الغيث الهامع
للحافظ ولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي
المتوفى ٨٢٦هـ
شرح
جمع الجوامع
للإمام تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي
المتوفى ٧٧١هـ
تحقيق
محمد تامر حجازي
دار الكتب العلمية
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
قال سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، ولي الدين أبو زرعة أحمد العراقي الشافعي، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.
أما بعد حمد الله، والصلاة على رسوله، فهذا تعليق وجيز على (جمع الجوامع) لشيخنا قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي ﵀ أقتصر فيه على حل اللفظ وإيضاح العبارة غالبًا تنحلت أكثره من شرح صحابنا العلامة بدر الدين الزركشي - رحمه الله تعالى - سميته (الغيث الهامع في شرح جمع الجوامع) وأسأل الله النفع به، وأن يرزقنا فهم المشتبه.
ص: نحمدك اللهم على نعم يؤذن الحمد بازديادها.
ش: افتتح بالجملة الفعلية لدلالة الفعل على التجدد والحدوث، وبهذا انفصل المصنف عن سؤال ترك التأسي بالتنزيل بالجملة الاسمية، فإنه قديم، وهذا التصنيف نعمة جديدة.
وافتتح الفعل المضارع بالنون للمشاركة لا لتعظيم نفسه، فإن الحمد على هذه النعمة يعم كل منتفع به.
وقوله: (اللهم) مثل قولك: يألله، زيدت الميم في آخره عوضًا من حرف النداء، هذا هو الصحيح، وقول البصريين.
والتنكير في قوله: (على نعم) للتعظيم بدليل الوصف.
وقوله: (يؤذن) أي: يعلم، والازدياد أبلغ من الزيادة كالاكتساب
1 / 17
والكسب، والدال بدل عن التاء، وأصله ازتياد، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾.
قلت: وقد تبين أن المراد بالحمد هنا أحد قسميه، وهو ما كان منه على نعمة، ولو أطلقه كما في التنزيل لتناول القسم الآخر، وهو ما كان على غير نعمة، والله أعلم.
ص: ونصلي على نبيك محمد هادي الأمة لرشادها.
ش: قوله: (ونصلي) لفظه خبر، ومعناه الطلب، ليكون امتثالًا لقوله تعالى: ﴿صلوا عليه﴾ فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء، وعطف الخبر على الإنشاء ممتنع عند علماء البيان، والصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة، أو المغفرة، أو الإحسان، أو القدر المشترك بينها، وهو الاعتناء بالمصلى عليه، ومن الخلق الدعاء.
والنبي، قيل: مشتق من النبوة، وهي المرتفع من الأرض، وقيل: من النبأ، وهو الخبر، والرسول أخص منه، لأنه إنما يؤمر بالتبليغ، وفضل ابن عبد السلام/ (١ب/ م) النبوة على الرسالة، والراجح خلافه،
وكان ينبغي قرن الصلاة بالتسليم.
وقوله: (هادي الأمة) مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ وهو بمعنى بيان الطريق كما في قوله تعالى: ﴿وأما ثمود فهديناهم﴾ وإما بمعنى الخلق، لقوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي﴾ فهو خاص بالله تعالى، والرشاد ضد الغي.
1 / 18
ص: وآله/ (١/ب/د) وأصحابه، ما قامت الطروس والسطور لعيون الألفاظ مقام بياضها وسوادها.
ش: آل النبي ﷺ بنو هاشم وبنو المطلب، وأصحابه كل من لقيه مسلمًا، ولو أضاف الآل إلى الظاهر لكان أولى، للخروج من خلاف من منع إضافته إلى ضمير، وقدم الآل على الأصحاب للأمر بالصلاة على الآل، ولهذا وجبت في التشهد على قول، وهم أشرف نسبًا، وإن كان في الصحابة من هو أفضل من الآل كأبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما،
و(ما) هنا مصدرية ظرفية، أي مدة قيام الطروس، وهي جمع طرس، بكسر الطاء، وأراد بها هنا الصحيفة، وبها فسر الجوهري، ثم قال: ويقال: هي التي محيت ثم كتبت، وعليه اقتصر في (المحكم).
وفي قوله: (عيون الألفاظ) استعارة مرشحة بالبياض والسواد، فإنهما من لوازم العيون، وفيه لف ونشر مرتب، فالبياض للطروس، والسواد للسطور،
1 / 19
وبين الطروس والسطور جناس القلب، لاختلافهما في/ ترتيب الحروف، والمراد بهذا تأبيد الصلاة لدوام العلم، وهو مأخوذ من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله».
ص: ونضرع إليك في منع الموانع عن إكمال جمع الجوامع، الآتي من فن الأصول بالقواعد القواطع، البالغ من الإحاطة بالأصلين مبلغ ذوي الجد والتشمير، الوارد من زهاء مائة مصنف، منهلا يروي ويمير، المحيط بزبدة ما في شرحي على المختصر والمنهاج مع مزيد كثير.
ش: قوله: (نضرع) أي: نخضع ونذل، وهو أبلغ من السؤال، وأصله نتضرع، فحذفت التاء تسهيلًا.
وقوله: (في منع) متعلق به، (وعن) متعلق بـ (منع) و(جمع الجوامع) علم على هذا الكتاب، وسأل انتفاء الموانع، لأن المقتضيات موجودة.
ثم وصفه بأنه أتى، أي: جاء، من فن الأصول، أي: أصول الفقه والدين، (بالقواعد) أي: الأدلة القواطع، وفي هاتين اللفظتين الجناس اللاحق، لاتفاقهما في عدد الحروف والهيئات، واختلافهما في الآخر، وبأنه بلغ من الإحاطة بهما مبلغ ذوي الجد، وهو بالكسر الاجتهاد، (وزهاء) بالمد،
1 / 20
كما اقتضاه كلام الأخفش/ (٢أ/ م)، وعليه اقتصر في (المشارق)، أو بالقصر كما دل عليه ذكر الجوهري له في المعتل، أي: قدر.
وقوله: (يروي) بالضم من الري، وقوله: (يمير) بفتح أوله ويجوز ضمها، يقال: مار، وأمار، أي: حمل الميرة، وهو الطعام، والمراد مختصر ابن الحاجب.
ومنهاج البيضاوي، وإنما شرح المصنف من (المنهاج) من قوله: (وجوب الشيء مطلقًا) وما قبل ذلك من كلام والده
1 / 21
﵀
ص: وينحصر في مقدمات وسبعة كتب.
ش: إن أراد انحصار هذا التصنيف ورد عليه أن فيه زيادة/ (٢أ/د) على ذلك علم أصول الدين، وخاتمة التصوف، وإن أراد انحصار أصول الفقه المدلول عليه بذكر شرحي (المختصر) و(المنهاج) فإنه ليس فيهما غير أصول الفقه، ورد عليه أن من المقدمات حد أصول الفقه، وغيره من قواعد المنطق، وليس من أصول الفقه، وقد يعد منها لتوقفه عليها.
وفي المقدمة لغتان: الكسر وهو أشهر، والفتح، وهي عند المناطقة: القضية المجعولة جزء دليل، وعند الأصوليين: ما يتوقف عليه حصول أمر آخر وهو المراد هنا، فالمقدمات لبيان السوابق، والكتب لبيان المقاصد.
1 / 22
تعريف أصول الفقه
ص: الكلام في المقدمات، أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها.
ش: هذا تعريف لأصول الفقه باعتبار مدلوله اللقبي، وهل هو دلائل الفقه الإجمالية أو معرفة دلائل الفقه الإجمالية؟ فيه خلاف، ذهب إلى الأول القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، والرازي،
1 / 23
والآمدي، واختاره ابن دقيق العيد، لأن الأدلة إذا لم تعلم لم تخرج عن كونها أصلًا، ومشى على الثاني البيضاوي وابن الحاجب، إلا أنه عبر بالعلم، ولكل وجه، لأن الفقه كما هو متفرع عن أدلته هو متفرع عن العلم بأدلته، وقيدت الدلائل بالإجمالية لإخراج التفصيلية، فإن النظر فيها وظيفة الفقيه، لأنه يتكلم على أن الأمر في قوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ للوجوب، والنهي في قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنى﴾ للتحريم، بخلاف الأصولي فإنه يتكلم على مقتضى الأمر والنهي، من غير نظر إلى مثال خاص.
والدلائل تتناول الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والأشبه - كما قال السبكي ـ: أن الإجمال قيد للمعرفة، فإن أدلة الفقه/ (٢/ب/م) لها جهتان/، فالأصولي
1 / 24
يعرفها من إحداهما، وهو الإجمال، والفقيه يعرفها من الجهة الأخرى وهو التفصيل، وليست الأدلة منقسمة إلى ما هو إجمالي غير تفصيلي، وتفصيلي غير إجمالي، ووجه جعلها قيدًا للأدلة أن لها نسبتين، فهي باعتبار إحداهما غيرها باعتبار الأخرى.
وقد أورد على المصنف أنه هلا قال: أصول الفقه: دلائله الإجمالية؟ وأجاب بأجوبة أحسنها: أن الفقه في قولنا: (دلائل الفقه) غير الفقه في (أصول الفقه) لأنه في أصول الفقه أحد جزئي لقب مركب من متضايفين، وفي قولنا: (دلائل الفقه) العلم المعروف.
ص: والأصولي: العارف بها، وبطرق استفادتها ومستفيدها.
ش: لا يكفي في صدق اسم الأصولي معرفة الأصول حتى يعرف مع ذلك أمرين.
أحدهما: طرق استفادتها وذلك يرجع إلى التراجيح، أي ترتيب الأدلة، كتقديم الخاص على العام والظاهر على المؤول.
1 / 25
ثانيهما: أن يعرف مستفيدها، وهو المجتهد، فإنه الذي يستفيد من الأدلة بخلاف المقلد، فإنه إنما يستفيد من المجتهد، ويدخل في ذلك المقلد أيضًا إن سمينا علمه فقهًا، واعتبار هذين الأمرين في الأصولي/ (٢/ب/د) دون الأصول - انفرد به المصنف، واعتبر غيره في مدلول الأصول الأمور الثلاثة.
واعترف المصنف بذلك فقال: جعل المعرفة بطرق استفادتها جزءًا من مدلول الأصولي دون الأصول، لم يسبقني إليه أحد، ووجهه: أن الأصول لما كانت عندنا نفس الأدلة لا معرفتها، لزم من ذلك أن يكون الأصولي هو المتصف به، لأن الأصولي نسبة إلى الأصول، وهو من قام به الأصول، وقيام الأصول به، معناه معرفته إياه، ومعرفته إياه متوقفة على معرفة طرق الاستفادة، فإن من لا يعرف الطريق إلى الشيء محال أن يعرف الشيء، انتهى.
وقد يقال: يكتفى في صدق اسم الأصولي بمعرفة الأدلة، لأن المراد معرفتها على وجه به يحصل استفادة الأحكام منها، فيستغنى بذلك عن التصريح باشتراط معرفته طرق استفادتها، لأن المراد معرفة خاصة كما قدمته.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: لو اقتصر في تعريف أصول الفقه على الدلائل وكيفية الاستفادة منها لكفى، ويكون حال المستفيد كالتابع/ (٣/أ/م) والتتمة، لكن جرت العادة بإدخاله في أصول الفقه، وضعًا فأدخل فيه جزءًا.
تعريف الفقه
ص: والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية.
ش: هذا حد الفقه من جهة الاصطلاح، فـ (العلم) جنس، وقال الشيخ تقي الدين: لو عبر بالمعرفة لكان أحسن، فإن العلم يطلق بمعنى حصول المعنى في الذهن، ويطلق على أخص من ذلك، وهو الاعتقاد الجازم المطابق
1 / 26
لموجب، ولهذا جاء سؤال الفقه من باب الظنون.
وأجاب المصنف عن هذا بأن المراد بالعلم هنا الصناعة، كقولك: علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظن أيضًا، ولا يرد السؤال، لكن جوابهم عن ذلك السؤال يدل على أن مرادهم بالعلم اليقين.
وخرج بقوله: (بالأحكام) العلم بالذوات والصفات والأفعال، والمراد (بالحكم) نسبة أمر إلى آخر، بالإيجاب/ أو السلب.
وخرج بقوله: (الشرعية) العقلية واللغوية، والمراد بالشرعية المتوقفة على الشرع.
وخرج بقوله: (العملية) العلمية، كأصول الدين.
قاله القرافي ...............
1 / 27
وساعده الباجي، وخالفه السبكي فقال: أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده، كوجود الباري، ومنه ما ثبت بالعقل والسمع كالوحدانية، وما ثبت بالسمع وحده ككثير من أحوال يوم القيامة، فخرج ما ثبت بالعقل بقولنا: (الشرعية) وأما المتوقف على السمع، فقد يقال بدخوله في حد الشرعية، وفي (المحصول): أن الاحتراز بالعملية عن كون الإجماع حجة، والقياس حجة، فإنه ليس علمًا بكيفية عمل، واستشكله ابن دقيق العيد، لأن جميع هذه القواعد التي ذكر أنه يحترز عنها، فإنما الغاية المطلوبة منها العمل.
وقوله: (المكتسب) مرفوع صفة للعلم، وخرج به علم الله تعالى، وما يلقيه في قلوب الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام: (٣أ/د) من الأحكام.
وخرج بقوله: (من أدلتها التفصيلية) اعتقاد المقلد، كما قال الإمام وغيره، فإنه مكتسب من دليل إجمالي، وهو أنه أفتاه به المجتهد، وكل ما أفتاه به فهو حكم الله في حقه، لكن الحق أن اعتقاد المقلد لم يدخل في الحد حتى يحتاج إلى إخراجه فإنه ليس علمًا كما صرح به في (المحصول) وجعله قسيمًا للعلم، فلذلك قال المصنف: الأولى/ (٣ب/م) أن يخرج به علم الخلاف، لأن الجدلي، لا يقصد صورة بعينها، وإنما يضرب الصورة مثالًا لقاعدة
1 / 28
كلية، فيقع علمه مستفادًا من الدليل الإجمالي، لا من التفصيلي.
وقال الشارح: الظاهر أن ذكرها ليس للاحتراز عن شيء فإن اكتساب الأحكام لا يكون من غير أدلتها التفصيلية، وإنما ذكر للدلالة على المكتسب منه بالمطابقة، فالصواب عدم وصفها بالتفصيلية، لئلا يوهم أنه قيد زائد.
قلت: لا يقال في الموهم: إنه غير الصواب، وقد علم أنه لبيان الواقع، والله أعلم.
تعريف الحكم
ص: والحكم: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف،
ش: لما ذكر الحكم في تعريف الفقه، أخذ في تعريفه، فالخطاب جنس والمراد المخاطب به، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهو: ما يقصد به إفهام من هو متهيئ للفهم، وبإضافته إلى الله تعالى خرج خطاب الملائكة والإنس والجن.
وقوله: (المتعلق) أي: الذي من شأنه أن يتعلق، فهو مجاز من تسمية الشيء، بما يؤول إليه.
والمراد بفعل المكلف، الصادر منه، ليشمل القول والنية، و(المكلف) هو البالغ العاقل، ومن هنا يعلم أن الصبي لا يتعلق بفعله حكم.
وأما قول الفقهاء: إنه يثاب، ويندب له، فهو عند الأصوليين تجوز، قاله المصنف، وسبقه إليه الهندي، قال: والمعني بتعلق الضمان بإتلاف
1 / 29
الصبي أمر الولي بإخراجه من ماله.
والمراد بالمكلف الجنس، وعبر المصنف بالإفراد ليتناول الأحكام المتعلقة بفعل مكلف واحد، كالخصائص، وإجزاء العتاق عن أبي بردة بن نيار.
وخرج بالمتعلق بفعل المكلف أربعة أمور: ما تعلق بذاته تعالى، نحو: ﴿الله لا إله إلا هو﴾ وبفعله نحو: ﴿خالق كل شيء﴾، وبالجمادات نحو: ﴿ويوم نسير الجبال﴾ وبذوات المكلفين نحو: ﴿ولقد خلقناكم ثم صورناكم﴾.
وقوله (من حيث إنه مكلف) يخرج ما تعلق بفعل المكلف، لا من حيث تكليفه، كخبر الله تعالى عن أفعال المكلفين، نحو: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ وقوله ﵊: «صلة الرحم تزيد في العمر» واكتفى المصنف بذلك عن قول غيره بالاقتضاء أو التخيير، واختار والده أن يقال: (على وجه الإنشاء ليدخل فيه خطاب الوضع، ولا يرد عليه ما
1 / 30
أوردته المعتزلة من الترديد، وهو عندي/ (٤أ/ م) أحسن من تعبير المصنف، لأن اعتبار التكليف يخرج ما لا تكليف فيه، كالإباحة وهي أحد أقسام الحكم، وهي مندرجة في الإنشاء.
وقد أورد على المصنف: أنه كان ينبغي/ (٣ب/ د) أن يزيد: (به) فيقول: (من حيث إنه مكلف به).
وأجاب عنه: بأنه لو قال: به، لاقتضى أن المكلف لا يخاطب إلا بما هو مكلف به، وليس كذلك، فإن النبي ﷺ مخاطب بما كلف به الأمة بمعنى تبليغهم وكذا جميع المكلفين بفرض الكفاية، وإن كان المكلف به بعضهم، لا الكل على المختار، انتهى.
وهو عجيب، فإنه ﵊ مخاطب بما كلف به الأمة على سبيل التبليغ لا على سبيل الفعل، فالذي كلف به غير الذي كلفوا به، ولا يمكن القول بأن الإنسان يكلف بفعل غيره.
وكلامه في فرض الكفاية متناقض، كيف يقول أولًا: إن الخطاب للجميع، ثم يقول (إن المكلف البعض) هذا لم يقل به أحد، والخلاف في أن فرض الكفاية يتعلق بالجميع أو بالبعض مشهور.
ص: ومن ثم لا حكم إلا لله.
ش: هذا فرع لما سبق، أي: لأجل أن الحكم خطاب الله، فحيث لا
1 / 31
خطاب لا حكم، لم يكن الحكم إلا لله تعالى، خلافًا للمعتزلة في دعواهم أن العقل يدرك الحكم بالحسن والقبح، فهو عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي، فهم لم يجعلوا لغير الله حكمًا، بل قالوا: إنه يمكن إدراك حكمه بالعقل من غير ورود سمع، وعبارة المصنف توهم خلاف ذلك، و(ثم) هنا للمكان المجازي.
تعريف الحسن والقبح
ص: والحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، وصفة الكمال والنقص عقلي، وبمعنى ترتب الذم عاجلًا، والعقاب آجلًا شرعي، خلافًا للمعتزلة.
ش: الحسن والقبح يطلق بثلاث اعتبارات:
أحدها: ما يلائم الطبع وينافره، كقولنا: إنقاذ الغريق حسن، واتهام البريء قبيح.
والثاني: صفة الكمال والنقص، كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، وهو بهذين الاعتبارين عقلي بلا خلاف، أي: إن العقل يستقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع.
والثالث: ما يوجب المدح أو الذم الشرعي عاجلًا، والثواب أو العقاب آجلًا، وهو موضع الخلاف.
فالمعتزلة قالوا: هو عقلي أيضًا، أي: يستقل العقل بإدراكه،
وقال أهل السنة: هو شرعي.
أي: لا يعرف إلا بالشرع.
1 / 32
تنبيه:
كان ينبغي أن يقول في الأول: عقليان، ولكنه حذف خبر أحد المبتدأين لدلالة الآخر أو التقدير: / (٤ب/م) كلاهما عقلي، فحذف أحد جزأي الخبر.
وقوله: (خلافًا للمعتزلة) منصوب على المصدر أو الحال، أي: أقول ذلك خلافًا لهم، أي: مخالفًا لهم.
واقتصر المصنف على الذم والعقاب، مهملًا للمدح والثواب لتلازمهما نفيًا وإثباتًا.
والمراد بترتب العقاب نص الشارع عليه، وذلك لا ينافي جواز العفو، فلو قال/: كونه متعلق العقاب، لكان أحسن.
ص: وشكر المنعم واجب بالشرع لا بالعقل.
ش: لا يستقل العقل بإيجاب شكر المنعم خلافًا: للمعتزلة. وأورد عليهم الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود مناقضة، فإنهم قالوا: يجب على الله أن يثبت المطيعين، وأن ينعم على الخلق، وإذا وجب الثواب فلا معنى للشكر، لأن من قضى دينه لم يستحق الشكر، ففي الجمع بين هاتين المقالتين مناقضة، والمراد بشكر المنعم الإتيان بالمستحسنات العقلية، والانتهاء عن المستخبثات العقلية.
ص: ولا حكم قبل الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده وحكمت المعتزلة العقل فإن لم يقض فثالثها لهم الوقف عن الحظر والإباحة.
1 / 33
ش: مذهب أئمتنا أنه لا حكم قبل ورود الشرع، وظاهر كلام المصنف انتفاء الحكم نفسه، وهو الذي حكاه القاضي أبو بكر في (مختصر التقريب) عن أهل الحق، وقاله الإمام في (البرهان) والغزالي، وقال النووي: إنه الصحيح عن أصحابنا.
وقيل: المراد عدم العلم بالحكم أي: إن لها حكمًا قبل ورود الشرع، لكنا لا نعلمه، وقال البيضاوي، إنه مراد الأشعري بالوقف في هذه المسألة، لأن الحكم عنده قديم، فتفسير الوقف بعدم الحكم يلزم منه حدوث الحكم، وهو خلاف مذهبه، وقول المصنف: (بل الأمر موقوف إلى وروده) دفع به توهم ما قاله البيضاوي، وبين أن مرادهم بالوقف أن الأمر موقوف إلى ورود الشرع، وأن الحكم منتف قبل وروده، وذهبت المعتزلة إلى أن ما قضى فيه العقل بحسن أو قبح، اتبع فيه حكمه، وانقسم إلى الأحكام الخمسة، فما قضى
1 / 34
بحسنه إن لم يرجح فعله على تركه، فهو المباح، وإن ترجح فإن ألحق الذم على تركه فهو الواجب، وإلا فهو المندوب، وما قضى بقبحه إن قضي بالذم على فعله فالحرام، وإلا فالمكروه، وإن لم يقض فيه بشيء ففيه ثلاثة مذاهب: أحدها: الحظر، والثاني: الإباحة، والثالث: الوقف (٥أ/م).
قال ابن التلمساني: والقائلون بالحظر لا يريدون أنه باعتبار صفة في المحل، بل حظر احتياطي، كما يجب اجتناب المنكوحة إذا اختلطت بأجنبية، والقائلون بالوقف أرادوا وقف حيرة، هكذا حرر الآمدي وابن الحاجب موضع الخلاف، وأطلقه في (المحصول) وقال القرافي: إطلاقه الخلاف ينافي قواعدهم، إذ الحظر يقتضي تحريم إنقاذ الغريق، والإباحة تقتضي إباحة القتل، أما ما لم يطلع العقل على مفسدته أو مصلحته فيمكن أن يجيء فيه الخلاف، ثم رأيت كلام أبي الحسين، في (المعتمد) حكى عنهم الخلاف من غير تقييد، وهو أعلم بمذهبهم فرجعت إلى طريقة الإمام.
ص: والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ وكذا المكره على الصحيح، ولو على القتل، وأثم القاتل لإيثاره نفسه.
1 / 35