Waqtigan iyo Dhaqankiisa
هذا العصر وثقافته
Noocyada
لقد عرفت أستاذا للفلسفة في إحدى جامعات أمريكا، كنت أزامله في الجامعة نفسها وفي قسم الدراسات الفلسفية منها، وكان ذلك إبان فترة قضيتها هناك أستاذا زائرا، فكان الأستاذ الأمريكي يملك بيتا صغيرا في قلب غابة، تقع على بحيرة عند الحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة وكندا، وكان له في تلك البحيرة زورق بخاري، فإذا ما جاءت عطلة آخر الأسبوع، أحيانا يذهب بسيارته مصحوبا بأسرته، ليقطع بها مئات الأميال، حتى يبلغ طرف البحيرة، فيجد زورقه البخاري هناك في انتظاره، فينتقل من سيارته إلى زورقه، فيشق به ماء البحيرة، وصولا إلى مكان منزله الصغير داخل الغابة، فيقضي ما بقي له من ساعات الراحة، ثم يعود هذا الطريق كله، ليستأنف عمله بالجامعة في أول أيام الأسبوع الجديد، وإنه ليعود ليشكو إلي قلة ماله، والأزمات التي تحيط به وصعوبة التغلب عليها، كنت أعجب من تصرفه وكان يعجب من تصرفي، فهو «حر» الحركة، لكنه بتلك الحركة الواسعة يوقع نفسه في مشكلات اقتصادية، قد يتعذر حلها عليه، وأما أنا فقد كنت بالنسبة إليه «مقيد» الحركة، لكني في الوقت نفسه، لم أكن أعاني ما كان يعانيه من أزمات، برغم قلة «المنحة» المالية التي كنت أتقاضاها، بالنسبة إلى راتبه الكبير، فها هنا ضرب من الحرية عند أستاذ جامعي، لم أكن راغبا فيه، كان في حركته ناشطا، ليس لديه فرصة للتفكير الطويل، في موضوعات اختصاصه الجامعي، وكنت في قيودي مقعدا، لكنني نعمت بفرصة التفكير، فيما أقرأ وما أكتب.
ولا أقول ذلك لأفاضل بين حياة وحياة، بل أقوله لأوضح فكرتي، بأن الحرية ضروبها كثيرة، قد ينعم بضرب منها إنسان، ويمسك عن ذلك الضرب نفسه إنسان آخر عامدا، ليحقق ما يظنه أفضل وأولى.
والفلاح المصري تتراكم في فؤاده طبقات حضارية، جاء بعضها فوق بعض على طول الزمان ، والبحث في ثقافته المخزونة المتراكمة، هو كالبحث الجيولوجي في طبقات الصخور، إن قلبه لا يزال ينبض برواسب حضارة الفراعنة، في فنها وإيمانها وفتوتها، وبرواسب أخرى من حضارة اليونان والرومان، ورواسب ثالثة من حضارة العصر المسيحي، وبطبقة عميقة فوق ذلك كله من حضارة الإسلام، ثم جاءت حضارة هذا العصر لتكون غلافا يحيط بهذا كله، دون أن يمحو منه شيئا.
فإذا انخدع مشاهد خارجي - حتى ولو كان «سير أزايا برلين» - بما قد يبدو على الفلاح المصري، من بعض الفقر والمرض والأمية، فقال لنفسه: إنه لا حرية لمثل هذا المسكين، فقد فاته الجوهر وخدعته القشور؛ لأن الفلاح المصري يحيا حياة فيها من ضروب الحرية أسماها، وأعني بها حرية القيد الأخلاقي، الذي يفرضه الإنسان على نفسه، حين يكون في وسعه أن يستهتر ويعربد.
إن أزايا برلين في كتابه هذا، يقرر لنا أن السؤال الرئيسي في النظرية السياسية، هو سؤال عن «الطاعة»: فلماذا أطيع سواي؟ ومن يكون هذا «السواي»؟ وإلى أي حد أطيعه؟ على أن هناك حدا فاصلا ضروريا في حياة الإنسان، يفصل بين رقعة هي حياته الخاصة، التي لا يطيع فيها أحدا إلا ضميره، ورقعة أخرى هي حياته المشتركة العامة التي تخضع للقوانين، وها هنا تكون الطاعة للقانون، ثم يكون سؤالنا عن هذا القانون: من الذي يضعه، ومن الذي يحميه؟ هو لب النظرية السياسية.
وأخذا بهذا التعريف نفسه، وتطبيقه على حياة الفلاح المصري، فإني ألحظ ما لا يلحظه سير أزايا برلين في فلاحنا المصري، وهو أن لهذا الفلاح حياة خاصة، قوامها أسرته وعقيدته، ولم يشهد التاريخ مرة واحدة، اعتدى فيها المعتدون على تلك الحياة الخاصة، دون أن يتصدى الفلاح المصري لأولئك المعتدين، وأما ما وراء ذلك من حياة عامة فيها حكومة وفيها قوانين، فهو يضعه في المرتبة الثالثة من اعتباره واهتمامه؛ لأن تاريخه الطويل قد علمه درسا نافعا، وهو أن حياة الحكومات والحكام والقوانين الوضعية، كلها أمور تجيء وتذهب، فلا تستحق كل الحرص الذي تجعله النظريات السياسية الحديثة أحق بكل اعتبار واهتمام.
ولو عاش الأستاذ في جامعة أكسفورد، ما عاشه الفلاح المصري، فقد يرى ما يراه من تفرقة بين ما يتبخر مع الأيام، وما يبقى بقاء الخلود.
وجدان هذا الشعب
كانت الكاتبة القصصية «أدنا أوبرايان» قد أمسكت عن الكتابة بضع سنوات، وخلدت إلى الراحة في مسكن هادئ، يحيط به الجمال في بساطته، أو البساطة في جمالها، فلما سئلت: لماذا لا تكتبين؟ قالت: إن حياة الناس لم تعد تمدني بما يستحق الكتابة؛ لأنهم - في حياتنا المكروبة اللاهثة - قد أغلقوا صدورهم على أنفسهم، ولم يعودوا يفصحون بشيء ذي دلالة! ولكن الكاتبة لم تكد تذيع حديثها هذا تبريرا لصمتها، حتى رأت شابا صديقا لولدها، وكان ذلك الشاب بهي الطلعة إلى درجة أوقفت نظرها! فسألت ابنها عن صديقه ذاك: ما طبيعته؟ فأجابها ابنها بقوله: هو يا أمي من ذلك الطراز من الناس، الذي يعطيك نصف طعامه، إذا لم يكن هناك إلا طعامه، وعنده أن صديقين يكونان معا بين الشبع والجوع، خير من أن يشبع أحدهما كل الشبع، ويجوع الآخر كل الجوع.
سمعت الأم الكاتبة هذا الوصف عن صديق ابنها، فعجبت في نفسها لهاتين الصفتين تجتمعان في إنسان، ولم تعهدهما تجتمعان في أحد، وهما أن يكون جميل الخلقة وكريم الخلق في آن معا! وكأن اجتماع هذين الضدين (من وجهة نظرها) في ذلك الشاب، أقرب إلى الكشف الجديد عن طبيعة الإنسان؛ فالخلقة الجميلة لا تتنافى مع الخلق الجميل. وخرجت الكاتبة من دارها، لتجلس وحدها على أريكة في متنزه عام، سارحة بتأملاتها في هذه التركيبة البشرية، التي لم يقع في ظنها أنها قد تتحقق في دنيا البشر، وإذا بقصة تنفجر في خيالها، كاملة من الفاتحة إلى الختام، ثم ما هي إلا أن عادت إلى دارها لتبدأ من فورها، في كتابة القصة، حتى فرغت منها في أيام قلائل، وجعلت لها عنوانا معناه: أيها الإنسان، إني لا أكاد أعرف عنك شيئا، وهي قصة ينتظر صدورها بعد حين قصير.
Bog aan la aqoon