بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن
الحمد لله الذي أمر عباده بالتوبة والاستغفار في كتابه، وحثهم على ذلك ورغبهم في جزيل ثوابه، وجعل ذلك سببا للفوز من مفاوز أليم عذابه، وحصنا حصينا يؤمن من اقتحام عقبات عقابه، أحمده على نعمه التي لا تحصى، لأنه أهل الحمد وأولى به، وأشكره على أن جعلني من أمة محمد المقتدين بهديه، والمستمسكين بأسبابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثال ولا مشابه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي رحمنا به، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}.
Bogga 20
وقال الله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}. وقال تعالى: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}. وقال تعالى: {وهل نجازي إلى الكفور} وقال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}. وقال تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}. في آي كثيرة.
Bogga 21
وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا به شيخنا الإمام، خاتمة الحفاظ زين الدين، أبو العباس، أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الشرجي رحمه الله بقراءتي عليه في سنة تسعين وثمانمائة بمدينة زبيد -حرسها الله تعالى- قال: أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ المقرئ، شمس الدين، أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري، قال: أخبرنا الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الكريم بن أبي الحسين الصوفي، قال: حدثتنا الشيخة الصالحة أم محمد زينب بنت عمر بن كندي قال: أخبرنا المؤيد بن علي الطوسي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الفراوي، قال: حدثنا عبد الغافر الفارسي، قال: أخبرنا أبو أحمد الجلودي، قال: أخبرنا أبو سفيان الفقيه، قال: أخبرنا الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رحمه الله تعالى قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي، أخبرنا مروان، يعني: ابن محمد الدمشقي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روى عن ربه تبارك وتعالى- أنه قال: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم)).
وبه إلى مسلم قال: حدثني محمد بن رافع، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري، عن يزيد الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)).
Bogga 24
وبه إلى مسلم قال: حدثني عبد الأعلى بن حماد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى- قال: ((أذنب عبد ذنبا قال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب: اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب: اغفر لي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك)).
Bogga 25
وبه إلى مسلم قال: حدثنا سويد بن سعيد، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله عز وجل قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان ، وأحبطت عملك. أو كما قال.
Bogga 26
وأخبرنا شيخنا أبو العباس رحمه الله بقراءتي عليه قال: أخبرنا شيخنا أبو الخير الجزري، قال: أخبرنا أبو أميلة، قال: أخبرنا الحسن السعدني، قال: أخبرنا أبو حفص البغدادي، قال: أخبرنا أبو البدر الكرخي، قال: أخبرنا أبو بكر الحافظ، قال: أخبرنا أبو عمر الهاشمي، قال: أخبرنا أبو علي اللؤلؤي قال: حدثنا الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني -رحمه الله- حدثنا محمد ابن الصباح بن سفيان، قال: أخبرنا علي بن ثابت عن عكرمة بن عمار، قال: حدثني ضمضم بن جوشن، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: اقصر! فوجده يوما على ذنب، فقال له: اقصر! فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة. فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)).
Bogga 28
وأخبرنا شيخنا أبو العباس رحمه الله قراءة مني عليه، قال أخبرنا الشيخ الإمام شرف الدين أبو الفتح، محمد بن أبي بكر بن الحسين المدني، قال: أخبرنا الشيخ شمس الدين، محمد بن يوسف المدني، قال: أخبرنا علاء الدين بن العطار الشافعي، قال: أخبرنا أبو محمد التنوخي، قال: أخبرنا أبو حفص البغدادي، قال: أخبرنا أبو الفتح الكروخي، قال: أخبرنا القاضي أبو عامر الأزدي، وأبو بكر الغورجي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: أخبرنا ابن محبوب قال: حدثنا الإمام أبو عيسى، محمد بن عيسى الترمذي الحافظ -رحمه الله- قال: حدثنا عبد الله بن إسحاق الزهري، حدثنا أبو عاصم، حدثنا كثير بن فائد، قال: سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
Bogga 30
وقال لقمان الحكيم لابنه: ((يا بني، عود لسانك: اللهم اغفر لي؛ فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا)).
ومرض بعضهم مرضا شديدا وحصل عليه غيبة، فرأى ملك الملك، فقال: أكتب لك براءة من النار؟ فقال المريض: نعم، فكتب له في ورقة وجدها عنده: أستغفر الله، أستغفر الله حتى ملأها باطنا وظاهرا، وقال: هذه براءة من النار. وأفاق المريض فعوفي من مرضه، وأقام بعد ذلك زمانا والكتاب معه.
وقال زيد بن أسلم: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: انطلقوا به إلى النار، فيقول: يا رب فأين صلاتي وصيامي، فيقول الله تعالى: اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها)).
وقال أبو عمرو الضرير: حدثني صديق لي أنه رأى أباه في النوم بعدما مات فقال له: يا أبت، كيف أنت؟ فقال: يا بني، في خير ونعمة، قال: فقلت: بم نلت هذا؟ قال: بحسن الأمل، والثقة بالمحبوب. قال:
Bogga 31
فقلت: أوصني: فقال: يا بني لا تدع في كل أحوالك الاستغفار، فإنه نعم العدة للمؤمنين ذلك.
فلما كان كذلك أحببت أن أجمع جزءا فيها يغفر الله به الخطايا، ويكفر به السيئات ويجزل به العطايا ويوجب به الحسنات، فجمعت هذا الجزء الضنين، اقتداء بأئمة الدين الذين جمعوا في هذا الباب ما لا يحصى، وألفوا فيه ما لا يستقصي، وإن كنت لست مثلهم، ولم أبلغ شأوهم إلا أني أحببت أن أثبت لي بينهم قدما، وأجري لي معهم قلما، فمن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أحب قوما حشر معهم، فبادرت إلى جمع هذا الكتاب مستمدا التوفيق من رب الأرباب، وجعلته في ثلاثة أبواب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه متاب، وسميته كتاب (غاية المطلوب وأعظم المنة فيما يغفر الله به الذنوب، ويوجب الجنة)، فهو اسم مطابق لمعناه، وسهم موافق لمرماه.
وبدأت أولا بذكر التوبة وماهيتها، وسرد أقوال المشايخ فيها، ثم ثنيت بذكر الأحاديث الواردة عن حبيب القلوب فيما يغفر الله به الذنوب، وذكر أشياء من السنة مما يوجب الله لفاعلها الجنة، ثم عطفت على ذلك بذكر ما يرجى من سعة رحمة الله، وشفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أخبار وحكايات وأشعار مما يناسب مقصودنا، ويطابق مطلوبنا، والمرجو من كرم الله تعالى أن ينفع به الطالبين، ويصرف إليه صادق الهمة من الراغبين، وأن يضاعف لمن عمل بما فيه الثواب، إنه هو الكريم الوهاب. وهذه هي فهرسة أبوابه:
Bogga 32
الباب الأول في التوبة
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في ذكر الآيات والأخبار الواردة في التوبة.
الفصل الثاني: في ماهية التوبة وشروطها.
الفصل الثالث: في سرد أقوال مشايخ الحقيقة رحمة الله عليهم فيها.
الباب الثاني
في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يغفر الله به الذنوب وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: في ذكر ما يغفر الله به الذنوب ما تقدم منها وما تأخر.
الفصل الثاني: فيما يغفر الله به ما تقدم من الذنوب.
الفصل الثالث: فيما يخرج به الإنسان من ذنبه كيوم ولدته أمه.
الفصل الرابع: فيما يغفر الله به الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر.
الفصل الخامس: فيما يغفر الله به الذنب، ولو كان صاحبه قد فر من الزحف.
Bogga 33
الفصل السادس: فيما يغفر الله به الذنوب من أنواع شتى.
الفصل السابع: فيما يوجب الله به الجنة.
الباب الثالث
في ذكر ما يرجى من سعة رحمة الله تعالى، وبيان لفظه وكرمه، وتفضله على عباده، وإكرامه لهم بشفاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يوم معاده، وفي ذكر ما يناسب ذلك من الأخبار والحكايات المطابقة والأشعار، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: في ذكر سعة رحمة الله تعالى، وبيان لطفه وكرمه وتفضله على عباده .
الفصل الثاني: في ذكر شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة.
الفصل الثالث: فيما أوحاه الله تعالى إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من ذلك.
الفصل الرابع: في ذكر حكايات مطابقة للمعنى.
الفصل الخامس: في ذكر أشعار مناسبة لموضوع هذا الكتاب.
وأسأل الله تعالى دوام التوفيق فيما أقول وأفعل، وأستعين به في كل الأمور، وهي حسبي، وعليه أتوكل.
Bogga 34
الباب الأول في التوبة
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في ذكر الآيات والأخبار الواردة في التوبة على
سبيل الاختصار
اعلم أن الله سبحانه وتعالى أسمى نفسه التواب الرحيم في غير آية من كتابه الكريم، كقوله تعالى: {إنه هو التواب الرحيم}، و{إن الله كان توابا رحيما}، و{وأن الله تواب حكيم}، و{إن الله تواب رحيم}، و{إنه كان توابا}، وغير ذلك.
Bogga 35
وحث على التوبة ورغب فيها في غير آية، فقال تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، وقال تعالى: {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}، وقال تعالى: {فإن تبتم فهو خير لكم} وقال تعالى: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم}، وقال تعالى: {ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم}، وقال تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا}، وقال تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. وقال تعال في قصة هود عليه السلام: {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم}، وقال تعالى: {فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}، وقال تعالى: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود}، وقال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، وقال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}، وقال تعالى: {فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين}، وقال تعالى: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب}، وقال تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا}، والآيات في المعنى كثيرة.
وروينا في صحيح مسلم عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
Bogga 37
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، [فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظللها وقد يئس من راحلته]، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)).
وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)).
Bogga 38
وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بابا من المغرب مسيرة عرضه، أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاما، قبل الشام، خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس فيه)). رواه الترمذي وغيره، وقال: حديث حسن صحيح.
Bogga 39
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فأتاه فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى مدينة كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاءنا تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، قبضته ملائكة الرحمة)).
وفي رواية: فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها.
وفي رواية: فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وإلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجده إلى هذه أقرب بشبر فغفر له.
[وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))، أخرجه الترمذي وابن ماجه وسنده قوي].
وفيهما عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أن لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالثا، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)). والآيات والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
Bogga 40
الفصل الثاني في ماهية التوبة وشروطها
قال المحققون: التوبة أول منزل من منازل السالكين، وأول مقام من مقامات الطالبين.
وحقيقتها في لغة العرب: الرجوع، يقال: تاب أي: رجع، فالتوبة: الرجوع عما كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه.
قال العلماء رحمة الله عليهم: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
ثانيها: أن يندم على فعلها.
ثالثها: أن يعزم ألا يعود إليها أبدا.
فإن فقد أحد هذه الشروط الثلاثة لم تصح توبته.
Bogga 41
فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، فشروطها أربعة:
هذه الثلاثة، وأن يتبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا ونحوه رده إليه، وإن كانت غيبة استحله منها، وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه منه، أو طلب عفوه.
قالوا: وهي واجبة من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي. والله أعلم.
Bogga 42
الفصل الثالث في سرد أقوال مشايخ الحقيقة رحمة الله عليهم فيها
قال الأستاذ أبو علي الدقاق: التوبة على ثلاثة أقسام: أولها التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة.
فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والإنابة واسطتها، فكان من تاب لخوف العقوبة، فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا رغبة في الثواب، أو رهبة من العذاب فهو صاحب أوبة.
Bogga 43
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ويقال: التوبة صفة المؤمنين، قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون}، والإنابة صفة الأولياء المقربين، قال الله تعالى: {وجاء بقلب منيب}، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: {نعم العبد إنه أواب}.
قال ذو النون: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة الأنبياء عن رؤية عجزهم عن بلوغ ما ناله غيرهم.
وقال الجنيد: التوبة على ثلاثة معان: أولها الندم، والثاني: يعزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه، والثالث: يسعى في أداء المظالم.
وقال أيضا: التوبة أن تقبل على الله بالكلية كما أعرضت عنه بالكلية.
وقال سهل بن عبد الله التستري: التوبة ترك التسويف.
Bogga 44