إهداء
- إلى كل من سلك طريقا يلتمس فيه علما ليسهّل الله عليه طريقا إلى الجنة.
- إلى من استغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء.
- إلى كل من أراد أن يكون- بإذن الله- من ورثة الأنبياء.
- إلى من حاول التشبه بالرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
- إلى كل قارئ ومقري ومحقق وباحث يرجو الله واليوم الآخر.
- إلى هؤلاء جميعا أهدي تحقيق هذا الكتاب «غيث النفع في القراءات السبع» للإمام «الصفاقسي» ﵀.
1 / 5
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الحمد لله الذي كان بعباده خبيرا بصيرا وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أثقّل بها الميزان، وأحقّق الإيمان، وأفك الرهان اللهم لا تحرمنا برها وبركتها، واجعلها من خير وآخر أعمالنا، سبحانه من إله عظيم أورث كتابه من اصطفى من عباده قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢].
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أنزل على قلبه كتابه، فكان بليغا في نطقه، ملك البيان والمعاني بقدرته، فأصبح بديعا يكلم كل قبيلة بلغتها، فله الحمد كله على أن شرفنا وأكرمنا وكرمنا بأن أنزله قرآنا عربيا قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: ٢]، وأنزله بلسان عربي مبين، على نبي عربي عظيم فأحب العربية قال- ﷺ: «أحب العربية لثلاثة: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي».
ولما كان القرآن هو أفضل ما في الوجود فقد صرفت إليه الهمم وأحيط بالرعاية والاهتمام منذ أن نزل واكتمل من جميع الجوانب تفسيرا وإعرابا وغيرها، وكان من أهم وأبرز هذه الجوانب هو القراءات المتواترة التي نزل بها الوحي فهي أعظم الجوانب وأشرفها على الإطلاق لتعلقها مباشرة بكلمات القرآن.
وبين أيدينا كتاب عظيم النفع هو «غيث النفع في القراءات السبع»
1 / 6
لمؤلفه الإمام الصفاقسي- رحمه الله تعالى-، فيه من الجوانب المضيئة الكثير، ولن أتكلم عنها لأنها موضحة في مقدمة المؤلف منعا للتكرار، ولكن ما أريد أن أنبه عليه وأشير إليه هو أن المؤلف ﵀ اختصر الأصول اختصارا كبيرا وذلك لشهرتها وتكرارها في غالب كتب القراءات، وقد قرأته من أوله إلى آخره وأمعنت النظر فيه مرات ومرات عديدة فهو كما قال الشاعر:
قد سألت الغيث لمّا انهال ... من سقف السّحاب
أيّ نبع منه تأتي ... في سخاء وانسياب
قال: بحر الأرض نبعي ... وإليه في إيابي
رحلتي كانت بخارا ... وركاما من رباب
ثمّ ماء جاريا عذبا ... بخصب أو يباب
لست أفنى رغم أنّي ... في البراري أتبدّد
إن عرتني شائبات ... عيرتني أتجدّد
سوف أبقى سائغا حتّى ... وإن طبعي تجمّد
كلّ حيّ بوفائي ... غامرا يحيا ويسعد
فالله أسأل أن يجعل عملي في تحقيق هذا الغيث غيثا نافعا يهب لي به يقينا يملأ الصدر ويرد النفس عن غيها، وأن يجعلني ممن أورثهم كتابه سبحانه، وأن ينفع به جمعا غفيرا من الموحدين السالكين إليه الدرب متبعين غير مبتدعين، إنه ربي على ما يشاء قدير، فهو نعم المولى ونعم النصير. آمين.
أحمد محمود عبد السميع الشافعي الحفيان
المنيا- أبو قرقاص- بني موسى
٢ رجب ١٤٢١ هـ الموافق ٣٠ سبتمبر/ ٢٠٠٠ م
1 / 7
رموز خاصة بالكتاب
١ - المكي: هو ابن كثير.
٢ - البصري: هو أبو عمرو.
٣ - الأخوان: حمزة، والكسائي.
٤ - الحرميان: نافع وابن كثير حال اتفاقهما.
٥ - الكوفيون: هم عاصم، وحمزة، والكسائي.
٦ - عليّ: هو الكسائي.
٧ - النحويان: هما أبو بكر والكسائي.
٨ - الشامي: ابن عامر.
٩ - الابنان: هما ابن كثير وابن عامر.
١٠ - المحقق: هو إمام الحفاظ وحجة القراء محمد بن محمد بن محمد ابن علي بن يوسف المعروف بابن الجزري (٥٧١ - ٨٣٣ هـ).
١١ - لهم: إذا اتفق ورش وحمزة والكسائي.
١٢ - لهما: إذا اتفق ورش، وأبو عمرو البصري.
١٣ - بين بين: أي بين الفتح والإمالة الكبرى.
١٤ - فاصلة: آخر كلمة في آخر آية من آخر الربع وهناك رموز أخرى موضحة في مقدمة المؤلف ﵀ وهي غير هذه الرموز، ولكن هذه أشهرها.
1 / 8
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العلامة المحقق الولي الصالح سيدي علي النوري الصفاقسي- ﵁ ونفعنا به وبعلومه آمين: الحمد لله الذي أنزل القرآن وشرفنا بحفظه وتلاوته وتعبدنا بتجويده وتحريره وجعل ذلك من أعظم عبادته، فطوبى لمن أعرض عن كل شاغل يشغله عن تدبره ودراسته مع رعاية آدابه الظاهرة، والباطنة، والقيام بحرمته وجلالته فهو المنهج القويم والصراط المستقيم وشفاء الصدور والهدى والنور والمعتصم الأوقى والعروة الوثقى بحر المعاني والمعارف والعلوم ومعدن الأسرار والحكم والفهوم، كتاب كريم عزيز مجيد لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الموحدين المستغفرين الحاضرين مع الله في كل حال، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب المعجزة الدائمة والمفاخر التامة والشرف والكمال- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- الذين ملأ الله قلوبهم بمعرفته ومحبته فنهضوا لخدمته بالإرشاد والإفادة صلاة وسلاما تبلغنا بهما درجات المحسنين وننتظم معهم في سلك لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ.
وبعد فاعلم جعلني الله وإياك من العصابة الناجية ومنحني وإياك في جميع الأحوال اللطف والعافية أن صرف العناية إلى خدمة كتاب الله من أعظم القرب والسعي الناجح وأحسن ما يدخره المرء ليوم يتبين فيه الخاسر والرابح، وقد روينا في فضائل القرآن وفضل أهله أحاديث كثيرة ولو لم يكن في ذلك إلا ما جاء في الصحيح عن عثمان- ﵁ قال: قال رسول الله- ﷺ: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» لكان كافيا، وكان سفيان الثوري يقدم تعلم القرآن على الغزو لهذا الحديث
1 / 9
ولقوله- ﷺ: «أفضل العبادة قراءة القرآن» وقيل لعبد الله بن مسعود- ﵁ إنك تقلّ الصوم فقال: «إني إذا صمت ضعفت عن تلاوة القرآن وتلاوة القرآن أحب إليّ» فحملة القرآن القائمون بحقوقه نطقا وعلما وعملا أهل الله وخاصته وأشرف هذه الأمة وخيارهم مهدوا لأنفسهم وتزوّدوا من دار الفناء قبل ارتحالهم واضمحلالهم، فأكرم بعلم يتصل سنده برب العالمين بواسطة روح القدس وسيدنا محمد صفوة الخلق أجمعين، فيا لها من نعمة ما أعظمها ومنقبة شريفة ما أجلها وأجملها وقد ابتلي كثير من الناس بالتصدر للإقراء قبل إتقان العلوم المحتاج إليها فيه دراية ورواية وتمييز الصحيح من السقيم والمتواتر من الشاذ وما لا تحل القراءة به بل وما تحل، بعضهم يعتقد أن جميع ما يجده في كتب القراءات صحيح يقرأ به وليس كذلك بل فيها ما لا تحل القراءة به وصدر منهم ﵏ على وجه السهو أو الغلط والقصور وعدم الضبط ويعرف فساد ذلك الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون تحقيقا لوعده الصادق إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وقد وقع بعض ذلك في الكتب التي انكب أهل العصر عليها كشراح الشاطبية «وإنشاد الشريد» للعلامة أبي عبد الله محمد بن غازي «والمكرر» «والبدور الزاهرة» كلاهما للشيخ أبي حفص عمر بن قاسم الأنصاري شيخ العلامة القسطلاني وقد أخذ الله العهد على العلماء أن لا يكتموا ما علمهم ويبينوه غاية جهدهم فقال ﷿: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ وقال رسول الله- ﷺ: «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار» وعن علي- ﵁: ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا، فاستخرت الله تعالى في تأليف كتاب أبين فيه القراءات السبع التي ذكرها الأستاذ أبو محمد القاسم الشاطبي غاية البيان وإن كان المتواتر والصحيح أكثر من ذلك لأن الغالب على أهل هذا الزمان اقتصارهم على
1 / 10
ذلك ماشيا في جميع ذلك على طريقة المحققين كالشيخ العلامة أبي الخير محمد ابن محمد بن محمد بن الجزري الحافظ ﵀ من تحرير الطرق وعدم القراءة بما شذ وبما لا يوجد كما يفعله كثير من المتساهلين القارئين بما يقتضيه الضرب الحسابي فإن ذلك غير مخلص عند الله ﷿ وكان شيخنا ﵀ يحذرني من ذلك كثيرا ويقول ما معناه: إياك أن تميل إلى الراحة والبطالة وتقرأ كتاب الله بما يقتضيه الضرب الحسابي كما يفعله أهل الكسل وأظنه أنه أخذ عليّ عهدا بذلك حرصا منه ﵀ على إتقان كتاب الله وهذا هو الحق الذي لا ينبغي للمؤمن أن يحيد عنه وسميته «غيث النفع في القراءات السبع» والله أسأل أن يبلغ به المنافع، ويجعل الناظر فيه ممن
يسابق إلى الخيرات ويسارع، وأن يرينا بركته وقت حولنا في رمسنا وانتقالنا إليه وسوقنا إلى المحشر ووقوفنا بين يديه. ولنذكر قبل الشروع في المقصود فوائد تشتد الحاجة إلى معرفتها:
الأولى: تواتر عن النبي- ﷺ أنه قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» قاله لعمر لما جاءه بهشام بن حكيم وقد لببه بردائه أي جعله في عنقه وجره منه لما سمعه يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها له رسول الله- ﷺ وكان أوّلا أتاه جبريل فقال له: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد فقال أسأل الله معافاته ومعونته وإن أمتى لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية على حرفين فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة بثلاثة فقال له مثل ذلك ثم أتاه الرابعة فقال له إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» واختلفوا في المراد بهذه الأحرف السبعة على نحو من أربعين قولا واضطربوا في ذلك اضطرابا كثيرا حتى أفرده العلامة أبو شامة بالتأليف مع إجماعهم إلا خلافا لا يعتد به على أنه ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبعة أوجه إذ لا يوجد ذلك إلا في
1 / 11
كلمات يسيرة نحو أرجه وهيت وجبريل وأفّ وعلى أنه ليس المراد هؤلاء القراء السبعة المشهورين، فذهب معظمهم وصححه البيهقي واختاره الأبهري، وغيره واقتصر عليه في القاموس إلى أنها لغات.
واختلفوا في تعيينها، فقال أبو عبيد قريش وهذيل، وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن، وقال غيره خمس لغات في أكناف هوازن سعد وثقيف وكنانة وهذيل وقريش ولغتان على جميع ألسنة العرب وقيل المراد معاني الأحكام كالحلال والحرام والمحكم والمتشابه والأمثال والإنشاء والإخبار، وقيل الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمجمل والمبين والمفسر، وقيل غير ذلك.
وقال المحقق ابن الجزري: ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله عليّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله، وذلك أنني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة ويحسب بوجهين، أو بتغير في المعنى فقط نحو: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وإما في الحروف بتغير في المعنى لا في الصورة نحو تبلو وتتلو أو عكس ذلك نحو بصطة وبسطة، أو بتغييرهما نحو أَشَدَّ مِنْكُمْ ومنهم وإما في التقديم والتأخير نحو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أو في الزيادة والنقصان نحو وأوصى ووصى فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها، ثم رأيت أبا الفضل الرازي حاول ما ذكرته وكذا ابن قتيبة حاول ما حاولنا بنحو آخر انتهى.
وأبين الأقوال أولاها بالصواب الأول ويشهد له المعنى والنظر أما المعنى فقد قال الداني: الأحرف الأوجه أي أن القرآن على سبعة أوجه من اللغات لأن الأحرف جمع في القليل كفلس وأفلس والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية فالمراد بالحرف الوجه أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية فإذا استقامت
1 / 12
له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت وامتحنه الله بالشدة والضر ترك العبادة وكفر فهذا عبد الله على وجه واحد فلهذا سمى النبي- ﷺ هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفا على معنى أن كل شيء منها وجه انتهى، وأما النظر فإن حكمة إتيانه على سبعة أحرف التخفيف والتيسير على هذه الأمة في التكلم بكتابهم كما خفف عليهم في شريعتهم، وهو كالمصرح به في الأحاديث الصحيحة كقوله أسأل الله معافاته ومعونته وكقوله: «إن ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف واحد فرددت إليه أن هوّن على أمتى ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف» لأنه- ﷺ أرسل للخلق كافة وألسنتهم مختلفة غاية التخالف كما هو مشاهد فينا ومن كان قبلنا مثلنا وكلهم مخاطب بقراءة القرآن قال الله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فلو كلفوا كلهم النطق بلغة واحدة لشق ذلك عليهم وتعسر إذ لا قدرة لهم على ترك ما اعتادوه وألفوه من الكلام إلا بتعب شديد وجهد جهيد، وربما لا يستطيعه بعضهم ولو مع الرياضة الطويلة وتذليل اللسان كالشيخ والمرأة فاقتضى يسر الدين أن يكون على لغات، وفيه حكمة أخرى، وهي أنه- ﷺ تحدى بالقرآن جميع الخلق قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الآية، فلو أتى بلغة دون لغة لقال الذين لم يأت بلغتهم لو أتى بلغتنا لأتينا بمثله وتطرق الكذب إلى قوله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فإن قلت يعكر على هذا أن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان وهما قرشيان لغتهما واحدة أن تكون لغتهما واحدة فقد يكون قرشيا مثلا ويتربى في غير قومه فيتعلم لغتهم بها وهو كثير فيهم وفي الحديث: «أنا أعربكم أنا من قريش ولساني لسان سعد بن بكر» وفيه أيضا: «أنا أعرب العرب ولدت من قريش ونشأت في بني سعد فأنى يأتيني اللحن» وقال تعالى: وَهذا
1 / 13
لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فعم العرب ولم يخص قبيلة، وهذه الأحرف السبعة داخلة في القراءات العشرة التي بلغتنا بالتواتر وغيرها مما اندرس وكان متواترا راجع إليها لأن القرآن محفوظ من الضياع ولو تطاولت عليه السنون إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ والله أعلم.
الثانية: مذهب الأصوليين، وفقهاء المذاهب الأربعة والمحدثين القراء أن التواتر شرط في صحة القراءة ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر ولو وافقت رسم المصاحف العثمانية والعربية وقال الشيخ أبو محمد مكي: القراءة الصحيحة ما صح سندها إلى النبي- ﷺ، وساغ وجهها في العربية ووافقت خط المصحف وتبعه
على ذلك بعض المتأخرين ومشى عليه ابن الجزري في نشره وطيبته قال فيها:
فكلّ ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي
وصحّ إسنادا هو القرآن ... فهذه الثّلاثة الأركان
وحيثما يختلّ ركن أثبت ... شذوذه لو أنّه في السّبعة
وهذا قول محدث لا يعول عليه ويؤدي إلى تسوية غير القرآن بالقرآن، ولا يقدح في ثبوت التواتر اختلاف القراءة فقد تتواتر القراءة عند قوم دون قوم فكل من القراء إنما لم يقرأ بقراءة غيره لأنها لم تبلغه على وجه التواتر ولذا لم يعب أحد منهم على غيره قراءته لثبوت شرط صحتها عنده وإن كان هو لم يقرأ بها لفقد الشرط عنده فالشاذ ما ليس بمتواتر، وكل ما زاد الآن على القراءات العشرة فهو غير متواتر، قال ابن الجزري: وقول من قال إن القراءات المتواترة لا حد لها إن أراد في زماننا فغير صحيح لأنه لم يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشرة وإن أراد في الصدر الأول فمحتمل، وقال ابن السبكي: ولا تجوز القراءة بالشاذ والصحيح أنها ما وراء العشرة وقال في منع الموانع: والقول بأن القراءات الثلاثة غير متواترة في غاية السقوط ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين.
1 / 14
تكميل:
وأما حكم القراءة بالشاذ فقال الشيخ أبو القاسم العقيلي المعروف بالنويري المالكي في شرح طيبة النشر: اعلم أن الذي استقرت عليه المذاهب وآراء العلماء أنه إن قرأ بالشواذ غير معتقد أنه قرآن ولا موهم أحدا ذلك بل لما فيها من الأحكام الشرعية عند من يجنح بها أو الأدبية فلا كلام في جواز قراءتها وعلى هذا يحمل حال كل من قرأ بها من المتقدمين وكذلك أيضا يجوز تدوينها في الكتب والتكلم على ما فيها وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها أو بإيهام قرآنيتها حرم ذلك، ونقل ابن عبد البر في تمهيده إجماع المسلمين على ذلك انتهى.
وأما حكم الصلاة بالشاذ فقال في المدونة: ومن صلى خلف من يقرأ بما يذكر من قراءة ابن مسعود- ﵁ فليخرج وليتركه فإن صلى خلفه أعاد أبدا، وقال ابن شاس، ومن قرأ بالقراءات الشاذة لم تجزه ومن ائتم به أعاد أبدا، وقال ابن الحاجب: ولا تجزئ بالشاذ ويعيد أبدا.
الثالثة: شرط المقرئ أن يكون مسلما عاقلا بالغا ثقة مأمونا ضابطا خاليا من الفسق ومسقطات المروءة ولا يجوز له أن يقرئ إلا بما سمعه ممن توفرت فيه هذه الشروط أو قرأه عليه وهو مصغ له أو سمعه بقراءة غيره عليه فإن قرأ نفس الحروف المختلف فيها خاصّة أو سمعها وترك ما اتفق عليه جاز إقراؤه القرآن بذلك واختلف في إقرائه بما أجيز فيه فقيل بالجواز وقيل بالمنع، وإذا قلنا بالجواز فلا بد من اشتراط أهلية المجاز.
الرابعة: يجب على كل من قرأ أو أقرأ أن يخلص النية لله ولا يطلب بذلك غرضا من أغراض الدنيا كمعلوم يأخذه على ذلك وثناء يلحقه من الناس أو منزلة تحصل له عندهم ففي الخبر: «إن الله ﷿ لما خلق جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون ثلاثا، ثم قالت: أنا حرام
1 / 15
على كل بخيل ومراء» وفيه أيضا: «من عمل من هذه الأعمال شيئا يريد به عرضا من الدنيا لم يشمّ عرف الجنة وعرفها يوجد على مسيرة خمسمائة عام» فإن كان له شيء يأخذه على ذلك فلا يأخذ بنية الإجارة ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير بل بنية الإعانة على ما هو بصدده ويقول مع المعرفة أنا عبد الله أخدمه وآكل وأشرب وألبس من رزقه وخدمتي له حق عليّ ورزقه لي محض فضل منه وإذا كانت هذه نيته فلا يتضجر ولا يترك القراءة لقطع المعلوم فإن تركها لقطعه فهو دليل على فساد نيته وهذا يجري في كل من يأخذ شيئا على وظيفة شرعية كالإمام والمدرس وحارس الثغور ولا يجوز لأحد أن يتصدر للإقراء حتى يتقن عقائده ويتعلمها على أكمل وجه ويتعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه وما يحتاج إليه من معاملاته وأهم شيء عليه بعد ذلك أن يتعلم من النحو والصرف جملة كافية يستعين بها على توجيه القراءات ويتعلم من التفسير والغريب ما يستعين به على فهم القرآن ولا تكون همته دنيئة فيقتصر على سماع لفظ القرآن دون فهم معانيه وهذا أعني علم العربية أحد العلوم السبعة التي هي وسائل لعلم القراءات، الثاني التجويد هو معرفة مخارج الحروف وصفاتها، والثالث الرسم، الرابع الوقف والابتداء، الخامس الفواصل، وهو فن عدد الآيات، السادس علم الأسانيد وهو الطرق الموصلة إلى القرآن وهو من أعظم ما يحتاج إليه لأن القرآن سنة متبعة ونقل محض فلا بد من إثباتها وتواترها ولا طريق إلى ذلك إلا بهذا الفن، السابع علم الابتداء والختم وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما وما من علم من هذه العلوم إلا وألفت فيه دواوين وقد ذكر جميعها إلا الأول الإمام العلامة أحمد القسطلاني في كتابه لطائف الإشارات في القراءات الأربعة عشر ﵀ وأثابه رضاه آمين، فمن أرادها فلينظر مادتها فإنّ ذكرها يخرجنا عن قصد الاختصار إلا ما لا بد منه فنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
1 / 16
الخامسة: ينبغي له تحسين هيئته وليحذر من الملابس المنهيّ عنها ومما لا يليق بأمثاله ويجلس غير متكئ مستقبل القبلة متطهرا ويزيل نتن إبطيه أو ما له رائحة كريهة بما أمكن له ويمس من الطيب ما يقدر عليه ولا يعبث بلحيته ولا بغيرها وليحفظ بصره عن الالتفات إلا من حاجة وليكن خاشعا متدبرا في معاني القرآن ساكن الأطراف إلا إذا احتاج إلى إشارة للقارئ فيضرب بيده الأرض ضربا خفيفا أو يشير بيده أو برأسه ليفطن القارئ لما فاته ويصبر حتى يتفكر فإن تذكر وإلا أخبره بما ترك أو غير قاصدا بجميع ذلك إجلال القرآن وتعظيمه ويوسع مجلسه ليتمكن جميع أصحابه من الجلوس فيه، وفي الحديث «خير المجالس أوسعها» وليحذر من دسائس نفسه في هذا وأمثاله ويقدم الأسبق فالأسبق فإن أسقط الأسبق حقه قدم من قدمه فإن جاءوا دفعة أو اجتمعوا للصلاة فليقدم الأفضل فالأفضل أو المسافرين وذوي الحاجة من غير
ميل ولا متابعة هوى فإن رأى في بعض أصحابه شيئا نهاه مع إظهار الشفقة عليه والرفق به فهو أقرب للقبول وأعظم أجرا عند الله وفيه التخلق بأخلاق الله فإنا نراه لا يعاجل بالعقوبة من هو منهك في المعاصي والآثام بل في الكفر وعبادة الأصنام بل يمدهم بالنعم المتكاثرة وأظهر لهم الآيات البينات الواضحة الظاهرة وأرسل لهم رسله وأيدهم بالدلالات الباهرة كل ذلك ليعرفهم به ويدعوهم إلى ما عنده من الكرامات التي لا تحصى وهو القادر على أن يهلك جميع العوالم في أقل من فتح عين حارس، وأيّ حلم وجود أعظم من هذا وشرف العبد وفضله وعزه وفخره التخلق بأخلاق الله تعالى ولا يصاحب إلا من يعينه على الخير ومكارم الأخلاق وإلا فالوحدة أولى به قال أبو ذر- ﵁: الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة، وليتخلق في نفسه ويأمر جميع من حضره بالأخلاق النبوية وليتمسك بالكتاب والسنة في جميع تصرفاته الظاهرة والباطنة فهذا أصل كل خير ومنبع كل فضيلة.
1 / 17
وعن عبد الله بن مسعود- ﵁: «ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفرطون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون». والآداب كثيرة كالسواك والطهارة الصغرى وأما الكبرى فهي واجبة وتفصيله في الفقه، والبكاء فإن لم يبك فليتباك فإن لم يبك بعينه فليبك بقلبه فقد ورد: «اقرءوا القرآن وابكوا» فإن لم تبكوا فتباكوا فإن لم تبكوا بعيونكم فابكوا بقلوبكم، والموضع الطاهر واستحب بعضهم المساجد للطهارة وشرف البقعة واجتناب الضحك والحديث في خلال القراءة إلا ما يضطر إليه والنظر إلى ما يلهي ويحير الفكرة وصرف القلب إلى شيء سوى القرآن وإظهار الحزن والخشوع والقلب فارغ من ذلك وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
السادسة: لم يكن في الصدر الأول هذا الجمع المتعارف في زماننا بل كانوا لاهتمامهم بالخير وعكوفهم عليه يقرءون على الشيخ الواحد العدة من الروايات والكثير من القراءات كل ختمة برواية لا يجمعون رواية إلى رواية واستمر العمل على ذلك إلى أثناء المائة الخامسة عصر الداني وابن شريح وابن شيطا ومكي والأهوازي وغيرهم فمن ذلك الوقت ظهر جميع القراءات في الختمة الواحدة واستمر عليه العمل إلى هذا الزمان وكان بعض الأئمة ينكره من حيث إنه لم يكن عادة السلف. قلت: وهو الصواب إذ من المعلوم أن الحق والصواب في كل شيء مع الصدر الأول قال الله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وقال- ﷺ: «وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» وقال ابن مسعود- ﵁: «من كان منكم
1 / 18
متأسيا فليتأس بأصحاب محمد- ﷺ فإنهم كانوا أبر هذه الأئمة قلوبا وأعلمها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه- ﷺ وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» انتهى.
وانظر إلى توقف أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد- ﷺ أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- أجمعين في جمع القرآن وكتبه في المصاحف وأشفقوا من ذلك مع أنه يظهر ببادئ الرأي أنه حق وصواب إذ لولا جمعه وحفظه لذهب هذا الدين نعوذ بالله من ذلك وتوقف كثير من أئمة التابعين وتابعيهم في نقطه وشكله وكتب أعشاره وفواتح سوره، وبعضهم أنكر ذلك وأمر بمحوه مع أن فيه مصلحة عظيمة للصغار، ومن لم يقرأ من الكبار في زمانهم وفي زماننا لكل الناس فإذا كان أعلم الناس وأفضلهم توقفوا في مثل هذا وخافوا أن يكون ذلك حدثا أحدثوه بعد نبيهم- ﷺ فما بالك بأمر لا يترتب عليه كبير نفع وربما يترتب عليه الفساد والغلط والتخليط والداعي إليه النفس لتحصيل حظوظها من الراحة وتقصير زمن العبادة جنح إلى هذا الكسالى والمقصرون ووافقهم على ذلك شفقة عليهم وخوفا من انسلاخهم من الخير بالكلية الأئمة المجتهدون المشمرون والمتنزل لا يستدل بفعله فيما تنزل فيه.
1 / 19
تكميل:
وإذا قلنا بهذا الجمع على ما فيه فقال في النشر: ولم يكن أحد من الشيوخ يسمح به إلا لمن أفرد القراءات وأتقن معرفة الطرق والروايات، وقرأ لكل قارئ ختمة على حدة ولم يسمح أحد بقراءة قارئ من الأئمة السبعة أو العشرة في ختمة واحدة فيما أحسب إلا في هذه الأعصار المتأخرة حتى إن الكمال الضرير صهر الشاطبي لما أراد القراءة عليه قرأ لكل واحد من السبعة ثلاث ختمات ختمة لكل راو ثم يجمع بينهما فقرأ عليه تسع عشرة ختمة وأراد أن يقرأ برواية أبي الحارث فأمره بالجمع مكاشفة منه بقرب الأجل وكان من أهل الكشف فلما انتهى إلى سورة الأحقاف توفي الشاطبي ﵀ وهذا الذي استقر عليه عمل شيوخنا الذين أدركناهم فلم أعلم أحدا قرأ على التقي الصانع بالجمع إلا بعد أن يفرد للسبعة في إحدى وعشرين ختمة وللعشرة كذلك وكان الذين يتساهلون في الأخذ يسمحون أن يجمع كل قارئ في ختمة سوى نافع وحمزة فإنهم كانوا يفردون كل راو بختمة ولا يسمح أحد بالجمع إلا بعد ذلك نعم كانوا إذا رأوا شخصا قد أفرد وجمع على شيخ معتبر وأجيز وتأهل فأراد أن يجمع القراءات في ختمة على أحدهم لا يكلفونه بعد ذلك إلى الإفراد لعلمهم بأنه قد وصل إلى حد المعرفة والإتقان انتهى باختصار مع بعض زيادة تكميلا للفائدة. فإذا فهمت هذا تبين لك أن ما عليه أهل زماننا وهو أن يأتيهم من لا يحسن قراءة الكتب ويريد أن يقرأ عليهم فيقرأ لقالون أحزابا من أول القرآن ثم لورش كذلك ثم يجمع لنافع كذلك ثم المكي ثم البصري ثم يجمع بين الثلاثة كذلك ثم لكل قارئ من الأربعة الباقين كذلك ثم يجمع للسبعة وهو لم يصل إلى إتقان القراءة مفردة فضلا عن إتقانها مع الجمع مخالف لإجماع المتقدمين والمتأخرين.
السابعة: للشيوخ في كيفية هذا الجمع ثلاثة مذاهب الأول: الجمع بالحرف وهو أنه إذا ابتدأ القارئ القراءة ومر بكلمة فيها خلاف أصلي أو
1 / 20
فرش أعاد تلك الكلمة حتى يستوعب جميع أحكامها فإذا ساغ الوقف وأراده وقف على آخر وجه واستأنف ما بعدها وإلا وصلها بما بعدها مع آخر وجه ولا يزال كذلك حتى يقف وإن كان الحكم مما يتعلق بكلمتين كمد المنفصل وقف على الثانية واستوعب الخلاف ويجري على ما تقدم وهذا مذهب المصريين والمغاربة.
الثاني: الجمع بالوقف، وهو أن يبتدئ القاري بقراءة من يقدمه من الرواة ويمضي على تلك الرواية حتى يقف حيث يريد ويسوغ ثم يعود من حيث ابتدأ ويأتي بقراءة الراوي الذي يثني به ولا يزال كذلك يأتي براو بعد راو حتى يأتي على جميعهم إلا من دخلت قراءته مع من قبله فلا يعيدها وفي كل ذلك يقف حيث وقف أولا وهذا مذهب الشاميين.
الثالث: المذهب المركب من المذهبين وهذا ما يأتي برواية الراوي الأول وجرى العمل بتقديم قالون لأن الشاطبي قدمه وعادة كثير من المقرئين تقديم من قدمه صاحب الكتاب الذي يقرءون بمضمنه وهو غير لازم إلا أنه أقرب للضبط وكان شيخنا ﵀ إذا نسي القارئ قراءة ورواية لا يأمره بإعادة الآية بل بإتيان تلك القراءة أو الرواية فقط يتمادى إلى أن يقف على موضع يسوغ الوقف عليه فمن اندرج معه فلا يعيده، ومن تخلف فيعيده ويقدم أقربهم خلفا إلى ما وقف عليه فإن تزاحموا عليه فيقدم الأسبق فالأسبق وينتهي إلى الوقف السائغ مع كل راو وبهذا قرأت على جميع شيوخي وبه أقرئ غالبا وهو قريب مما اختاره ابن الجزري حيث قال: ولكني ركبت من المذهبين مذهبا فجاء في محاسن الجمع طرازا مذهبا فأبتدئ بالقارئ وأنظر إلى ما يكون من القراء أكثر موافقة فإذا وصلت إلى كلمة بين القارئين فيها خلاف وقفت وأخرجته معه ثم وصلت حتى أنتهي إلى الوقف السائغ جوازه وهكذا إلى أن ينتهي الخلاف انتهى، والمذهب الأول ما أيسره وأحسنه وأضبطه وأخصره لولا ما فيه من الإخلال
1 / 21
برونق التلاوة ولو أمكن لأحدهم الجمع على غير هذه المذاهب الثلاثة التي ذكرناها مع مراعاة شروط الجمع الأربعة وهي رعاية الوقف والابتداء وحسن الأداء وعدم التركيب لما منع.
الثامنة: لا بد لكل من أراد أن يقرأ بمضمن كتاب أن يحفظه على ظهر قلبه ليستحضر به اختلاف القراء أصلا وفرشا ويميز قراءة كل قارئ بانفراده وإلا فيقع له من التخليط والفساد كثير فإن أراد القراءة بمضمن كتاب آخر فلا بد من حفظه أيضا نعم إن كان لا يزيد على الكتاب الذي يحفظه إلا بشيء قليل يوقن من نفسه بحفظه واستحضاره فلا بأس بالقراءة بمضمنه من غير حفظ وكان أهل الصدر لا يزيدون القارئ على عشر آيات قال الخاقاني:
وحكمك بالتّحقيق إن كنت آخذا ... على أحد أن لا تزيد على عشر
وكان من بعدهم لا يتقيد بذلك بل يعتبر حال القارئ من القوة والضعف واختاره السخاوي واستدل له بأن ابن مسعود- ﵁ قرأ على النبي- ﷺ في مجلس واحد من أول سورة النساء إلى قوله: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا وارتضاه ابن الجزري قال وفعله كثير من سلفنا واعتمد عليه كثير ممن أدركناه من أئمتنا قال الإمام يعقوب الحضرمي: قرأت القرآن في سنة ونصف على سلام، وقرأت على شهاب الدين بن شريفة في خمسة أيام وقرأ شهاب على مسلمة بن محارب في تسعة أيام، ولما رحل ابن مؤمن إلى الصائغ قرأ عليه القراءات جمعا بعدة كتب في سبعة عشر يوما، ولما رحلت أولا إلى الديار المصرية وأدركني السفر كنت وصلت في ختمة بالجمع إلى سورة الحجر على شيخنا ابن الصائغ فابتدأت عليه من أول الحجر يوم السبت وختمت ليلة الخميس في تلك الجمعة وآخر ما بقي لي من أول الواقعة فقرأته عليه في مجلس واحد انتهى. وأخبرني شيخنا ﵀ أنه قرأ على شيخه بالمغرب الأستاذ عبد الرحمن ابن القاضي
1 / 22
للسبعة بمضمن ما في الشاطبية سبعة أحزاب في مجلس واحد واستقر عمل كثير من الشيوخ على الإقراء بنصف حزب في الإفراد وبربع حزب في الجمع.
التاسعة: لا بد لكل من أراد القراءة أن يعرف الخلاف الواجب من الخلاف الجائز فمن لم يفرق بينهما تعذرت عليه القراءة ولا بد أيضا أن يعرف الفرق بين القراءات والروايات والطرق والفرق بينها أن كل ما ينسب لإمام من الأئمة فهو قراءة، وما ينسب للآخذين عنه ولو بواسطة فهي رواية وما ينسب لمن أخذ عن الرواة وإن سفل فهو طريق فتقول مثلا إثبات البسملة قراءة المكي ورواية قالون عن نافع وطريق الأصبهاني عن ورش، وهذا أعنى القراءات والروايات والطرق هو الخلاف الواجب فلا بد أن يأتي القارئ بجميع ذلك ولو أخلّ بشيء منه كان نقصا في روايته. وأما الخلاف الجائز فهو خلاف الأوجه التي على سبيل التخيير والإباحة فبأي وجه أتى القارئ أجزأ لا يكون ذلك نقصا في روايته كأوجه البسملة والوقف بالسكون والروم والإشمام وبالطويل والتوسط والقصر في نحو:
متاب، والعالمين، ونستعين، والميت، والموت.
واختلف آراء الناس في ذلك فكان بعض المحققين يأخذ بالأقوى عنده ويجعل الباقي مأذونا فيه وبعضهم لا يلزم شيئا من ذلك بل يترك القارئ لخبرته فبأيها قرأ أقرّه إذ كل ذلك جائز وبعضهم يقرأ ببعضها في موضع وبآخر في غيره ليجمع الجميع بالرواية والمشافهة وبعضهم يقرأ بها في أول موضع وردت أو موضع ما من المواضع على وجه الإعلام والتعليم وشمول الروايات، ومن يأتي بها إذا أراد الختم وابتدأ من الكوثر فهو جائز إلا أنه لا بد من إخلاص النية وعدم قصد الإغراب على السامعين، وأما الآخذ بها في كل موضع فهو إما جاهل بالفرق بين الخلاف الواجب والجائز أو متكلف لشيء لا يجب عليه وأوجه وقف حمزة من هذا الباب وإنما يأتي الناس بها في كل موضع لتدريب المبتدئ عليها لعسرها علما ونطقا ولذا لا
1 / 23
يكلف المنتهى العارف بها بجمعها في كل موضع بل على حسب ما تقدم.
العاشر: أهمل الشاطبي ﵀ ذكر طرق كتابه اتكالا على أصله التيسير، ونحن نذكرها تتميما للفائدة إذ لا بد لكل من قرأ بمضمن كتاب أن يعرف طرقه ليسلم من التركيب فرواية قالون من طريق أبي نسيط محمد ابن هارون، وورش من طريق أبي يعقوب يوسف الأزرق، والبزي من طريق أبي ربيعة محمد بن إسحاق، وقنبل من طريق أبي بكر أحمد بن مجاهد، والدوري من طريق أبي الزعراء عبد الرحمن بن عبدوس، والسوسي من طريق أبي عمران موسى بن جرير، وهشام من طريق أبي الحسن أحمد ابن يزيد الحلواني، وابن ذكوان من طريق أبي عبد الله هارون بن موسى الأخفش، وشعبة من طريق أبي زكريا يحيى بن آدم الصلحي، وحفص من طريق أبي محمد عبيد بن الصباح النهشلي، وخلف من طريق أبي الحسن أحمد بن عثمان بن بويان عن أبي الحسن إدريس بن عبد الكريم الحداد عنه، وخلاد من طريق أبي بكر محمد بن شاذان الجوهري، والليث من طريق أبي عبد الله محمد بن يحيى البغدادي المعروف بالكسائي الصغير، والدوري من طريق أبي الفضل جعفر بن محمد النصيبي، وقد نظم شيخنا في مقصورته فقال:
دونكها عيس له أبو نشيط ... أزرق لورشهم قد انتمى
لأحمد البزّي أبو ربيعة ... لقنبل ابن مجاهد قفا
روى أبو الزّعراء عن دوريهم ... عن صالح بن جرير يجتلي
فعن هشام قد روى حلوانهم ... وأخفش لنجل ذكوان روى
يحيى بن آدم طريق شعبة ... حفصهم عبيد صباح لقي
عن خلف إدريس قل خلادهم ... عنه ابن شاذان إمام العلماء
محمد عن ليثهم وجعفر أعني ... النصيبي لدوري قد مضا
ومن خرج عن طرق كتابه فهو على جهة الحكاية وتتم الفائدة والله أعلم.
1 / 24