73

إنني متفائل مثلك، فحبل الكذب قصير.

وفيما كان هذا الشباب الواعي يتبادل الأحاديث بين التفاؤل والتشاؤم في هذا الجو الواجم يكتنفه الغموض، ناداهم الساحر قائلا: تهيئوا فقد دنا موعد الخروج إلى القصر العامر، وإنها لليلة لها ما بعدها، ثم دنا من تلميذه وأسر في أذنه: إياك إذا لم تر التاج أن تنكر وجوده، ففي إنكارك حتفك، أفهم رفيقيك فإنني ضنين بكم وسأبين لكم السر بعد حين، وإياكم أن تعلنوا عن أي ارتياب قبل أن أوضح لكم أمر هذا التاج، فإن تأثير سحره عجيب، إنه في حراسة قوم من عفاريت الأرصاد، فلا يظهر إلا لمن كان على هيئة روحية ملائمة، فإذا لم تتحقق فيكم أو في أحدكم فليصطنع وليظهر أنه يراه، وعلي إنقاذ الفاقد لتلك الهيئة الخاصة من شرور نفسه، فكونوا يقظين، ولا تخشوا ضرا ولا أذى ما دمتم مع أستاذكم ظاهرا وباطنا، وفقكم الله.

في هذا الجو المفعم بالوجوم والشكوك والحيرة، سار الشبان الثلاثة في موكب الساحر والخواطر تغلي في نفوسهم، إذ تشتعل نيران الارتياب والخوف في قلوبهم، ولكن لا بد من الصبر حتى تسنح ساعة المبادرة، والصبر مفتاح الفرج، وقد أدهشهم تحمس الجماهير لرؤية الموكب، ولا سيما عندما كانت عيونهم تقع على طبق تاج الإنقاذ، فالتاج السحري المنتظر أصبح في نظرهم رمز إنقاذ مما هم فيه من فاقة واضطراب وظلم، وهكذا يفعل الجهل بالجماهير الغافلة، ترقص على قبور أعدت لوأدها.

وصل الموكب إلى القصر بعد مظاهرات وصخب وتهليل، وأودع الطبق في غرفة خاصة ينتظر الساعة، ولا خوف عليه من أن يكشف الغطاء عنه أحد؛ لأن الجميع غدوا يعلمون أن التاج لا يرى إلا على رأس صاحب الجلالة.

لم يكد المدعوون من أركان الدولة والأمراء والوجوه ينتهون من تناول طعام العشاء على المائدة الملكية الباذخة، وقد تعود الأستاذ الجليل مراسيمها، فلم يعد يخطئ بها كما سبق له، حتى استعد الجميع في القاعة الكبرى لاستقبال ذلك التاج، يزين رأس الملك، ويحل بسحره مشاكل الدولة.

دخل الأستاذ الجليل الغرفة التي وضع فيها الطبق الذهبي، ثم خرج على هيئة خاصة، يتلو الأسماء ويعزم ويدمدم، حتى بلغ العرش وقد جلس عليه الملك تتأكله نار صبر الانتظار، صمت الساحر برهة، ثم صرخ بانفعال وشدة: إلي يا هامان ويا دمدمان، اكشفا الحجب عن هذا التاج السحري ولتكونا رصديه الملازمين إلى الأبد، ثم وضع يديه على رأس صاحب الجلالة، وكأنه يضع شيئا سريع العطب، وما رفع يديه حتى انقسم الحضور، فبعض بدأ بالتهليل وبإيراد كلمات الإعجاب بهذا التاج العجيب، مدعيا أن أنواره تكاد تخطف الأبصار لما فيه من جواهر ومن نفائس الأحجار، وبعض أنكر وجود أي تاج على رأس الملك، وبعضهم وقف مشدوها لا يدري ماذا يقول.

انكشف السر للشبان، فلا تاج ولا إنقاذ، وإنما هي شعوذة، بنيت على فراغ يستغلها المشعوذ الأكبر، ويحاول استمرار الاستغلال في شركة سرية، ضحيتها الشعب والمملكة، ويحميها الملك، وما انكشف الأمر حتى حاول التلميذ الكلام ليوضح هذه الأمور، ولكن مفاجأة الملك للجميع بانسحابه إلى دائرة الحريم أعاد للصمت الرهيب سلطانه في تلك القاعة، وقد أصبح الناس فيها في شبه غيبوبة، شملت الجميع حتى المشعوذ، وقد كادت تخونه أعصابه في تلك اللحظة الرهيبة، وما زال الذهول مستوليا على هؤلاء المشدوهين المضطربين وقد تملكتهم الحيرة في تفسير رموز ما وقع، حتى سمعت من دائرة الحريم المجاورة أصوات استغاثة تطلب النجدة، فتردد هؤلاء قليلا في بادئ الأمر، ولكن ازدياد صراخ النساء دفعهم إلى داخل الحرم، فإذا الملك في حالة ثورة نفسية عنيفة وفي يده خنجر يحاول الفتك به بأمه، وكان يردد بصوته المرتفع وبحزم شديد قوله: إن لم تخبريني الحقيقة قتلتك توا.

وكانت الأم تقول له بصوت عاطف حنون: إنك واهم، فوالله إنني كنت ولا أزال الأمينة الوفية على شرف أبيك الملك، فلا مرية في بنوتك له، لعن الله من شوش عليك عقلك، وأدخل في صدرك الوساوس، وأساء ظنك بالمخلصين حتى بلغ شره أمك، وهي من أفنت ذاتها في ذاتك.

أدرك المشعوذ بسرعة البرق أن الملك ارتاب بأمه؛ لأنه لم يشعر بالتاج على رأسه، ولعله عندما دخل إلى دائرة الحريم نظر في المرآة فلم يجد على رأسه شيئا فثارت نفسه، وحاول قتل تلك الأم لثقته بصدق شعوذاته، فابتسم ابتسامة ماكرة تسر الارتياح لهذه الثقة العمياء وتظهر الاعتماد على تلك الثقة في تهدئة ثورة الملك، ثم استمر في شعوذته بجرأة نادرة وحضور ذهن غريب فقال: أسرعت يا مولاي، ولو سألتني في القاعة لأخبرتك أن حامل هذا التاج لا يراه، وإنني أنا المذنب؛ لأنني لم أجل لصاحب الجلالة ذلك السر قبلا، فاحكم علي بما تشاء، فوالدة صاحب الجلالة هي من أطهر النساء، وأنا أثق كل الثقة بما أقول؛ لأن الأرواح تؤكد لي ذلك الآن في هذه اللحظة، وتظاهر المشعوذ بالانخطاف.

كاد الملك يخدع أيضا، وعلى الرغم من جميع ما مر به من إفك ذلك الرجل ومينه، لولا أن وقف التلميذ وطلب الخلوة بصاحب الجلالة لأمر خطير ينقذ المملكة من الدمار، وما أجيب إلى طلبه حتى طلب الحجز على جميع من حضر الحفلة إلى ما بعد انتهاء حديثه في خلوته بمليكه، وهكذا كان.

Bog aan la aqoon