Hadarat Carab Fi Andalus
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
Noocyada
بيد أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات، وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عداد الصناعات؛ وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها؛ ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية - إذ كان القوم أكثرهم أميين - تتناقل في صدورهم، وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين، فلما بعد النقل من دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه، ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر، والعرب أبعد الناس عنها، والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي، فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، ثم الفارسي من بعده، ثم الزجاج، وكلهم عجم في أنسابهم، وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون، وأكثر فقهاء الأمصار؛ مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن سيرين؛ فقيهي البصرة، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار؛ فقهاء مكة، وزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح؛ فقهاء المدينة، وربيعة الرأي وابن أبي الزناد؛ فقهاء قباء، وطاوس وابن منبه؛ فقيهي اليمن، وعطاء بن عبد الله؛ فقيه خراسان، ومكحول؛ فقيه الشام، والحكم بن عتيبة وعمار بن أبي سليمان؛ فقيهي الكوفة، وهلم. وبالجملة، لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر بذلك مصداق قوله
صلى الله عليه وسلم : «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس.» وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها، وخرجوا إليها عن البداوة؛ فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه، فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبدا يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين، فكان امتراس العجم من القديم القديم بالحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سببا في كيسهم وفطنتهم، ونماء عقولهم، ورجحان أحلامهم، ومران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج، والتماس الحيل وتوليد المعاني؛ ومن ثم كان شعر الموالي منمازا عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات، والافتنان بها، وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار، وأبي نواس، ومروان بن أبي حفصة، وابن الرومي، ومن إليهم من الشعراء الموالي؛ تر الشاهد الصدق لما أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزال نزعتهم عربية في كل شيء؛ حتى في شعرهم، إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها، فمن ثم كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة.
وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال؛ الشاعر الأندلسي الظريف، وملحه ونوادره، وهذا الغزال - كما أخبرنا ابن القوطية - هو يحيى بن حكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله، وقد كان في المائة الثالثة من بني بكر بن وائل، وكان حكيما شاعرا عرافا، وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجهه الأمير عبد الله بن الحكم المرواني إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر. وكان يوما جالسا معه، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسنا، فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرفه أني قد بهرني من حسن الملكة ما قطعني عن حديثه، فإني لم أر قط مثلها، وأخذ في وصفها، والتعجب من جمالها، وأنها شوقته إلى الحور العين، فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده، وسرت الملكة بقوله، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه مع خلوه من الفائدة، فقال للترجمان: عرفها أن فيه أكبر فائدة؛ وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ، وما دام لا يفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقا ضعيفا، فضحكت واستظرفته. ومن نوادره أنه أرسل مرة سفيرا إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين، وقد وخطه الشيب، ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوما عن سنه، فقال مداعبا لها: عشرون، فقالت: وما هذا الشيب؟ فقال: وما تنكرين من هذا؟ ألم تري قط مهرا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله، فقال في ذلك - واسم الملكة تود:
كلفت يا قلبي هوى متعبا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية
تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا
يلفي إليه ذاهب مذهبا
يا تود يا ورد الشباب الذي
Bog aan la aqoon