Tani waa Wax Walba
هذا هو كل شيء: قصائد من برشت
Noocyada
1
وأما الشعر الذي يهمنا أمره هنا قبل كل شيء فنجده ينسج أجنحته من جميع الأشكال الشعرية المعروفة: من الحكاية أو القصة الشعرية (البالاد) إلى المرثية، والقصيد الموجز (الأبيجرام)، ونشيد الجوقة (الكورال) وقصائد المناسبات، إلى الأغنية البطولية، والترنيمة، وأغنية المهد، وأغاني الحب، والأنشودة والمزمور والسوناتة، والثلاثية (الترسينة)، والرومانسة، وأغنيات (أو مواويل) المغنين الجوالين والشحاذين والصعاليك. كل ذلك مع السيطرة المقتدرة على جميع الأشكال العروضية والإيقاعية، سواء كانت تقليدية متقيدة بالأوزان والبحور والقوافي، أو كانت من الشعر الحر أو المرسل،
2
مع احتفاظ هذا الشعر على الدوام بطابع التشكك، والتساؤل، وإبراز المفارقة والتناقض، واستثارة القارئ للتفكير بنفسه ولنفسه، واتخاذ المواقف العقلانية والعملية مما يعرض عليه في القصيدة أو على خشبة المسرح، وتحريضه على عدم التسليم أو الاستسلام لما يصور له على أنه ثابت أو دائم أو مقدس، وكل هذا مع احترام حريته في قبول ما يعرضه الشاعر عليه من مقترحات لتغيير نفسه وتغيير الواقع.
عندما فرغت في منتصف الستينيات من اختيار هذه المجموعة وحتى صدورها بعد ذلك بسنتين، لم يكن تحت يدي في ذلك الوقت سوى مجموعة صغيرة منتخبة من قصائد برشت وأغانيه، بجانب بعض مسرحياته - في طبعتها القديمة تحت عنوان «المحاولات» - فاخترت منها حوالي ثمانين قصيدة وأغنية مما وجدته ملائما لذوق القارئ العربي ولما أملاه علي ذوقي وطبعي وميلي إلى الحكايات الشعبية والأغاني الجماعية والأشعار المقتبسة من الحضارات العريقة كالصين ومصر القديمة، والقصائد التي تنزف بدماء الإنسان العادي ومواجعه وتكشف عن بشاعة الحروب وفظاعة القتلة والسفاحين الذين يدبرونها ويتاجرون بها ويجرون «الرجل الصغير» إلى مذابحها. لم تكن الطبعة الكاملة لأشعار برشت قد ظهرت بعد، إذ كان على القراء أن ينتظروا ما يقرب من الثلاثين عاما قبل صدورها عند نفس الناشر - وهو زور كامب - في سنة 1990م في حوالي ألف وثلاثمائة صفحة.
3
وقد استقبلت «قصائد من برخت» (بعد أن رفضتها بعض دور النشر «التقدمية» في بيروت والقاهرة)
4
استقبالا حسنا من القراء، ولقيت صدى طيبا لدى عدد كبير من الشعراء والكتاب والنقاد، ثم دارت عجلة الأيام والأحداث فعكفت طوال الشهور الأخيرة على مراجعة تلك الطبعة القديمة مراجعة دقيقة (أدهشتني وأخجلتني كثرة الأخطاء التي وقعت فيها!) وأضفت إليها عددا كبيرا من الأغاني والحكايات الشعرية، والقصائد التي كتبها الشاعر خلال الخمسة عشر عاما التي قضاها في منفاه، أو بالأحرى في منافيه المتعددة من الدنمرك والسويد وفنلندا إلى لوس أنجيلوس في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية حتى رجوعه إلى منفاه النهائي في برلين الشرقية، حيث عاش سنواته الأخيرة في ظل التطبيق الاشتراكي الغبي والمتزمت لحكومة ألمانيا الشرقية السابقة وحزبها الواحد. ويكفي أن تنظر في الفهرس التفصيلي لهذه المجموعة الجديدة لترى كيف التزمت بالترتيب التاريخي الذي غاب عني الالتزام به في الطبعة السابقة، وكيف تتبعت المراحل والمجموعات الشعرية المختلفة التي نشرها الشاعر خلال حياته القصيرة، وحرصت على تمثيل كل الأشكال الشعرية والاتجاهات الفنية والفكرية والموضوعات التي استأثرت باهتمامه وحبه، وعرضت علينا جراحه وجراح بلده التي مزقتها حربان عالميتان شوهتا صورتها وقيمها وثقافتها في عيون العالم، وكيف انضمت إلى هذه القصائد المتنوعة الأشكال والأغراض قصائد وأغان وحكايات مأخوذة عن معظم مسرحياته التي أتمها أو التي بقيت شذرات ناقصة، مع مراعاة الترتيب التاريخي في كل الأحوال، بدءا بقصائده «التعبيرية» في المرحلة الفوضوية والعدمية التي وقع فيها تحت تأثير هذه الحركة الفنية والأدبية ذات المزاعم المطلقة والتهويمات الغامضة والصاخبة التي قاومها وحاربها بكل العنف والقسوة، حتى تلك القصائد التي سبقت وفاته المفاجئة وعبرت عن ضيقه بحياته وواقعه وخيبة أمله في آماله الاشتراكية والإنسانية التي رأى طيورها المتعبة تتخبط بأجنحتها في وحل الواقع الممل والتطبيق المتعثر في مهاوي الإرهاب الأيدلوجي والبوليسي.
ولما كان الشعر والدراما مرتبطين ارتباطا حميما في إنتاج برشت، وكان كلاهما مغروس الجذور في حياته وتاريخه الفردي وفي حياة بلاده وتاريخها الاجتماعي، فقد رأيت من الضروري أن أعرض عليك مراحل التطور المهمة التي مرت بها «أنا» الشاعر التي حرص دائما على مسافة البعد بينه وبينها، وكانت دائما بالنسبة إليه هي «نحن» بلاده والعالم والبشرية بأسرها، كما كانت - إذا جاز التعبير - أنا محايدة وباردة وموضوعية، بل ملحمية، لم تكشف عن هويتها وهمومها الشخصية والعاطفية إلا في عدد جد قليل من قصائد الحب وأغانيه التي يمكن القول أيضا بأنها تختلف في كثير من الأحيان عما ألفناه من شعر الحب الغنائي والذاتي، وأنها تحاول أن تخفي من عاطفيته الصادقة المتأملة أكثر مما تظهر (راجع على سبيل المثال ما يمكن أن نسميه قصائد الاعتراف مثل أشهر قصيدتين له وهما برت برشت (ب. ب) المسكين، وإلى الأجيال القادمة، وكذلك أغاني الحب القليلة مثل: أغنية عن حبيبة، وأبدا لم أحببك مثل هذا الحب، وذكرى ماري).
Bog aan la aqoon