فهكذا كل إنسان يجب عليه اعتناق المحبة عامة وخاصة وتحريكها حسب الاقتضاء بدون تسليم ذاته لجميع قواتها حذرا من فتكها به وتمزيقها جلباب راحته؛ وبذلك تقوم هذه الدعامة الخامسة للتمدن أو السلك الذي به تنضم فرائد البشر بعضهم إلى بعض.
وبعد أن ختم الفيلسوف مقالته هذه أثبت عينيه في الأرض قليلا كأنه يقصد إراحة فمه من كثرة التكلم، وجعل يخط في الثرى. ثم نظر إلى الذي كانت سحنته مرآة ترتسم عليها علامات صغيه وارتياح نفسه، وقال له: هاك دعائم التمدن، فإذا كان الإنسان قد خلق كاملا في الإنسانية متخلقا بصفات خلقته ومشبها بكمالاته لا يكون عندنا شك إذ ذاك في كون هذه الدعائم مرتكزة في قلبه حاملة اسم الناموس الطبيعي حسب تعليم الأيتيكا (الفلسفة الأدبية)، ولا يعود لنا ريب بكون تقلبات الظروف وكرور الأزمان قد قلقلت تلك الدعامات وأفسدت ذلك الناموس؛ وبناء عليه لا يكون عسرا تثبيت قلقلة الثابت وإصلاح فساد الصالح، ولا يحتاج هذه الأمر إلى مضي أجيال وقرون.
فتنحنح القائد ونظر إلى الفيلسوف بدعة وقال له: إن جميع ما شرحته عن التمدن وكيفية أصوله وواجباته أعلمه جيدا، وطالما أتعبت ذاتي في نشره بين الآفاق ورفع رايته، ومع ذلك أشكر فضلك على توضيحك إياه لي، ولكنني لا أزال أرى انتشاره بين شعوب مملكة العبودية عسرا وشاقا إلى الغاية ولو كانت دعائمه مرتكزة على قلب الإنسان الطبيعي. ومن المعلوم أن الفساد إذا أخذ سعته في محل ما ومكن ذاته خاصة تحت مجرى سنين كثيرة فلا يعد إصلاحه إلا ضربا من العبث، كيف تنصلح الخمر إذا صارت خلا؟ كيف يحيا العضو إذا تغنغر (أي أصابته الميتوتة)؟ كيف يرجع الحديد إذا صار صدئا؟
إن الخمر تنصلح باقتلاع الاستحالة الخلية منها بواسطة شيء من القلويات، ويحيا العضو المتغنغر بإرسال المنبهات والمنقيات إليه كأملاح النوشادر والكلس، ويرجع الحديد بتصعيد العنصر الهوائي منه.
وبينما كان الفيلسوف يجاوب القائد على قواعد فن الكيمياء؛ لمع جمهور يتسرب إلى جهة المحفل النوراني، وهو يتشكل بكتلته ويسرع تارة ويبطئ أخرى حسب أهواء عوارض الشجر، وكان يأتي منه صوت صليل حديد، ولم يزل متقربا حتى نفذ في المرسح الملوكي واستقبل بوجهه طفحات الأشعة، وهناك توقف عن التقرب، وعندما أجلت فيه طرفي وجدته مركبا من تسعة أشخاص مقيدين من أرجلهم بسلسلة حديد وزنجيين يجرانها من كل جهة، وجملة أشخاص لم أعلم شأنهم، ونظرت رجلا يتقدم الجمع وهو يعجل بخطواته ويستعجل.
ثم رأيت هذا المتقدم قد انفرد عن الجمهور وسار يطلب جهة العرشين، وإذ وصل جثا على ركبتيه خطفا ثم نهض وحناها منه بوقار ويداه مضجعتان على جنبيه. فأمعنت النظر فيه وإذا هو وزير محبة السلام، وإذ رآه الملك قال له: هؤلاء جمهور المردة. فأمال الوزير رأسه وأجاب بصوت منتصر: نعم، حل وثاقهم واجعلهم أمامي صفا. فنكص الوزير إلى الوراء ثم التفت للزنجيين وأشار إليهما بحل الوثاق ففعلا، وبينما كان الصف يتركب والأشخاص اللاحقون يبعدون إلى الخلف انحدر القائد والفيلسوف وجلسا حذاء عرش الملكة.
الفصل السادس
قواد الشر
أما أنا فرأيت المحل الذي أشغله لم يعد مناسبا لحق المعاينة والاستماع لكون أنظاري لا يعود أن يمكنها الإحاطة بجميع الأشباح، وآذاني صارت تعجز عن إيفاء حق السمع لما استجد من الضوضاء؛ فتركت هذا المحل وأطلقت خطوات التجسس حتى بلغت الجمهور المحتفل وانخرطت في سلك الأشخاص اللاحقين من حيث لم يشعروا بقدومي. فرأيت الجوق الذي كان موثقا بالأداهم قد صار صفا منتظما إزاء العرشين، والقائد والفيلسوف لم يزالا جالسين حذاء الملكة يخاطبانها بحديث لم أسمعه، ووزير محبة السلام واقفا بجانب العرش الملوكي وتلوح على وجهه سحنة التفكر العميق، والملك مرسلا نظراته لفحص الجمهور وعلى وجهه تتلاعب أطوار الغضب، وما لبث السكوت برهة أن التفتت إليه الملكة وقالت له بصوت احتفالي: قد استصوب الفيلسوف والقائد ما تناجينا به منذ هنيهة في أمر كيفية محاكمة هؤلاء الأسرى. - فليذهب القائد إذن وليحضر الأشخاص الذين عيناهم إلى المرسح. فما أتم الملك كلامه إلا ورأيت القائد قد وثب وثوب الجواد وطلب موقف الأجناد. وإذ أسدل السكوت ستاره ونشر الهدو شراعه، أخذت أتأمل الصف المأسور وأنتقد كلا منه وأنا ملتطم بين موجتي التعجب والارتياع وواقع في بحراني التكذيب والتصديق، فكان الشخص الذي هو مقدام الجوق رجلا حليف الشيخوخة قد امتصت الأيام ماء وجهه المصفوع بكفي الزجر والانتقام، وحرثت السنون سهلة جبينه، وندف الزمان على لحيته قطن الشيب، ولا يقدر على نصب قامته من ثقل الحوادث المتراكمة على ظهره، وكان جميع حرارة أعضائه قد تجمعت في حدقتيه اللتين كانتا تنثران شررا ودخانا، أما رأسه فكان متوجا بإكليل عتيق الزي قد نخره صداء القدمية، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا ملك العبودية.
أما الشخص الأول: بعد ذاك المقدام فكان رجلا ضخم الجثة، غليظ العنق، مفرطح الرأس والجبهة، أفطس الأنف، ثخين الشعر، سميك الشفاه، وكانت أرواح التبسم البهيمي تتراقص على وجهه، وضباب الجمود الحيواني مخيما على عينيه، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد الجهل.
Bog aan la aqoon