Laanta Mooska ee Beerta Jannada
غصن البان في رياض الجنان
Noocyada
ولم أكد أشعر بانقضاء ساعات النهار حتى أدركتني حرارة الشمس ساعة زوالها وبلوغها كبد السماء، فنزلت بين أشجار الغابات أتخطى من صخر إلى صخر ومن جذع إلى جذع وقلبي يخفق خفقانا خفت أن يشق صدري من شدته حتى دنوت من المنزل، فبصرت بها جالسة إلى جدار في الحديقة وفي يدها كتاب تقرأ فيه حينا ثم تلاعب من حولها من صغار الأولاد عند مللها منه، فلما رأتني مقبلا استوفزت للقيام كأنها تريد أن تلاقيني فجرأني ذلك على الدنو منها، فدنوت وأنا أرى حمرة الخجل تصبغ خديها وشفتيها تتحركان كأن لسانها يتلجلج بما يريد بيانه، فزادني ذلك منها هيبة وحياء، فوقفت أمامها ونحن مرتبكان حائران لا ندري ما نقول حتى أشارت إلي بأن أجلس إلى جانبها في مكان خلت أنها أعدته لي فجلست على بعد إجلالا لها.
وعاد السكوت بيننا إلى مجراه وأنا أرى أن كلا منا يحاول أن يجد كلاما هو حيلة المتكلم في مثل تلك الحال فلا يجد - أو لا يجسر - فيقف الكلام على شفتيه، حتى طال بنا الأمر وامتد علينا السكوت، فرفع كل منا عينيه من الإطراق فصادف عيني صاحبه تحدقان إليه، ثم تعاقد النظر فجعلت أنظر إليها وتنظر إلي وقد بهت كل منا في وجه ناظره حتى جالت الدموع في أعيننا معا، فرددنا أيدينا إليها سترا لها بل سترا لما انبعث عنه، وظللنا كذلك برهة لم أعلم مقدارها حتى انتبهت لصوتها وهي تقول لي بلهجة تمازجها بعض الحدة كمن فرغ صبره: أتبكي علي وأدعوك بأخي وتدعوني بأختك ثم لا نجسر على الكلام؟! ألا تدري أن دمعة حنو من قلب غريب لأعظم ثمنا من حياتي وأبعد أمدا من آمالي؟! ثم أردفت بصوت كصوت اللائم: أتراني صرت غريبة عنك من حين لم أعد في حاجة إلى اعتنائك؟! ثم قالت: أما أنا فلم أعرف منك سوى اسمك ووجهك، ولكنني عرفت بذلك كل دخائل نفسك حتى لا تزيدني السنون بها علما.
فأجبتها: أما أنا فلا أريد أن أعرف من أمرك شيئا سوى ما علمته من أنك حاضرة لدي، وأنك قد سمحت بأن أنظر إليك في حضورك وأذكر جمالك في غيابك.
فقالت: قف ولا تبالغ في تعظيم حياة تشتهي ساعة انقضائها، بل تعرفني كما أنا، امرأة بائسة تموت في يأسها ووحدتها، وليس لها من هذه الحياة الدنيا إلا بعض شفقة وحنو كما ستعرف ذلك حين تعرف من أنا، ولكني أسألك عن شيء أثر بي منك من يوم رأيتك في الحديقة، وهو ما بالي أراك وأنت في زهرة الشباب وعنفوان العمر وحيدا حزينا كما أنت الآن؟ ولماذا تبتعد عن الناس جهدك إما شاردا في الجبال أو راكبا متن البحيرة أو محتبسا في حجرتك لا يكاد مصباحك ينطفئ منها كما قيل لي؟ أتراك ذا سر خفي لا تبثه لسوى الوحدة والانفراد؟
فأجبتها: ليس لي سر سوى أن لا سر لي، وإنما ذلك وقر قلب لا يكاد يخففه سرور من صدري، وإنني بعد أن سلمت هذا القلب مرارا إلى من لم يكن أهلا له اضطررت إلى استرجاعه بحزن وأسف جعلاني أخاف من الحب وتضعف عزيمتي فيه وأنا في مقتبل هذا الشباب. ثم جعلت أقص عليها ما لم أكن أذكره لغير الله من كل ما يهم إيراده من تاريخ حياتي، كولادتي من أواسط الناس وأن أبي كان رجلا جنديا، وأمي امرأة هذبتها المعارف والعلوم، وأخواتي فتيات ساذجات عابدات، وأنني نشأت في يد الطبيعة بين غلمان الجبال والرغبة في الدرس والمطالعة، وأسفاري، وحوادث حبي الماضية، وخيانة الأيام لي بالسلام عند دخولي في الجندية وخروجي منها، ومسيري على غير هدى وعودتي إلى بيت أبي قانطا من الدنيا راغبا في الموت كارها كل شيء كأنني شيخ أنقضت ظهره السنون وأنا لم أتجاوز الرابعة والعشرين من عمري.
وكنت أقص عليها حوادث دهري المحزنة ونكبات أيامي السوداء وأنا في غبطة وسرور من ذكراها؛ لأنني لم أعد أنظر إليها ولا أشعر بها، وقد كفتني نظرة ممن أخاطبها لأن تنزع مني كل ما مر علي، بحيث كنت أتكلم عن نفسي كمن يتكلم عن فقيد؛ لأني شعرت أن حياتي قد تجددت وأنني قد تجليت في رجل جديد.
ولما فرغت من كلامي رفعت بصري إليها كمن ينظر إلى قاضيه لسماع حكمه عليه، فوجدتها صفراء الوجه راجفة الأعضاء، ثم قالت: يا رب، كم أثرت بي! فقلت لها في ذلك، فقالت: لو لم تقل لي إنك تعيس عاثر البخت لكان سرور كل منا بأخيه أقل مما هو الآن؛ إذ لا ينتظر منه أن يرثي لمصابه، ولكنت فارقت هذه الحياة الدنيا وأنا لا أرى خيال نفسي إلا في مرآتي، فإن ما قصصته علي إنما هو تاريخ حياتي أسمعه من فيك، ولا فرق بيننا سوى أنك لا تزال في فاتحة عمرك وأنا ...
فصحت بها مقاطعا: لا، لا. ثم وضعت شفتي على قدميها وضغطت بيدي عليهما كأنني أريد أن أثبتها على الأرض، وقلت: لا تنتهي حياتك أو تنتهي بحياتين. وكأنني قد خجلت من تسرعي فيما قد أتيته من تقبيل قدميها وقولي لها، فلبثت في مكاني كالمصعوق لا أجسر أن أرفع بصري إليها، فقالت لي: قم، ولا تعبد غبارا أدنى من غبار تدوسه بقدميك ثم تذروه الرياح، ولا تغرنك هذه الفتاة البائسة الواقفة أمامك، فإنما هي خيال الشباب وخيال الجمال وخيال الغرام الذي لا يبقى له أثر سوى ذكراه، واحفظ فؤادك لمن كتبت لهن الحياة، ولا تهبني سوى ما توهب الأموات من يد تسندهم في مسيرهم إلى ظلمة القبر ودمعة تبكي بعدهم عليه.
وكانت لهجتها حزينة كئيبة رنت في أعماق قلبي فشخصت ببصري إليها فرأيت شعاع الشمس عند مغيبها ينعكس عن وجهها فيضاعف أنواره كأنه ينعكس عن مرآة، فقلت في نفسي: كيف يستتر الموت تحت هذه الحياة الناضرة؟! ولكن ماذا يهمني منها إذا كانت هي الموت فإنما أنا أعشق الموت وإياه أحب، ولعل الحب الشديد الذي وجدته بها لم يكن يوجد إلا في تلك الحال، بل لعل الله لم يبعث إلي نور هذا الجمال وهو على وشك الانطفاء إلا ليتبعني به فأسير على آثار شعاعه إلى القبر أو إلى السماء.
وبينما أنا في تلك الأفكار أساورها وتساورني نظرت إلي وقالت: لا تفكر، واسمع ما أقول لك، إنني لا أريد أن تعلق نفسك على صورة باطلة، وحلم زائل، وإنما أريد أن تعلم أنك تسلمني قلبا لا أقدر على حفظه حتى أخونه، فإنني تعودت أن أكره الكذب وأتحاماه حتى لو كانت السماء موقوفة لي على كذبة لما أقدمت عليها وعفت السماء، وإنني لو حصلت على السعادة استراقا لم أعد أحسبها سعادة بل عذابا وتبكيت ضمير.
Bog aan la aqoon