Laanta Mooska ee Beerta Jannada
غصن البان في رياض الجنان
Noocyada
وكنت عند مروري على شامبيري قد وجدت صديقا لي يدعى لويس في مثل حالتي من الأكدار والأحزان، يتأفف من مرارة الحياة، ودهر يضع الرجال في غير مواضعها، ونفس تطمح بأبصارها إلى العلاء وهي مقيدة بقوم هم لأصحاب العقول والأقلام بمنزلة حديد القيود من الأقدام، فهي منخفضة عنها في المقام ولكنها مانعة لها عن التخلص والإقدام. فحادثته في شأني وما عزمت عليه، فدلني على بيت في أعلى مدينة إكس معد لنزول المرضى والقيام بما يقتضونه، قد افتتحه طبيب شيخ، وأقام فيه مع أسرته، وهو منزل واقع على طرف المدينة، ومن ورائه حديقة زاهرة تفرشها الخضرة والأعشاب، وتكللها الدوالي والأعناب، ثم وعدني بأنه يتبعني متى فرغ من شأن كان له في شامبيري على أثر وفاة أمه، فوعدت نفسي منه بصديق حلو العشرة طيب الصحبة؛ لمشابهة في أخلاقنا، ومشاكلة في أحوالنا. وعندي أن التشابه في المصائب والاشتراك في الأحزان أدعى إلى الصحبة وأقرب إلى السكون من الاشتراك بالسعادة والمسرات، وإنما كان ذلك لأن رابطة الحزن أقوى أثرا في القلوب وأشد اتصالا بالنفوس من رابطة الغبطة والهناء، فودعته على هذا الأمل، وانصرفت وأنا أعلل نفسي بلقائه على عجل.
فقابلني الطبيب وأهله بكل ترحيب وإكرام، وأخلوا لي قاعة تنفتح نافذتها على تلك الحديقة وما وراءها من الحقول، وكان المنزل فارغ القاعات إلا القليل منها، ومائدة الطعام لا يشغلها إلا أهل المنزل وثلاثة أو أربعة من المرضى أنحلهم الفقر أكثر مما أنحلهم الدهر، فجاءوا بعد عودة المرضى إلى أوطانها رغبة في فراغ المكان وبخس أجرة السكنى، فأخبرني الطبيب وامرأته أن عندهما فتاة غريبة الأهل بقيت بعد انصراف الناس طمعا بالشفاء من نحول تولاها فأزمن فيها، وأنها مقيمة وحدها من أشهر في أقصى مكان من المنزل يؤتى إليها فيه بالطعام، فلا تنزل إلى المائدة ولا ترى إلا في نافذة غرفتها من خلال ستائر الأغصان أو على السلم وهي عائدة من التنزه في تلك الجبال، فوجدت بيني وبينها مشابهة في الانقباض، ومشاكلة في الغربة، ومماثلة في المرض؛ لأنها قادمة للاستشفاء، ومضارعة في الحزن؛ لأنها تتجافى عن الضجيج وتتوارى عن أبصار الناس. ولكني على كثرة ما كنت أسمع من ذكرها وإظهار العجب من أحوالها لم أكن أحب أن أراها؛ لأن ما قاسيته من أهوال العشق وصنوف عذابه صير قلبي رمادا ونفسي خامدة وأبصاري ناكسة كأنها لا تريد أن ترى إنسانا أو أن يراها إنسان، ولأني وجدت الحب مع ما فيه من فكاهة اللهو ولذة اللقيا لا يخلو صاحبه من لواعج الوجد وحرقة الصبابة، ووجدت أنني عاجز عن أن أحمل هموم نفسي وأستهدف لمصائب دهري، فكيف أجمع إليها نفسا أخرى لأحمل همومهما جميعا، وأعظم ذلك الهدف حتى تتضاعف فيه نبال الزمان؟ وأقول الهموم والمصائب لأن السعادة لم تخطر لي في بال.
فكنت أصرف صباح يومي في مطالعة الكتب ودرس الأسفار والرسائل، ومساءه في قطع تلك الجبال والوديان والغابات وحيدا فريدا لا مؤنس لي غير أفكاري ولا سمير إلا همومي حتى أعود وقد أخذ مني التعب كل مأخذ، فأدخل إلى غرفتي وأتكئ على نافذتها تمر علي الساعات وأنا ناظر إلى السماء نظرات أحسب أن نفسي تنطاد فيها على آثارها كما يغوص الحجر الصلب في لجة البحر العميق، حتى لقد ذهبت إلى أن في السماء قوة تجذب النفوس كما أن في الأرض قوة تجذب الأجسام وشبه الشكل منجذب إليه، ثم أعود فأنام بين مساورة الأفكار ولجج الهواجس حتى توقظني قارصة الشمس، فأستفيق على نغمات الأطيار وخرير المياه لأعود إلى مثل شأني بالأمس.
الفصل الثاني
شرك الغرام
فبينما أنا في بعض الليالي وقد تطلعت من نافذتي بصرت على مقربة مني بنافذة منارة قد اتكأت عليها فتاة لم أر منها في بادئ الأمر إلا يدا كأنها المرمر الشفاف، ترفع ضفائر شعرها فتنجلي عن وجه ينعكس منه نور القمر عن محيا صافي الأديم أصفر شفاف يزينه شعر حالك كالغراب، قد لصقت منه خصلة مدورة على صدغها فزادته جمالا. ثم سمعت صوتها وقد كلمت من معها في داخل الغرفة، فإذا به غريب اللهجة صافي الرنة لطيف الوقع في الآذان أثر في نفسي وإن لم يدر في مسمعي معناه، حتى خلت أن صداه ما برح يتردد في أذني بعد وقعه بساعات كما يتردد صدى الأعواد في آذان الطروب النشوان، وحتى حسبت أنه رنة أوتار لا صوت إنسان، وأنا لا أعلم أنه سيكون له نصيب في نفسي وشركة في حياتي لا تقطعها عوامل الأيام، ثم انتبهت في اليوم الثاني وقد ذهب عني كل ذلك كأن لم يكن شيء مما كان.
وبينما أنا عائد يوما وقد بلغت المنزل قبل المساء بصرت بتلك الفتاة الغريبة جالسة على مقعد مستندة إلى الجدار في طرف الحديقة، فلم تنتبه إلى وقع أقدامي حتى تقدمت فتواريت وراء كرمة تبعد عنها بضع خطوات ووقفت مدة أراها ولا تراني، فرأيت وجها تتردد عليه خيالات الأوراق بين شعاع الشمس الغاربة فتزيده حسنا، وقامة فوق الربعة كأنها تمثال رخام ملتف برداء يظهر منه شكله ولا تظهر تقاطيعه، وقد عقدت يديها على ركبتيها وغطت رأسها بفضل ردائها وقاية من ندى الليل، وهى مائلة العنق، مطبقة الأجفان، ناحلة الأعضاء، صفراء اللون، جامدة الحركة، كأنها تمثال الموت ولكنه الموت الذي يميل بالنفوس ويجتذب القلوب والأبصار إلى الحياة الخالدة ودار النعيم.
ثم سمعت وقع أقدامي ففتحت أجفانها عن عينين ملؤهما السحر والحور، يتقوس فوقهما حاجبان كأنهما خطا بحمم، ولهما نظرات لم تحوها مقلة ناظر، وأنف كأنه حد السيف في دقته وحسنه، فوقه جبين واسع الجبهة ناتئها كأنه جبين عالم ضغطته كثرة الأفكار، وفم أحمر الشفتين رقيقهما ينفرج عن ثغر كأنه اللؤلؤ المنظوم، وهي قد بدا عليها الذبول والانتحال حتى يخيل لناظرها أنها خطرة فكر لا هيئة إنسان فلا يتحول عنها إلا وقد ارتسمت في فؤاده كما يرتسم المعنى الدقيق في النفس الوقادة، بحيث كانت على ما بها من ظواهر السقم وهزال الداء كأنها أجمل تمثال من كف أحذق صانع.
فلما رأيت أنها رأتني حييتها بإكرام، ومررت مسرعا من أمامها وأنا منكس الرأس خافض الطرف كأني أسألها العذر عن إزعاجها بعد أن نظرت إلى خديها وقد صبغت صفرتهما حمرة الخجل، ثم دخلت إلى حجرتي وأنا مضطرب الأعضاء خافق القلب، وأحسب أن ذلك من تأثير التعب وبرد المساء. ولم يمض قليل حتى رأيتها مرت من أمام بابي ذاهبة إلى حجرتها، فكنت بعد ذلك أراها كل يوم في مثل تلك الساعة في تلك الحديقة أو في صحن الدار وأنا لا يخطر لي ولا أتجاسر على أن أكلمها، ثم كنت أراها في بعض الأيام سائرة في الحقول أو راكبة زورقا في البحيرة فلا أقابلها إلا بسلام معتاد، ثم يأخذ كل منا في طريقه إما في الجبال أو على الماء. إلا أنني كنت أشعر بانقباض واشتغال كل مساء لا يتفق لي أن أراها فيه، فأنزل إلى الحديقة وأنا لا أعلم لماذا، أو أجلس في النافذة ساعات لا أشعر ببرد الليل وعيناي محدقتان في نافذتها، فلا أنصرف عنها حتى أرى خيالا منها من خلل الستائر، أو أسمع رنة عودها أو صوتها، أو أنصرف حزينا كئيبا.
وكانت الحجرة التي تسكنها محاذية لحجرتي لا يفصل بينهما إلا باب ضخم ذو مصراعين، بحيث كنت أسمع منها وقع أقدامها وحفيف ثوبها وتقليب صفحات كتابها، حتى كان يخيل لي أحيانا أنني أسمع أنفاسها تتردد في صدرها، فوضعت منضدة (طاولة) كتابتي تلقاء ذلك الباب، وأسندت مصباحي إليه؛ لأنني كنت أشعر بخفة الوحدة علي عندما أسمع همس تلك المخلوقة على مقربة مني، وأنني على انفرادي كأنني مع رفيق.
Bog aan la aqoon