Hadarat Carab Fi Andalus
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
Noocyada
وأنشد القالي الكلمة في البيت: «أعرافها لأيدينا مناديل»، فما كان من الأديب ابن رفاعة الألبيري - وقد لاحظنا في خلقه حرجا وزعارة
10 - إلا أن استعاد أبا علي البيت متثبتا مرتين، في كلتيهما ينشد: «أعرافها»، فقام ابن رفاعة وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه. والله لا تبعته خطوة، ثم هم بالانصراف، فندبه الأمير ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، فاضطر ابن رماحس إلى أن يكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى من ابن رفاعة ويشكوه، فجاء جواب الحكم إلى ابن رماحس بما نصه - كما أطلعني عليه ابن رماحس:
الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وافد العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدعه لشأنه، وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه؛ فسوف يعليه الاختبار - إن شاء الله - أو يحطه.
11
الأسطول الأندلسي وروح العظمة التي ترفرف عليه
أسلفنا لك في الرسالة الأولى من هذه الرسائل شيئا من القول، قد يكون مغنيا في معنى الأسطول وأثره الصالح في الدولة التي تعنى به، وأن الدولة الفاطمية في أفريقية والدولة الأموية في الأندلس؛ لهذا السبب بعينه، ولأن بلادهما واقعة على سيف البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط) وبحر الظلمات (المحيط الأطلانطي) قد بذتا سائر الدول في العناية بالأساطيل؛ حتى قبضتا بها على أعنة البحار، واستوتا
12
على ما فيه من جزائر وأقطار، وآضتا بذلك، وآضت رعاياهما سادة البر والبحر؛ بل ذل الزمان لهم، ولانت أعطاف الدهر. وهذا هو الذي أرهج بين هاتين الدولتين بالفساد، وأرسل بينهما عقارب الأحقاد، وأثار بينهما نقع الحرب والجهاد؛ حتى لا تكاد الحروب بين الدولتين ينطفئ لهيبها، فتراهما للتافه من الأسباب يجردان الجيوش بعضهما على بعض، وتتلاقى أساطيلهما مصرحة بالشر ، ولعلك لم تنس بعد حادثة هذا المركب الأندلسي الذي قمنا فيه من الإسكندرية، وأنه تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز لدين الله الفاطمي، وأخذ ما فيه من بريد وبضائع، فما كان من المعز إلا أن أرسل أسطولا كبيرا إلى مربض الأسطول الأندلسي في المرية، كما أخبرنا بذلك ونحن في هذا البلد - فعاث فيه عيثا، وألحق به وبالمرية ما أرضاه، ونقع غلته، وأطفأ لهيبه، فلم يسع أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إلا الانتقام من المعز، فأمر بتجريد الأسطول، وحشد المقاتلة، والذهاب إلى أفريقية، فذهب إليها تحت إمرة حاجبه الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد أسطول كبير يقل عددا عظيما من رجالات الحرب، فعاج أولا على مدينة وهران، وجمع من فرسان الأندلس المحتلين بلاد المغرب نحوا من خمسة وعشرين ألف فارس، ثم هجم بالرجلان والفرسان على أفريقية، ودارت بينه وبين رجال المعز رحى الحرب، فهزم الأندلسيون قبائل صنهاجة وكتامة - وكان يتألف منها السواد الأعظم من جيش الأفارقة - واقتفوا آثارهم حتى بلغوا ضواحي تونس - وهي غنية بتجارتها الواسعة، يسكنها كثير من تجار اليهود الأغنياء - فحصروها برا وبحرا، وألحوا في الحصر، فلما رأى أهلوها أن الخطر محدق بهم عرضوا أن يسلموهم المدينة، وقدموا مبلغا كبيرا من المال إلى الحاجب ابن شهيد، وقدموا إليه كذلك أنسجة من كل نوع، وطرفا من الحلي، وذهبا، وحجارة كريمة، وملابس من الصوف والحرير، وأسلحة وخيلا وعددا عظيما من الأرقاء، ثم غنم عدا ذلك سفن الميناء وأثقالها، وضمها إلى سفنه، وكر راجعا إلى الأندلس.
ومن سننهم التي مضوا عليها، وجرت عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافرا من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء، فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المرية أن آب الأسطول الأندلسي رافعا أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء «ميناء المرية»، فوجدنا ثمت في انتظارنا مركبا كبيرا كأنه رضوى أو ثبير أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخذ الأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت، ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط، ومن نوتية، ومن مقاتلة وأسلحة، وهلم مما قضينا منه عجبا. وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف منها الأسطول يسمى «الشواني»، الواحد منه «شونة»، وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهوينى في اختيال، مترجحا ذات اليمين وذات الشمال، كأنه عروس مجلوة يرفرف عليها روح الجمال والجلال. وبعد أن سار بنا في البحر شيئا، وقف حيث نشاهد حركات الأسطول وألاعيبه، وكان الشاطئ ساعتئذ قد غص بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها ما لا يعلم عديدهم إلا الله من الأندلسيين والأندلسيات؛ كي يشاهدوا حركات الأسطول، فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام؛ منظر يبهر رواؤه الفكر، ويشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.
مجال أسود وملهى سفين
Bog aan la aqoon