ومن هنا نفهم السر في الصراع المشبوب أبدا بين روحه وعقله، ومن هنا ندرك السر في أنه كلما اشتدت به ثورة الشك كان يأخذه المرض حتى يعجز عن الطعام والكلام.
وقد ثارت به في المدرسة النظامية عندما بلغ غاية عليا بين العلماء ورجال المال والجاه رغبة ملحة إلى الإيمان، كما ثارت به ثورة من الشك حارة قاسية.
الأولى تذكره بالآخرة ونعيمها ورضاء الله وجلال القرب منه، وتذوق رحيق الرضا والسلام واليقين.
والثانية تمنيه وتعده بالجاه والمال والتفوق العلمي ولذة النصر في ميادين الجدل والحوار، وتنذره أنه قد يفارق كل هذا، ويحرم من كل هذا؛ فيشقى ويتألم، ثم يحاول الرجوع فلا يستطيع؛ فيفقد الراحتين ويحرم اللذتين.
وتردد الغزالي طويلا بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، حتى فقد إرادته وأضاع اختياره، وأصبح ألعوبة لأفكاره وأهوائه.
احترق الغزالي في تلك الفترة بهلب الحيرة والشك وتلاطم الفكر، وحيرة العقل والقلب والحس، حتى سرى الأمر من الروح إلى الجسد؛ فأمسك لسانه، حتى فقد الكلام، وأورثه ذلك حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم. فقال الأطباء: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا علاج إلا بزوال علته الذهنية والفكرية.
وفي تلك الظلمات وبين النار والدخان، والنور الذي يلوح من وراء الأفق التجأ الغزالي إلى الله؛ يطلب النجدة، ويطلب الإيمان، وينشد اليقين والسلام، فأجابه الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وأراه من الأسرار ما سهل عليه الإعراض عن الجاه والمال والأصحاب.
الهداية
فارق الغزالي بغداد، بل فارق حياته الأولى بشكوكها العقلية الملحة، ومتاعبها الدنيوية، وملاذها الجسدية؛ ليستبدل بالشك إيمانا ثابتا لا تجرؤ عليه الشكوك أو الخيالات، وبدنيا القراءات والمجادلات دنيا من تأملات الفكر وكشف الروح، وبمتاع الجسد متاعا علويا.
فارق الغزالي بغداد؛ لينطلق سائحا في أحلامه وتفكيره، وليبتدع ما شاء له الإلهام من تراث خالد.
Bog aan la aqoon