فلا ريب إذن في أضرار هذا الروح لائتلاف البشر؛ إذ إنه يوقع النفار ما بينهم ويبعد بعضهم عن بعض خلافا لما يطلبه ميلهم إلى الالتئام في دائرة التمدن توطئة للاعتضاد في الانتفاع، فمن الواجب والحالة هذه أن يكون الصفح مرافقا قائد الضغينة ورادعا جماحه، كما يجب على الضغينة أيضا أن ترد اندفاع الصفح في بعض الظروف حذرا من انغلاق أبواب السلام أو انطلاق أشواط التهافت، ولكل وقت وأوان.
النميمة
ما لي أرى هؤلاء القوم يرشقون هذا الشخص السابع بنظرات النفور والاشمئزاز؟ ويبعدون عنه كأنه جيفة نتنة أو جرب معد؟ وجميعهم يومئون إليه بالبنان ويتوامرون؟ ولماذا كل يظهر إشارات الخوف منه والابتعاد؟ ولماذا قد أطبق الجمع على اجتناب هذا الرجل المسكين، حتى لم يعد أحد راضيا أن يكلمه أو يلقي عليه السلام، فليت شعري هل هذا رجل النميمة حيث لا يوجد من يستحق معاملة كهذه سوى النمامين ؟
نعم، هذا هو رجل النميمة وقائدها؛ ولذلك يتحاشاه جميع الناس ويبتعدون عنه غاية الابتعاد حذرا من آثاره الرديئة وأطواره الذميمة؛ لأن دأبه أن يهتك حرمة الأسرار ويكشف الستر عن معائب البشر، ويظهر كل الأعمال الصائرة منهم سرا، حتى إنه يفعل هذا مع أخص أصدقائه، وربما تعمد أن يصاحب أحدا ليطلع على خفياته بالاستيداع ثم يذيعها بالنميمة. ولا يبالي من ارتداد وجعه على رأسه في أحوال شتى، وذلك عندما تستقر الخيانة فيه فيستوجب لعنة الجماعة ويعاقب بالصد والجفاء مثل الأفعوان الأسود الذي إذ يلسع تنسحق أنيابه ويسيل منها سم فيمتصه فيموت.
فلا شك إذن في عظم أضرار هذا الروح الخبيث، وبكل عدل يجب طرده من عالم الآداب والتهذيب وكسر شوكته، وبكل حق يتعين النفار عنه واجتنابه على من ليس يرضى بهتك أسراره وخفياته، ولا يوجد أصعب على الإنسان من وقوع أعماله السرية في السنة العامة وإظهار عيوبه. ولو أمكن وجود إنسان خال من النقيضة لحق له أن ينتقد نقائص غيره، ولكن يمتنع وجود ذاك فلا حق في الانتقاد لهذا.
ولما كان السقوط المطلق لقائد النميمة قد يفتح طريقا لهجوم الأشرار على عمل العيوب بدون خشية كشف النقاب الذي يردع كثيرين عن الكبائر بلجمه جماح الشهوات، كان الأفضل أن يبقى له صوت في آذان العموم لأجل التهديد، ولكن بشرط أن يكون زمامه محفوظا في يد الكتمان.
الكذب والنفاق
أما أنت يا قائد الكذب والنفاق فلا تعتبر إلا كهادم لمباني الآداب الإنسانية، ومفسدا لصلاح الغريزية ومستعبدا لحرية الفطرة؛ لأنك متى أوقعت أحكامك على أحد أحدثت فيه بلبالا عظيما ظاهرا وباطنا إذ تجعله الخصم الألد لضميره كلما فتح فاه. وتبقيه أضحوكة في أفواه سامعيه فتكسبه العار والفضيحة، حتى إنه يعود متقلبا على جمر الندم ومشمولا بقنوط النفس كلما خلا في نفسه وتبصر بما أنشأ لسانه من الأكاذيب والنفاق في مسامع الناس، وبما سيرد عليه من التكذيب والإذلال، فيثني مصمما أن يحفظ لسانه من شين المين، ولكن غلبة الملكة لا تسمح له بذلك ما لم يحتمل مشقة عظمى؛ فيعيش أسيرا وعبدا لك يا قائد الكذب والنفاق.
ولما كان الطبع البشري يأنف ويستنكف جدا من تكلم الخلاف، ولا يميل إلا إلى صدق المقال وإثبات الحقيقة، كان الإنسان الذي لا يصدق بلسانه ولا يستقيم بجناحه مكروها حتى من نفس طبعه أيضا، على أنه يرى طبعه مضادا طبيعته فيكره نفسه.
فيجب على كل من الناس أن لا ينقاد إلى حكم هذا الروح الشرير منذ نعومة أظفاره عندما يكون التعود سهلا، وأن يرفض كل تلفظ ينسب إليه مهما كان وهنا؛ لأن الذي يبتدئ بالصغائر قد تهون عليه الكبائر، والذي يفكر في القليل يتصل إلى الكثير؛ لأن الفكر من شأنه أن يطير بأجنحة أدنى تصورا إلى قبة فلك التصورات حيثما لا يوجد نهاية ولا قرار.
Bog aan la aqoon