ثانيا «تمهيد الشوارع والأزقة»:
إنه مما يستدل أيضا على الحالة التمدنية لقوم ما هو ملاحظة كيفية الشوارع والأزقة، فمن أهم الواجبات للداخلين في التمدن إذن إفراغ الهمة في تحسين هذه الكيفية وإتقانها، على أنه لا يسمح لهم التمدن قط بترك الشوارع والأزقة ضنكة معوجة رديئة التبليط والتخطيط، بل يطلب منهم دائما أن تكون مستقيمة عريضة ممهدة البلاط والخط؛ وذلك لأن الشارع أو الزقاق إذا كان ضنكا يمنع سهولة تجدد الهواء ويعوق امتداد النور إلى مخادع الناس أو حوانيتهم؛ فيجلهم مستعدين للآفات الليمفاوية والدرنية كالسرطان والخنازير والسل والأورام الباردة والحدار واكمداد البشرة ونحو ذلك. وإذا كان معوجا فإنه يعسر انطلاق خطوات الناس فتتعثر أرجلهم وتتلاطم صدورهم وتتقارع جباههم؛ وحينئذ يكون السير في الزقاق عراكا لا انتقالا، وإذا كان وعرا مستويا فإنه يصدع أقدام الماشين ويسبب سقطات البهائم تحت أحمالها الثقيلة؛ فتتهشم حوافرها وتتكسر أرساغها، وذلك ينافي ما تطلبه الشفقة على البهائم التي لا نطق لها لتشكو مصابها وتندب عذابها، هذا ما خلا المؤيدات التي يجدها الشتاء هناك لأن يصنع بحيرات من الأوحال والأطيان بحيث يعود الناس ملتزمين لقوارب يخوضون بها ولا يبقى سبيل لسلوك العميان.
ثالثا «ترميم الأبنية»:
ومما يتخذ دليلا على تمدن المدينة أو خشونتها هو ملاحظة أمر أبنيتها؛ ولذلك يقتضي لقاصدي التمدن وفور الاهتمام في إصلاح شأن الأبنية والمشيدات، وهذا يتوقف على فحصها كل مدة لاستعمال حالة متانتها وثباتها فرارا من حدوث الأخطار؛ لأنه متى ترك الناس جسرا لعبور السنين بدون ملاحظة أمره أحدثت فيه طول الزمان تقلقلا ووهنا فيعود خطر هبوطه قريبا، وخصوصا في أيام الشتاء عندما يصبح عرضة لصدم الرياح واندفاق الأمطار فإن سقوطه إذ ذاك يكون عظيما.
ولما كان تعرض الناس إلى اقتبال هذا الخطر كثيرا وجب على جميعهم تواصل التدقيق على حالة الأبنية من الداخل والخارج لكي يمنعوا بذلك أخطارا عظيمة تنهددهم على ممر الدقائق ويدخلوا إلى منازلهم بسلام آمنين.
الدعامة الخامسة: المحبة
هو ذا رنين صوت الكون العالي يدوي في أعماق العالم العقلي ليستفز سكون الأرواح الفكرية إلى التطاير بأجنحة التخيلات السرية على دوح الوجود العام، حيثما يمكنها اختطاف تصورات تدعو القوة الحاكمة إلى أن تحكم بأن الناموس الذي جعلته حكمة العناية ضابطا لمجموع نظام الخليقة هو المحبة نفسها التي يختلف اسمها باختلاف موقعها. فها هي هذه المحبة قد صعدت على منبر ذلك النظام العظيم، وشرعت تنادي بصوت الغوامض هكذا: اسمعي أيتها السماء فأتكلم وأنصتي أيتها الأرض. أنا التي قد جمعت شمل الذرات الأولية فكانت أجراما تتلامع في قبة السماء، فلماذا دعيت التصاقا؟ أنا التي قد أوثقت هذه الأجرام برباط الانضمام فكانت أفلاكا تدور حول بعضها، فلماذا سميت تجاذبا؟ أنا التي قد ألفت بين العناصر المختلفة فكانت مملكات تزهو بمجد الارتباط، فلماذا لقبت تماسكا؟ أنا التي قد فتحت في أجناس الحياة مسالك الميل إلى أن تحافظ على أنواعها، فلماذا دعيت تناسلا؟ أنا التي قد جمعت أشتات البشر إلى هيئة واحدة فكانوا متعاضدين في حروب الحوادث فلماذا سميت اغتصابا؟ أنا التي قد قفلت مصارع البحر وأتخمت كبرياء لججه، فلماذا أدعى جزرا ومدا؟ أنا التي حيثما نزلت عمرت وحيثما رحلت خربت، فلماذا لا يكترث بأمري؟ أنا التي لا تغتني الطبيعة عني ولو طاردتني فلتات الأقدار، فلماذا ينكرني البعض؟ أنا التي اتخذني التمدن دعامة قوية له وبدوني لا يثبت له بناء، فهل يهدمني إلا كل متوحش؟
ها قد عظمت دعوى المحبة وتفاقمت إلى الغاية؛ لأنها قد جعلت لنفسها ربط العالم بأسره، وجعلت جميع الأسماء المستعملة في التعبير عن القوة المؤلفة مترادفة على معناها، حتى كأنها تود أن تشرح بذاتها معنى تلك المحبة الجوهرية التي قد أنشأها الباري بذاته أزليا، وأصدرها كلمة لتدبير الأكوان التي بها كانت وبغيرها لم يكن وبغيرها لم يكن شيء مما كون.
مهلا مهلا، فلا عاد يقدر هذا الكلام على إتمام سيره؛ فقد حاولت الاستطراق إليه أشواط المنتقدين، وها غبار أغراضهم بدأ يتصاعد عن بعد، وكل منهم فاغر أتون فاه ليقذف دخان التفنيد، فالبعض يعبسون وجوههم ويقولون هو ذا يستنتج من هنا ألوهية حركة الموجودات، وآخرون يرفعون أنوفهم ويقولون: ها. ها. إنما يستفاد من هذا الكلام كون الكلمة ممتزجة ماديا في عموم الموجودات. وغيرهم يحملقون بأعينهم ويصيحون: هذا تعليم الماديين نفسه. وهذا فضلا عمن سيبسط عثنونه ويقول: كيف يسوغ لمن لم يسلم على عتبة مدرسة أن يتكلم عن اللاهوتيات بشيء لم يسعه إدراكه؟ وعلى أي قاعدة أثبت حكم القوة الفاعلة للقوة المنفعلة وضعضع الروحيات بالماديات؟ ثم يشهر المدرسية سيوف الشتائم مجردة من أغماد شهادات مزورة، ولكن ليأخذ حذره من انتقام الشبل عن الأسد.
أما لسان الصواب فيقول لذوي الدقة في التأمل هكذا: إن المراد من دعوى المحبة العامة ليس أن تكون هي نفس الذات الإلهية منبثة في جزيئات الخليقة، بل إنها هي القوة التي جعلها الله لتحريك الخلائق وتدبير الكائنات تحت أشكال مختلفة تدعى الناموس العام، وإذ ذاك فيكون المراد هو الإشارة إلى أن الإنسان إذا كان يحب نفسه فهو ملزوم تبعا لهذه المحبة أن يحب شبيهه بالإنسانية تسديدا لحق كماله الطبيعي؛ وذلك اقتداء بخالقه الذي عندما رأى ذاته ملء الكمال أحب ذاته وبمحبته هذه خلق العالم محبوبا منه وجعل يدبر هيئة نظامه بما لم تدركه أفكار الطبيعيين؛ فأعطوا لكل حركة اسما مبهما. فينتج إذن أنه بالمحبة قد قام العالم جميعه، وبالمحبة تتحرك جميع الأشياء، وبالمحبة يثبت كل من المخلوقات على حدته، وبالمحبة يحافظ الكل على أجزائه وهكذا. فبدون المحبة بين البشر المطبوعين على فطرة الله لا يمكن قيام نظامهم الاجتماعي على الوجه المطلوب؛ إذ إن المحبة هي القوة الوحيدة للتأليف بين أفرادهم المتفرقة على وجه الأرض، والضابط الأول لنظام عالم تمدنهم، بخلاف البعض الذي ينزل منزلة القوة الدافعة بين الأجسام فيبعدهم عن بعضهم ويشتت شمل هيئتهم ويسلبهم راحة الحياة المحبوبة لهم بالظفرة الأصلية.
Bog aan la aqoon