العهد الأول
العهد الثاني
العهد الثالث
العهد الرابع
العهد الأول
العهد الثاني
العهد الثالث
العهد الرابع
غلواء
غلواء
تأليف
إلياس أبو شبكة
كتبت «غلواء» بين 1926 و1932 وليس فيها من حياة المؤلف في مطلع شبابه إلا شطر ضئيل، فهي في مجموعها من صنيع الخيال لا من صنيع الواقع.
وعبثا يحاول القارئ، ولو طال الزمن ومهما يطل، أن يجد في «غلواء» مستندا لظن أو موضوعا لاجتهاد؛ فهي حياة جماعة لا حياة فرد، هي الحياة وليست حياة، هي قصيدة لا تاريخ.
تشرين الثاني 1945
العهد الأول
المريضة
1
ما أسلم القلب وأصفى السمرا
وأهنأ الشتاء في تلك القرى
وأطول الليل به وأقصرا!
تجري الليالي عذبة كالساقيه
يضن منها بالليالي الباقيه
كأنها بقية من عافيه
في ليلة لطولها وسنانه
والأرض مما شربت نشوانه
عاد فألفى أمه سهرانه
فقال: «ما عودك الليل السهر
لم يبق إلا ساعتان للسحر ... أقرأ في وجهك، يا أم، خبر
غلواء؟ ما حل بها؟ ... شقيه!
أما تبقى للرجا بقيه؟
مسكينة! ويل امها، صبيه!
وحاول النوم بدون جدوى
كأن في عينيه قلبا يهوى
وقلبه كان بريئا خلوا
وانتقل انتقالة عجيبه
من ألم الروح إلى غيبوبه
كشعلة في نفسه مشبوبه
طورا يرى غلواء في صباها
تشع في وجدانه عيناها
معقودة الحسن على رياها
وتارة في كفن ملتفه
يسرح الموت عليها كفه
بحسرة عاطفة ولهفه
بارزة من فمها الأسنان
مزرقة كأنها ديدان
واللثة الحمراء زعفران
ذات شحوب راعب رهيب
كأنه لون من الذنوب
أو نفس من صدرها المكروب
وكانت الظلمة في أشجان
والريح كالمبرد في الأبدان
والليل فيها كضمير الجاني
ولم يكد من حلمه يفيق
حتى اعتراه خدر عميق
وجن في دماغه العروق
فأبصر المريضة المحتضره
مسدولة الذوائب المبعثره
جنية هائمة في مقبره •••
وحل في أهدابه تابوت
في قلبه صبية تموت
تموت في غيبوبة وسكره
لها من العمر ثماني عشره
وعندما أفاق من رؤياه
وحدقت إلى الدجى عيناه
رأى نياما كل من في الدار
إلا عيون الهر ذات النار
2
أمن العدل خالق الأرواح
أن يغيب الجمال قبل الصباح؟
أمن العدل أن يرى القلب عطشا
ن، وخمر القلوب في الأقداح؟
أمن العدل أن تجول عيون
في ظلام والزيت في المصباح؟
إن تكن تحرم الطيور سماها
فلماذا خلقت ريش الجناح؟ •••
وتناءت عيناه في الشفق الأخضر
فانحطتا على فلاح
يحرث الأرض هادئا مطمئنا
فيشق الأتلام كالجراح •••
قال: طوبى له وطوبى لنفسه
ما ألذ الصفاء في ماء كأسه!
ما أعز الأعشاب حول سواقيه
وأغناه في قناعة بؤسه
لا يرى غير حقله إن أطل الفجر
أو أقبل المسا غير أنسه
جاهل يجهل القراءة في الأسفار
لكنه حكيم بفأسه
غده مثل يومه، ليس يغشاه شقاء،
ويومه مثل أمسه •••
ليت لي قلبه الخلي
ليت في الروح لي تقاه
ليت في مقلتي لي
مقلتيه ... وا حسرتاه!
فأرى الصبح ينجلي
عن شعاع من الحلي
ذهبي مكلل
بلجين من المياه
وأرى الله كلما
أرسل الطرف في السما
إن فيها لمن سما
بالتقى صورة الإله
القصة
1
غلواء، ما أحلى اسمها المعطارا،
صبية تغبطها العذارى
لا يستطيع شاعر أن يبدعا
قصيدة أجمل منها مطلعا
تصور الأزهار في نوار
تنعشها ارتعاشة الأنوار
تصور النسيم في الصباح
يهز ساق الفل والأقاح
تصور السماء في روائها
كأنها الأحلام في صفائها
تصور الأعشاب في الجبال
تحلم في مهد من الظلال
تصور الرابية الجميله
لونها ظل من الخميله
وكوم الثلج على الروابي
تطفو عليها صفرة الغياب
وانظر أخيرا نظرة سريعه
مختلف الجمال في الطبيعه
تعرف إذن معرفة علياء
كيف السماء أبدعت غلواء
وكان في صور لها قريبه
أعطيت اسم الوردة الحبيبه
جمالها يحمل للجنون
وميضة الشهوة في العيون
تشعر، من جسدها المشتعل،
في كل عرق بدماء رجل
تصور البركان في ثورته
تنقذف النيران من فوهته
كالمرأة البغي في مقلتها
عنصر نار قد من شهوتها
تصور الموت بناب أفعى
مريبة بين زهور تسعى
تظنها خلال وهج النور
ساقية تنساب في الزهور
تصور المصدور في خديه
تورد يطفو الصبا عليه
تخاله الربيع عند فجره
إن أنت لم تسمع سعال صدره
ورجلا غص ببلع ريقه
فاستنجد القطرة في إبريقه
ولو درى أن هناك عقرب
لآثر الغص على أن يشرب
وانظر أخيرا نظرة سريعه
مختلف الشرور في الطبيعه
يبد لك المقت إذن فتعلم
كيف أرادت «وردة» جهنم •••
ورغبت غلواء أن تزورا
أم الجدود الأقدمين صورا
فسافرت يخفرها الفتاء
وحسنه - تباركت غلواء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فينيقيا ومجدها المشيد
وملكها المعظم المؤيد
أميرة الفنون والتجاره
ومنشأ العلوم والحضاره
سلطانة البحار والأسفار
مليكة البرفير والنضار
لؤلؤة العروش والتيجان
ومطمح اليونان والرومان
أمست بقايا وطن مدمر
من بعد عز شامخ منور
قائمة كالطلل المهجور
على مياه شاطئ في صور!
2
على ذروة بين أطلال صور
يحيط بها شجر وصخور
يقوم بناء كعش النسور
بناء يرى العابرون عليه
نباتا ترامى على جانبيه
فغطى بعوسجه سدفتيه
كرمس قديم لمين وزور
تكلل بالشوك لا بالزهور
طلاه الظلام بلون دجاه
لكثرة ما لامسته خطاه
ومر عليه الضيا فطلاه
كأني به برج جن وحور
تردد بين ظلام ونور
إذا النور لونه في السحر
ومد عليه ظلال الحور
تراءى كطيف خلال الشجر
أتى من دياميسه ليزور
بقايا ذراري تلك البدور
وحين يسيل اصفرار المغيب
على جانبيه بشكل كئيب
يبين كهيكل عظم مريب
أبى أن توسده في القبور
غداة تمرد، أيدي الدهور،
بناء تزنر أسواره
خرائب تعرف أسراره
فقد عاشت الدهر سماره
فأصغ لنسأل عنه الصخور
أللحب شيد أم للشرور
أيا سائل الصخر عن جاره
دع الصخر ينطق بأخباره
فليس ضنينا بأسراره
بناه الجلال وشيد مجده
وقد كان عهد الجبابر عهده
وكان الزمان المسود عبده
تنار الليالي بأنواره
وتزهى بأعياد سماره •••
بنته يد الفاتحين الألى
أهابوا بفينيقيا للعلى
فأمسى بهم شعبها الأولا
يقود الزمان بأبصاره
ويسجده تحت أسواره
وكانت أميرته يوم كان
أمير القصور بذاك الزمان
كحورية من عذارى الجنان
معطرة مثل أشجاره
بدهن اللبان وأسحاره
وهبت على القصر ريح سموم
ذرت منه أنوار تلك النجوم
كما ذرت النار شعب سدوم
ولم يبق من مجد آثاره
سوى غرفات لتذكاره
ترى البوم يخلف أربابها
ويقتحم النتن أبوابها
ويفترش السوس أخشابها
كشعب تخلى لأشراره
فقام الدمار لإنذاره
لقد سلطت فوهات الجحيم
على صور نارا وسخطا عظيم
كنار يهوذا وأورشليم
وأبقى الزمان بأسفاره
من المجد ذكرى لزواره
تأمل، تأمل بروحك زهده
وكيف تبيد صروف الليالي
أمير القصور وتترك بعده
بقايا من الغرفات خوالي
خوالي ... لولا «الحبيبة ورده»!
3
في ليلة تنبهت غلواء
والبدر في مخدعها إناء
تسيل منه فضة بيضاء
فأرهفت مسمعها المطروقا
فسمعت تنهدا عميقا
يصدر عما ينهش العروقا
وأرسلت نظرة بر طاهر
فهالها في المخدع المجاور
فاجرة على ذراع فاجر! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ما أنت يا وردة تلك الورده
بل أنت من أشواكها مسوده
أميرة الشهوة أنت عبده! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أي خيال حل في غلواء
أي رؤى محرقة سوداء
تعلقت أجفانها العذراء؟
فهربت إلى ضفاف البحر
وطوفت بين بقايا الدهر
من خربة لرجمة لقبر
وكانت المياه والصخور
قائمة ما بينها القبور
حتى السكون حولها مسحور
والموج بعد الموج كيف ذابا
مستسلما على الحصى منسابا
يقبل القبور والترابا
كأنه جمع من العذارى
أو ذكريات عاشق توارى
تهمس في أذن الردى أسرارا
وللمياه زبد كثيف
ينسج منه كفن خفيف
عليه من نور الدجى حروف
وسمعت غلواء طير البوم
ينعق كالشؤم على الرسوم
مدنسا نقاوة النسيم
واستيقظت في نفسها المحمومه
من «وردة الحبيبة» الأثيمه
صارخة، أخيلة الجريمه
ودب في أعضائها النحيفه
قفقفة ورجفة عنيفه
حمى سرت في جسمها خفيفه
واستفحلت كالشر حين يبدأ
فهو صغير إنما لا يفتأ
حتى يصير نقمة لا تبرأ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ومرت الأيام والليالي
سوداء بالفتنة والجمال
فأصبحت غلواء كالخيال •••
وبرزت عظامها في الجسم
مصطفة عظما إزاء عظم
كأنها أقلام الاعتلال
تكتب في صحيفة الآجال
وسال في وجنتها الذبول
كنجمة هم بها الأفول
وامتقع الجبين باصفرار
كأنه أواخر النهار
في ليلة شديدة الغسوق
تذكرت حياتها في «الزوق»
وذكرت مواكب الضباب
تمتد كالحلم على الهضاب
والشجر الأخضر والسنابلا
تبسط للطبيعة الأناملا
وذكرت أخيلة المساء
ورنة الأجراس في الهواء
ودوحة الكنيسة الحقيره
وبابها الصغير والفقيره
وصفرة الشمس على الجبال
ولعب الأطفال في الظلال
واحتشدت أخيلة التذكار
تطوف أسرابا على الجدار
وجحظت في صدرها الآلام
كجفنها المحموم لا تنام
وحبكت في مقلتيها الحمى
بقلبها العفيف ذاك الإثما
وانتقل الإثم بها انتقاله
أجرت على خيالها خياله
فعظم الوهم، وفي الأوهام
أفتك بالعقل من السرسام
وقام في أحلامها المعذبه
رؤيا كأنما هي المرتكبه
الرؤيا
عين من هذه التي لا تنام؟
هي عين ضياؤها الآثام! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
آلمته ذكرى، فتاه وفي عينيه
من أمسه الأثيم حطام
وعلى الشاطئ الكئيب قتام
وعلى صور وحشة وقتام
حاول النوم غير أن طيوفا
جاورت عينه وفيها انتقام
فنبا عن فراشه كأثيم
أيقظته من نومه الأحلام
إن عين الأثيم جرح عميق
قذر الجانبين، لا يلتام ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وتراءت له مجاري الوادي
كسرير يغيم في الأبعاد
فبكى ذاكرا عذوبة ماضيه
وحبا مضى مع الأوراد
قال: «ما حل بالليالي الخوالي
كيف عاثت بها يد الجلاد؟»
وتلوى يصيح: «ويح ضميري
ليس هذا الجلاد إلا فؤادي!»
طرحتك السماء عن قلب غلواء
كفرع رجس من الأجساد
خائن الحب إن حبك دون
فاحتجب فيه عن عيون العباد
ثم سادت سكينة وتوارت
جزر النور في الفضاء الرمادي
لم ير الفجر غاسلا بضياه
هضبات المدينة المردومه
وقباب الأبراج يوقظها النور
كجن على قبور قديمه
فر لم يلتفت كشعب سدوم
حينما أحرق الإله سدومه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
مزج النور بالدجى حين خط الفجر
في صفحة السماء رسومه
كضمير الأثيم يشمله الصفح
وتبقى من وخزه جرثومه
فأطلت غلواء من كوة الخدر
وفي نفسها شجون عظيمه
قالت: «الفجر شاحب مثل وجهي
وأليم ساه كنفسي الأليمه
أيها العمر، كم تعد صباحا
بعد لي ... في أيامك المحطومه؟»
العهد الثاني
عذاب الضمير
1
ترامى الليل كالهم الثقيل
يجر ذيول معطفه الطويل
ويبرز في مشارفه نجوما
بلون برتقالي ضئيل
وكانت زوق ميكائيل تصغي
إلى همس النياسم في الحقول
فتبسم عن كواكبها النحيله
وتحلم في جواذبها الجميله
بعهد - مر في الدنيا - جميل
وكانت قبة الجرس المقيمه
على عمدي كنيستها القديمه
تقطع في السماء وقد ترامى
عليها النور أفلاذا سقيمه
كطيف يخفر الأموات ليلا
ويبقى ساهرا سهر الأمومه
وكان الليل منفطر الشعور
أحس لهيب سكان القبور
فلطف في معابره نسيمه
وكانت أغصن الدوح القديم
يهز رءوسها مر النسيم
فيسمع في الدجى منها حفيف
كصوت الوخز في قلب أثيم
وفي الأكواخ أقباس ضعاف
كأخيلة الكواكب في الأديم
تصعد من نوافذها الصغيره
زفيرا من أشعتها الحقيره
كأن بزيتها بعض الهموم
وفي الأبعاد كان يرى الخليج
تمج مياهه نورا يموج
كلوح أسود ملقى عليه
إطار فيه من ذهب نسيج
تدبجه مصابيح وزهر
لها في الماء منظرها البهيج
وأضواء النجوم على الشواطئ
إذا امتزجت بأضواء المرافئ
يكون من الخيال بها مزيج
دع الأبعاد في الليل الجميل
تنم سكرى مع النور الضئيل
وخل أنامل النسمات تلعب
كما شاءت بأوراق الحقول
ودع قطر الندى المخمور يسقط
على جسد الجنائن والطلول
وهيا بي نلج قصرا صغيرا
ترى المصباح يملؤه شعورا
رسا في الزوق من عهد طويل
فتبصر إن ولجت فتى كئيبا
من الإحساس يوشك أن يذوبا
إذا أمعنت فيه رأيت جسما
يفور كأن في دمه لهيبا
له قلب يرى في كل قلب
كأن الله ذر به قلوبا
فتى كالفجر ألوانا وعمرا
إذا أبصرته أبصرت فجرا
يمد جماله ظلا غريبا
وإن أصغيت تسمعه يقول
لوالدة ألم بها النحول
لأم فارقت زوجا حبيبا
طواه من الردى ليل ثقيل: «أحس لها اضطرابا في فؤادي
ودمعا في حناياه يجول
وما أحسست أمس بمثل هذا
فأمسي كان، لا أدري لماذا،
جميلا، كل ما فيه جميل!
أجل، يا أم، صرت فتى شقيا
يكاد اليأس يطفئ مقلتيا
فأين مضت ليالي الخوالي
وقلب كان في الماضي خليا؟
أرى غلواء تعرض عن هيامي
ويكتم قلبها سرا خفيا!»
وتسمعها تقول له: «شفيق
بني، لقد أضلتك الطريق
فهل نبهت قلبك يا بنيا؟
جميل، يا وحيدي، أن تحبا
وترفع للهوى عينا وقلبا
وتسمع منه أنغاما عذابا
وتشرب من يديه الماء عذبا
لقد أحسست قبلك باضطراب
وقاسيت الهوى سهلا وصعبا
ولكن ليس يندم من تأنى
فغلوا، يا ابن، أكبر منك سنا
إذا رضي الهوى فالعمر يأبى
تأن فسوف تهوى من تريد
وتهواك العذارى والورود
فمثلك لا يجاوره قنوط
وملء شبابه عقل رشيد
أمامك، يا ابن، أعوام طوال
ومن زهر الهوى عدد عديد
تأن فسوف تقطف منه زهره
تكون أشد من غلواء نضره
يبارك عطرها العهد الجديد»
فيطلق زفرة التعس الكئيب
ويغرق في دجى فكر غريب
ويذهب لا يجيب ... وفي هواه
لظى شك أشد من اللهيب
وكيف يجيب أما جف فيها
عصار الحب في عهد الغروب
أيا أمي، اصرفي ذي الكأس عني
فما في الحب شأن للتأني
وما للعمر شأن في القلوب
ويذهب لا يجيب ... وفي هواه
من الأشجان ما يضني قواه
دعي، يا أم، زهر الناس يبسم
وينشق في الورى غيري شذاه
فلي في جنة الأشواك زهر
غريب اللون لا أرضى سواه! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
2
وشفيت غلواء من آلامها
لكنها لم تشف من أوهامها! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
صبابة الليل على الهضاب
تزحف زحف الهارب المرتاب
ساحبة وشاحها الرمادي
عن جسد الأعشاب والأوراد
وبرزت جواذب السهول
عارية، بلحظها الخجول
وانتعشت حشاشة النسيم
فارتعشت في ورق الكروم
وذوبت أبخرة الأنوار
في الصبح ألوانا على الأطيار
براعم الزهر على الآكام
تبسم الربيع للأيام
ونغم الجداول الرقراقه
تمتمة الطبيعة المشتاقه
من يا ترى يكون هذا الولد؟
في مقلتيه حلم مشرد
كأنه في جسمه الضعيف
وريقة من ورق الخريف
لا حبه يحلو ولا الربيع
فقلبه وعينه دموع!
3
أطلت من الشباك والليل نير
فأبصرت الأوراق تطوى وتنشر
يغيب ضياء البدر عنها فتختفي
ويظهر من بين السحاب فتظهر
فقالت: «أفي البستان ريح لطيفة
تبرد في نفسي لظى يتسعر
أفيه خيالات أحن من الورى
تبدد عني بعض ما أتذكر!»
وخفت إليه، وارتعاشة جسمها
يلونها البدر الحيي المصور
فصادف جفناها الكسيران جدولا
تخلل مجراه سرادق أخضر
وقد طفت الأزهار فوق مياهه
كحلم نقي اللون يأتي ويعبر
وفي حين كانت ترسل الفكر في الدجى
وفي نفسها ماض يمد ويجزر
تراءت لعينيها طيوف مخيفة
تمج كأفواه الأفاعي وتصفر!
وعادت لمأواها لدن عاد رشدها
إليها، وفي الأجفان يأس وأدمع
وألقت بأيدي النوم مخمور رأسها
فجاور عينيها كرى متقطع
تمر به الأحلام خاوية الحشا
جياع تزجيها طوائف جوع
جياع يؤديها الخواء إلى الكرى
فتأكل أفلاذ العيون وتشبع
رموز هوى يسترفد القلب بلغة
إذا جاع، أو يهوي عليه فيبضع
ولما طوى الليل النجي وشاحه
وجاء سفير للصباح يشيع
أفاقت، وقد لاشى لهيب شجونها
سماع طيور في الحديقة تسجع،
كمجمرة أفنت مدى الليل نارها
فما حشوها إلا رماد مجمع
ورن صدى الأجراس في كبد الضحى
يهيب بأرواح التقاة فتسرع
فقالت: «لعل الله يقبل توبتي
فما لي في الدنيا سوى الله مرجع»
4
الناس في المعتكف المقدس
يعلون لله بخور الأنفس
وللنفوس صوتها المسموع
وأذرع العجائز المرتجفه
كأنها مسارج منعكفه
جفت على قمتها الشموع •••
وصلوات الكاهن القديس
تذيب روح الله في النفوس
قال بصوت خافت: «أبانا
أنزل على شعوبك الغفرانا!»
إذا بغلوا كضمير الجاني
تجمد عند لفظة الغفران
وتخفض الرأس إلى الحضيض
ذارفة من جفنها المريض
بعض دموع كالعفاف بيض
والعرق البارد من جبهتها
يرشح كاللهيب من مهجتها
أو كمذاب القلب من توبتها
وكان في إحدى زوايا الهيكل
مختطف الروح شريد المقل
ذو النظر المخدر المشتعل •••
فبدرت من عينه التفاته
إلى المصلى فرأى فتاته
غلواء ذات الألم السري
ذات الضمير التعب الشقي
ذات الهوى المدنس النقي
تقرأ في كتابها الصغير
كأنها تقرأ في ضمير
معذب ملتهب السطور
وتارة ترفع عينا ساهيه
إلى البخور المتلاشي
في سماء الزاويه
فتتلاشى مثله أنفاسها
في خلجات وارتعاش
مثل ارتعاشات الفراش
في الجو حين تنتهي أعراسها
أو كالضباب في مسا الخريف
ينحل في ارتعاشه الخفيف
فقال: «ما تخشى تراها، ما بها
يغمرها طورا دجى اضطرابها،
وتارة تعرض عن كتابها؟»
وانتهت الصلاه
في هيكل الإله
فانصرف الجمهور
وبقيت غلواء
والهم والشقاء
في المعبد المهجور
كشمعة لما تزل مضوأه
بين شموع الهيكل المنطفئه
5
كان شفيق لم يزل مختلي
في الجهة اليسرى من الهيكل
مفكرا في حبه المقفل
يسائل القلب فلا ينطق
والقلب سر في الهوى يخفق
فمذ رأى فلته الذاويه
غلواء ذات الكبد الداميه
باقية تضرع في الزاويه
قال: «أفق يا حب من هجعتك
فسيد الآلام في بيعتك
أحب حتى مريم الزانيه!»
ثم دنا منها وفي مقلته
دمع يطوف الحب في موجته
كحطمة تقذف من مهجته
فانتفضت غلواء من ذعرها
وثارت الأنفاس في صدرها
كأنها البركان في ثورته
فقال: «عفوا، هذه أدمعي
تشفع، يا غلواء، بي فاشفعي
قطرتها من قلبي الموجع
تحمل في موجاتها من دمي
حديث حب لم يرد من فم
ولم يقع من قبل في مسمع
أمام هذا الهيكل الأطهر
أمام عين البائس الأكبر
أمام شمع المعبد الأصفر
وهذه الأشعة الذائبه
من فلذة الغزالة الشاحبه
على رخام المذبح النير
أمام أوجاعي، أمام الألم
أمام هذا الضعف، هذا السقم
وهذه العين التي لم تنم
أطرح قلبي للهوى مجمره!»
فغمغمت غلواء: «ما أكفره
هذا الهوى! يمضي ويأتي الندم»
وحدقت حينا إلى المغرم
وقلبها في صدرها المظلم
يمشي من الآلام في مأتم
ثم أمالت عينها الساهيه
عن عينه الكئيبة الباكيه
واستغرقت في حلم مبهم
فقال: «لا، لا تعرضي فالشقا
أراد، يا غلواء، أن أخلقا
أن أعرف الحب وأن أعشقا
فأي سر في دجاك استتر
تفشيه عيناك لهذي الصور
وعن فؤادي لم يزل مغلقا؟»
ولم يكد يصمت حتى سجد
قدس الهوى ما ذل فيه أحد
فالحب، لا كفر، إله صمد
كأن في مقلتها هيكله
يرى عليه سيد الجلجله
يفتح للحب جراحا جدد
وقال: «غلواء، هنا معبدي
في صدرك المنطفئ الموقد
وعينك الغرقى ببحر الغد»
وصادفت مقلته المذبحا
عليه ذيل من شعاع الضحى
وصورة العذرا فقال: «اشهدي!»
قال: «اشهدي، إن الهوى يشهد
يا صورة لمريم تعبد
يا موقدا للحب لا يخمد» ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
الحب نيران تنير السما
فترسل النور لنا كلما
حان مع الله لنا موعد
أشعة من مقلة الخالق
تذوب في الأكباد من حالق
فتمزج الخالق بالعاشق
والله ما أبدع قلب البشر
حتى يظل خامدا كالحجر
فالنار في عنصره الخافق
قال لها: «قلبك، ما أفجعه!
الله ما أقساه! ما أوجعه!
تكلمي، أود أن أسمعه
أود أن أحني له أضلعي
قوسا من الحب فيبقى معي
ما بقي العمر، وأبقى معه
أود أن أفرش عيني له
هذا دمي أود أن يأكله
إن الهوى يهون الجلجله
ليس الهوى، يا أخت روحي، سوى
قربانة الأرواح، ليس الهوى ...»
فغمغمت غلوا: «سوى مهزله»
وغادرته في أسى موغل
من مشكل يزجى إلى مشكل
كمدلج في ليله الأليل
فقال: «هذا الحب من أنزله؟»
فرن في مسمعه: «المهزله!»
ورجعتها قبة الهيكل!
العهد الثالث
التجلي
1
اجرح القلب واسق شعرك منه
فدم القلب خمرة الأقلام
مصدر الصدق في الشعور هو القلب
وفي القلب مهبط الإلهام
وإذا أنت لم تعذب وتغمس
قلما في قرارة الآلام
فقوافيك زخرف وبريق
كعظام في مدفن من رخام
وإذا القلب لم يرقق بحب
حجرته ضغائن الأيام
والهوى دون أكبد ليس يحيا
فغذاء الهوى من الأجسام
ضح بالقلب إن هويت فليس
القلب إلا وليمة للغرام
يا لها في الهوى وليمة قلب
سوف يبقى لها صدى في الأنام
واشق ما شئت فالشقا محرقات
صعدت من مذابح الأرحام
رب جرح قد صار ينبوع شعر
تلتقي عنده النفوس الظوامي
وزفير أمسى، إذا قدسته الروح،
ضربا من أقدس الأنغام
وعذاب قد فاح منه بخور
خالد في مجامر الأحلام ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قطف الهم والأسى زهرات
نبتت في ضفاف نبع الدموع
وجنى البؤس بعض أشواك ورد
عطفتها الصبا على الينبوع
وإذا بالغرام يضفر منها
لشفيق إكليل قلب وجيع
وتراءت ملائك لشفيق
في ثنايا غمامة بيضاء
واكبتها من السماء عذارى
طاهرات كأدمع الشعراء
حاملات على الصدور حليا
كمصابيح أشعلت في السماء
أو عناقيد أنضجتها شموس الحب
في عالم الخيال الرفيع
حيث لا يضمحل فصل الربيع
وتراءت له سلالم حمراء
تدلت أذيالها في الأثير
فرشت كل سلم بورود
ربطتها شفائف من حرير
وعلى كل وردة قطرات
شع منها لم أدر أي شعور
فكأن الورود جامات حب
أو قوارير رصعت بدموع
وطلتها السما بلون النجيع
وتراءت له جموع العذارى
فوق تلك السلالم العلويه
عازفات له مزامير داود
بكنارة الهوى القدسيه: «كل ليل، يا رب، أغمر بالدمع
سريري من أجل تلك الخطيه
ويميع الفراش ماء عيوني!»
كن يعزفن والصدى في الرقيع
كان يرقى إلى العلا بخشوع «في قلوب الورى فساد ولا صدق
بأفواههم، ففيها شرور
وحلوق الورى قبور! ...» ولما
انقطع اللحن وانتهى المزمور
سمع العاشق المعذب صوتا
رجعت في العلا صداه الخدور: «طهرتك الآلام من كل رجس
والهوى في فؤادك الموجوع
ولياليك في ظمأ وجوع
قدست شعلة السما فمك الإنسي
فاحمد نار السماء ومجد
وهواك الشقي قدسه الدمع
فغمسه بالدماء وخلد
فجر الحب من فؤادك شعرا
أيها البلبل الصموت فأنشد!» ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أيها الفاتحون في الأرض طرا
أيها الشاربون كأس الدماء
أيها الشاخصون للكون سخرا
من خلال القذائف الصماء
ودماء الضعاف والأبرياء
قد عرفتم مجد العروش العظيمه
وطليتم تيجانكم باللبان
وعشقتم من الجمال نجومه
وارتديتم مطارف الأرجوان
ولعبتم بالدهر والتيجان
ذقتم الحب في مجالي جماله
بين رقص الأجساد والأوتار
واغتصبتم حتى حريم خياله
مذ شبعتم من شهوة الأقذار
شهوة الطين في خدور السراري
وافتتحتم ملك الثرى بالصوارم
وسكرتم بخمرة الانتصار
وشربتم دم الورى بالجماجم
واختصرتم صفائح الأعمار
بيراع مداده من نار
ذقتم الراح في اختلاف كئوسه
وتفلتم على يد العصار
ما تركتم للشعب غير رموسه
وظماء الأحشاء للخمار
وسقاط الطلى لبعض الجواري
وعرفتم في المجد كل الأماكن
وقصارى لذاته الحمراء
وعرفتم حتى الغيوب ولكن
ما عرفتم في المجد نور السماء
منحة الآلهات للشعراء!
2
في ليلة حالكة كالهموم
هابطة الجو بثقل الغيوم
كأنها قد حبلت بالرجوم
كان الفتى الشاعر في مخدعه
يبكي فيجري القلب في أدمعه
شعرا يعيه الحزن في مسمعه
وكانت الشمعة في حجرته
تنزع كالميت في ساعته
أكل شيء مثلها لا يدوم؟
وكانت الوحدة كالمدفن
موحشة في ذلك المسكن
وقد سطا النوم على الأعين
واستيقظ الشاعر من سكرته
وحول العين إلى شمعته
أنيسة الأشجان في وحدته
وبعد أن مرت عليه ثوان
كأنها من داميات الزمان
قال بصوت راعش محزن: «يا شمعتي، ماذا وراء النزاع؟
ما هذه القطرة تحت الشعاع
ولم أرى فيها اصفرار الوداع؟
في دمعك الشاحب نور يذوب
ماذا تقولين به للقلوب؟
لم يغمر الشعلة هذا الشحوب؟
أينتهي الحب كما تنتهين
يا شمعتي، يا مثل العاشقين
لذاته تأتي وتمضي سراع؟» •••
وإذ تلاشى نفس الشمعة
مثل تلاشي الروح في الميت
قال الفتى الشاعر للظلمة: «يا مدفن الأنوار ماذا وراء
هذا الدجى الحالك، هذا الغطاء
ماذا وراء الليل، هل من ضياء؟
لم ينقضي الليل ويأتي السحر؟
مهزلة من مهزلات القدر!» ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
في ذلك الليل العصيب الطويل
تذكر الشاعر عهدا جميل
لم ير منه غير شطر ضئيل
إذ كان في ميعته الناعمه
يحلم بالسعادة الدائمه ...
خاب رجاء الأنفس الحالمه!
يا خافقا، ألله ما أوجعك!
ما أبخل الدنيا وما أطمعك!
تعطي ولا تمنح حتى القليل •••
في ذلك الليل ... وما أظلمه!
ذكر الصبا في الأكبد المغرمه
ونوره في الليلة المظلمه
تذكر الشاعر فجر الشباب
وذلك الوادي وتلك الهضاب
وعودة القطعان عند الغياب
ووالدا مر مرور الشبح
كأنه يوم صفاء سنح
فقال: «يا قلبي، إلى الجلجله
حملت آمال الصبا المثقله
ولم تدع منها سوى الأخيله
لأجل غلواء وأجل العذاب
كتبت لي في الحب هذا الكتاب
يا شعلة محجوبة بالهضاب
يا قلب! ...» •••
إذا به، في الحجرة المظلمه،
يصغي إلى حشرجة مؤلمه
بين خفوق القلب والتمتمه
وراء في قلب الدجى والده
يغيم في شفافة صاعده
من صلب تلك الليلة البارده
كأنها، وهي تشق القتام،
لوحة فجر في إطار الظلام
أو ومضة من شعلة مبهمه •••
قدست يا غيبوبة الشاعر
رؤيا كمر الحلم الطاهر
أو كالهوى في عهده الساحر
قدست في أحلامك الشاحبه
قدست في آلامك الذائبه
في روحك الحاضرة الغائبه
في كل ما تحمل منك العيون
في سورة الحب وسكر الجنون
وفي اختلاج الخافق الحائر
في جوف تلك الليلة البارده
كأنها ضمائر جاحده
تخطر فيها فكرة حاقده
وللرياح الهوج بين الورق
عزف كأن الجن فيه زعق
فمزق الأرواح ثم انطلق
تحرك الليل وقال الخيال: «من ليس يبكي في الليالي الطوال
ولا يدمي المقلة الساهده
من لم يذق في الخبز طعم الألم
ولم ينكر وجنتيه السقم
وتسلخ الأوجاع منه حطم
من لا يرى في الشمس طيف الغروب
ويسمع الليل اختلاج القلوب
ويرصد الشمعة حتى تذوب
من لم يغمس في هواه دمه
من يمنع الأهوال أن تطعمه
ولا يرى في كل جرح حكم
من ليس يرقى ذروة الجلجله
ولم يسمر في الهوى أنمله
ويرفع العلقم والخل له
من يصرف العمر على المخمل
ولا يذوق البؤس في الأول!
ولا الأسى في مخدع مقفل
لن يعرف العمر شعاع الإله
ولن يرى آماله في رؤاه
بل عالما يخبط في مهزله!» •••
وانسحب الطيف إلى ظلمته
يجر بالأذيال من ومضته
عين الفتى الغرقى بغيبوبته
حتى إذا ساد السكون المخيف،
وكان في الخارج صوت الحفيف
يعلو شديدا من غصون الخريف،
أفاق من سكرته الشاعر
وقال: «هل يرجى له آخر
هذا الدجى الغارق في ثورته؟ •••
قد يحمل الفجر عزاء إلي
إن حمل النور إلى مقلتي
فالليل قد أخنى على كاهلي
يخيفني الليل بأرواحه
ثائرة كالهول في ساحه
وبالرؤى من بيض أشباحه
لا أنشد البؤس ولا أرغب
في حمل حب قومه عذبوا
فالحب في الآلام ثقل علي
يخيفني في مخدعي البارد
خيال حب مبهم جامد
أبكم كالأرماس، يا والدي
يخيفني الليل فأين السحر
يطرد من عيني هذي الصور
وما عليها من شقاء البشر؟» ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
كان الدجى لما يزل ثائرا
والريح تدمي الأفق الماطرا
بالبرق، جرح الملإ الخالد
كأن لليل هوى حائرا
ذاق الأسى فلم يزل ساهرا
العهد الرابع
الغفران
1
مضت أشهر نذرت للمطر
وأظلم فيها المسا والسحر
وأقبل نوار عرس الطبيعة
يضحك في ورقات الشجر
يدغدغ بالطل عشب الحقول
ويطبع ألوانه في الزهر
ويبني على الهضبات متاحف
تسخر من هذيان البشر
كأن عباقرة الجن فيها
سكن وعلقن تلك الصور
فخف الشباب ندي الحياة
يستقبل الحلم المنتظر
على ثغره بسمات الربيع
وفي قلبه بسمات أخر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وفي يوم عيد نقي السماء
كأن السما صفحة من سور
أطل شفيق على الهضبات
فراء الشباب عليها انتشر
وأبصر غلواء بين الزهور
كحواء بين شهي الثمر
تسرح في عدنها نظرات
عرفن أزاهير خير وشر
وقد لبست ثوبها الزنبقي
عليه نسيج بلون الخضر
وألقت على العشب جسما هزيلا
كغصن من الياسمين انكسر
فخف إليها وفيه عذاب
بدا منه في مقلتيه أثر
وقال: «لقد خلع الحقل عنه
رداء الشتاء وغطى الحجر
وألقى عليه الربيع وشاحا
جمال الطبيعة فيه انحصر
فهلا خلعت رداء الليالي
وألبست روحك ثوب البكر
وهلا تشبهت بالياسمين
فما كاد يحجب حتى ظهر
لقد غسلت بسمات الزهور
ذنوب الشتاء الكفيف البصر
وعاد العفاف إلى الهضبات
ففي كل غرس فؤاد غفر»
فقالت: «أحاول أن أتناسى
زمانا مضى وخيالا عبر!»
فقال: «وماذا يمثل هذا الخيال؟»
فقالت: «غراما عثر»
فقال وقد جحظت مقلتاه: «وهذا؟» فقالت: «حبيبا غدر»
وهذا الحبيب؟ غفرت له
ويعفو إلهك عما بدر
غفرت كما غفرت في الربيع
زهور الربى لشتاء كفر
ولكن بي ندما كاللهيب
يريني الحياة خلال الشرر
وكان النسيم يهز الغصون
فتنشر في الجو عطر الزهور
كأن العطور خطايا عذارى
حلمن بأثمارها في الخدور
ولما أفقن اعترفن بها
وقد هزهن الضمير الطهور
وكان المساء على الهضبات
ينفث أشباحه في فتور
وشمس المغيب تعير الظلال
ألوانها في مطاوي الصخور
فقال شفيق، وفي قلبه
رجاء يموت وحب يثور: «عشقتك، يا غلو، عشقا نما
شقي الرؤى في شواطئ صور
وكنت من الداء في نشوة
تريك الحياة ظلاما ونور
جهلت الهوى فنكرت الربيع
وقد تنكرين نمو البذور
ومن لم يقدر له أن يشم
ينكر حتى أريج العطور»
فقالت: «صدقت ولكنني
أحس بقلبي جفاف الجذور
فأنت ترى في الربيع الجمال
وأبصر أزهاره كالبثور
وتبصر في الزهر لون الحياة
وأبصر في الزهر لون القبور»
2 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وأهوى على صدرها باكيا
وأهوت على رأسه باكيه
وما هي إلا دقايق حتى
تلاشت رؤى نفسها الداميه
فأدنت إلى ثغره ثغرها
على مشهد من تقى الرابيه
على مشهد من نقاء الزهور
العذارى ومن عفة الساقيه •••
وإذ صعد البدر خلف الجبال
وذاب على الربوة العاليه
وهومت الطير بين الغصون
لتحلم أحلامها الصافيه
ولم يبق يسمع في الحقل إلا
تنهد شبابة الراعيه
أفاق الحبيبان من سكرة الدموع
إلى سكرة ثانيه
وظلا من السكر في نزوات
تطهرها عفة باقيه
إلى أن دنا موعد للفراق
واصفرت الأنجم الساهيه
كأن النجوم الضئيلة في الأفق
رشح خمور على خابيه
كأن النجوم زفير خطايا
تصعده ليلة زانيه
3 «أشعة من مقلتيك ملهبه
يا ألمي، تجعل نفسي طربه
أشرق على قلبي بهيا نيرا
فيورق الشوك به ويزهرا
يا هيكلا كهانه القلوب
بخوره الأدمع والشحوب
أسمع أجراسك من بعيد
فهي تناديني إلى السجود!»
ودق نصف الليل في السكون
فاختلج الشاعر كالظنون
وقال: «إن تعب الضمير
يصعد من مجاهل القبور
يا ليل، يا مسارب الفواجع
يا قرب الدماء والمدامع
كم من خلي فيك يستريح!
وكم شقي بائس ينوح!
ارقد قرير العين يا خلي
وأنت فاشق أيها الشقي
فالليل ملك المترف السعيد
وملك كل تعس شريد!» ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
غلواء، يا نبراس قلبي البائس
يا أملا في ظلمات اليائس
يا مرهما لقلبي الموجوع
يا ملكا يطوف في دموعي
أحب فيك صورة عذراء
وإن تكن أصباغها شوهاء
يا صورة تجري بها السعاده
الحب فيها دونه العباده
يا أرج المروج والآكام
يا وترا أسمعني أنغامي
مجدت آلامك في الزهور
في وهج الأنوار، في الطيور
في بسمات الصبح، في الأصائل
في القمح، في تموج السنابل
في أدمع الأيم واليتيم
في صرخة البريء والمظلوم
يا زهرة تائبة مقدسه
يا خبز قربانة نفسي التعسه
أحمدك اليوم كأمس وغدا
وكلما غاب النهار وبدا
وكلما بللت بالدموع
شعرا شقيا قد من ضلوعي! ••• ... وقد أحست فترة بروحها
تطرح الأوهام من جروحها
ورفعت إليه عينا ذائبه
كأنها صورة نفس تائبه
لكنها عادت إلى جنونها
وثارت النيران في عيونها
وكان قد أوشك أن يقبلا
جبينها المضطرب المشتعلا
حين استحالت جمرة ملتهبه
تراجعت عنه خطى مضطربه
وبعد فكر قالت: «الحياة
عقارب من جسدي تقتات
دعني، فلا أبرح يا حبيبي
أعيش في ماضي، في ذنوبي
في حمأة الضمير، في أوجاعي
في بؤرة الديدان والأفاعي
أيستطيع الطيب في القاروره
أن يغسل الأوساخ في القاذوره
دعني، وخل نفسك العذراء
عذراء لا ترجس في غلواء
واسترجع القبلات من خديا
مغفرة ثقيلة عليا!»
فقال: «إن دمعة تطهرت
تكفي لغسل النفس مهما قذرت
فأدمع التوبة والغفران
أقدس، يا غلواء، من القربان
فهي خمير الألم المعجون
وفلذة القلوب في العيون
وسبحة النفوس في العذاب
تجمع في سلك من الأهداب
وهي عصير من لبان طاهر
تعقده الآلام في المحاجر
ولؤلؤ في قعر بحر خاطي
يقذفه الموج إلى الشواطي» •••
مرت ثوان كلها أحلام
لم يتخلل سكرها كلام
كان بها الاثنان يصغيان
إلى نزاع الألم السكران
إذا به يقول: «يا غلواء
هذا الشقا تبارك الشقاء
هذا الشقا، يا غلو، يا حبيبتي
يا أخت، يا عروس، يا رفيقتي
Bog aan la aqoon