارهم، وقد بقي من بعده تنفق عليه الحكومة من عيش الصانع والفلاح، لتفكهة النزلاء والسياح، ثم انظر أمامك إلى هذا المجتمع الملتحم، والموقف المزدحم، فالتفت فقال: ما هذه الضوضاء العظيمة؟ أمأتم ما أرى أم وليمة؟ قلت له: لا بل هو مجتمع عام تتزاحم فيه المناكب والأقدام، لمسامرة الأصحاب، ومعاقرة الشراب، وبينا نحن كذلك؛ إذ وقف بأصحابنا المسير، عند باب هذا الحان الشهير، فسرنا في عقبهم، ولحقنا بهم، فسمعنا الخليع يقول لصاحبيه: كونا هنا في الانتظار، حتى أعود إليكما بالأخبار، إنجازا لوعدي، وإيفاء بعهدي، فأجاباه بالقبول، وتقدما للدخول، فقال العمدة للتاجر: ما أحوجني إلى تضييع الزمن، ورياضة البدن، بشرب كأس من العقار، ولعب دور من «البليار» وقال التاجر: وما أحوج يدي إلى ملامسة ورق القمار، وأذني إلى رنين الدرهم والدينار! ثم صعدنا وراءهما إلى قاعدة بأعلى المكان، أعدت للعب والرهان، فتقدم العمدة وهو يهز أعطافه وأردانه، فتسلم كرة «البليار» وصولجانه، وقعد التاجر وهو يرتعد من الفرق، في مجلس اللاعبين بالورق، وجلسنا نحن للنظر والسمع، في غمار ذلك الجمع، فسمعت عن يميني أحد السماسرة المعروفين بالدهاء، يقول في مناقشة لأحد أرباب الثروة والغناء:

السمسار :

Bog aan la aqoon