وظلت القدس، وفلسطين تقريبا، قبضة المسلمين على الرغم من الحملات الصليبية الخمس التي جردت بعد الحملة الصليبية الأولى، ثم عزم ملك فرنسة، سان لويس، على العود إلى الجهاد فجرد حملة صليبية سابعة في سنة 1248م، وقد غادر إيغمورت على رأس خمسين ألف مقاتل متوجها إلى مصر، وقد احتل دمياط، وزحف إلى القاهرة التي كسر جيشه قبل أن يبلغها، ووقع أسيرا، وافتدى نفسه، وذهب إلى سورية، وأقام بها سنتين من غير أن يظفر بطائل، ثم رجع إلى فرنسة قبل أن يرى القدس.
ولم تنثن عزيمة سان لويس مع هذا الانكسار، فقد جهز حملة صليبية جديدة بعد ست عشرة سنة، وقد غادر إيغمورت في 4 من يوليه سنة 1270م على رأس جيش مؤلف من ثلاثين ألفا من المشاة وستة آلاف من الفرسان، وقد توجه إلى تونس طمعا في حمل أميرها على انتحال النصرانية، فأصابه الطاعون حينما كان محاصرا لها، فمات في 25 من أغسطس سنة 1270م.
وكانت تلك الحملة الثامنة أخرى الحملات الصليبية، فبها ختمت تلك المغازي الكبيرة إلى الأبد، وبقي المشرق خاضعا لأتباع النبي العربي.
ولم يلبث النصارى أن خسروا ما كانوا يملكون من النواحي القليلة في فلسطين، وأراد البابوات أن يوقظوا حمية النصارى الدينية على غير جدوى، فقد فترت حرارة الإيمان في النفوس، وصار هم شعوب الغرب مصروفا إلى أهداف أخرى.
ولا أحاول ، في خاتمة هذه الخلاصة القصيرة التي سردتها عن تاريخ الحروب الصليبية، تسويغ ذلك الاعتداء الذي وجهته أوربة إلى المشرق أو ذمه، فأمور مثل هذه من نوع المجادلات التي تروق شبان المؤرخين ولا تستحق أن يبالى بها، ولا أعلم أن فاتحا في القرون القديمة أو الحديثة فكر ثانية في عدل جهاده الحربي أو ظلمه ما لاءم ذلك الجهاد مصالحه، وما رأى وصوله إلى مقصده من غير خطر كبير، فإذا كتب له النجاح في جهاده كفاه نجاحه ولم يبق ما يستلزم تسويغه، ولم يعدم، عند الضرورة، فرسان بيان لتمجيد ما صنع، وإذا ما هجا بعض الكتاب مظالم القوة قائلين: إن على القوة ألا تتغلب على الحق كان ذلك من قبيل ذم الأمور الطبيعية غير المجدي، كشكوانا من السقم والهرم والموت.
حقا إن مبادئ الحقوق النظرية المدونة في الكتب لم تكن دليل أمة في أي زمن، وإن المبادئ التي احترمتها الأمم هي التي أيدتها قوة السلاح كما أثبته التاريخ، وإن البابوات لم يسيروا على غير سنن الفاتحين في الماضي والمستقبل، حينما حرضوا النصارى على الحروب الصليبية الطاحنة المنافية لأبسط قواعد الإنصاف من الناحية النظرية، فلا يفيد لومهم على ما فعلوا، ولنترك، إذن، كل بحث من هذا النوع، ولندرس النتائج القريبة والبعيدة لذلك النزاع العظيم بين عالمين.
شكل 8-6: باب يافا في القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف). (3) نتائج الحروب الصليبية بين الغرب والشرق
آراء المؤرخين في نتائج الحروب الصليبية متناقضة إلى الغاية، وقد أسهب أكثرهم في مدحها، وعدها بعضهم ذات نتائج سيئة.
وإذا نظرنا إلى هدف الحروب الصليبية القريب الذي هو فتح فلسطين رأيناها لم تسفر عن أية نتيجة مع ما خسرته أوربة في قرنين من المال والرجال، فقد بقي المسلمون سادة لتلك الأماكن التي أراد النصارى أن يستولوا عليها بأي ثمن كان.
ولكننا إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية تجلت لنا أهمية تلك النتائج التي كان بعضها نافعا وبعضها ضارا، وإن شال الميزان ورجحت كفة النافع منها، فقد كان اتصال الغرب بالشرق مدة قرنين من أقوى العوامل على نمو الحضارة في أوربة، وتكون الحروب الصليبية قد أدت بهذا إلى نتائج غير التي نشدتها، وليس التاريخ خاليا من الأمثلة على عدم المطابقة بين الضالة المنشودة والهدف المدرك، بل هو حافل بهما، حتى يكاد البصير يرى في ذلك قاعدة مطردة.
Bog aan la aqoon