الملوك والغرام
الملك إدوارد الثامن والمسز سمبسون
جلالة الملك كارول ومدام ماجدا لوبيسكو
الملك إسكندر الصربي ودراجا ماشين
هنري الثامن وزوجاته الست
الملكة فيكتوريا والغراندوق إسكندر
الملكة اليصابات واللورد روبرت ددلي
كليوباترا ومارك أنطوني
الملك إدوارد الرابع واليصابات جراي
ماري ملكة اسكتلندا واللورد بوثول
جلالة الملك جورج السادس والملكة اليصابات
الملوك والغرام
الملك إدوارد الثامن والمسز سمبسون
جلالة الملك كارول ومدام ماجدا لوبيسكو
الملك إسكندر الصربي ودراجا ماشين
هنري الثامن وزوجاته الست
الملكة فيكتوريا والغراندوق إسكندر
الملكة اليصابات واللورد روبرت ددلي
كليوباترا ومارك أنطوني
الملك إدوارد الرابع واليصابات جراي
ماري ملكة اسكتلندا واللورد بوثول
جلالة الملك جورج السادس والملكة اليصابات
غرام الملوك
غرام الملوك
تأليف
فرج جبران
الملوك والغرام
كان أجدادنا - رحمهم الله - يطلقون على الملوك لقب: «أنصاف الآلهة» بحجة أنهم بعيدون عن الخطأ والمعصية.
ولكن سلسلة طويلة من الحوادث وقعت لأنصاف الآلهة أثبتت أن أنصاف الآلهة لا يختلفون عن غيرهم من الناس، فكان أن سحب آباؤنا من الملوك لقب أنصاف الآلهة، وأطلقوا عليهم لقب «أصحاب الدم الأزرق».
والدم الأزرق - كما أفهمه أنا - هو الدم النقي المرشح الخالي من حرارة الاندفاع، البعيد عن تأثير العاطفة الجائحة؛ الدم الذي ينبع من العقل رأسا لا من القلب.
ولكن سلسلة أخرى من الحوادث ليست آخرها حادثة الملك إدوارد الثامن والمسز سمبسون، ولا هي أولها، أثبتت لنا أن الدم الذي يجري في عروق الملوك والملكات لا يختلف عن الدم الذي يجري في عروقك وعروقي وعروق أي شخص آخر. بل قد يكون الملك أحيانا عرضة للاندفاع في عواطفه والتأثر بها أكثر مني ومنك برد فعل الحياة المحافظة المحاطة بآداب القصور، وتقاليدها العتيقة، وقوانينها الصارمة، وحدودها الضيقة.
وقد يكون الملك على حق في بعض الأحيان إذا بحث عن امرأة تعرف كيف تنسيه مسئولية الحكم ومشاغله، وتعرف إذا نادته باسمه مجردا كيف يكون لصوتها رنة محبوبة في نفسه، وتعرف كيف تتمنع عليه أحيانا، فيشعر باشتداد رغبته فيها وهو الذي يأمر فيطاع، ويطلب فيجاب.
وإذا كان الواحد منا يختار لنفسه المرأة التي يعتقد أن حياتها متممة لحياته بمحض إرادته، فإن الملك يشعر أحيانا بهذه الرغبة الملحة في حرية الاختيار، ولكنه يصطدم بمن ينبهه إلى واجبه القدسي، ويخبره أن زوجته ليست زوجته فقط، وإنما هي ملكة شعبه؛ فلا يجب أن يصم أذنه عن سماع صوت الشعب عند اختيار زوجته وملكة شعبه.
وقد جمع هذا الكتاب بعض ما وقع للملوك في غرامهم في السنوات الأخيرة وفي العصور القديمة، مستندا إلى أوثق المصادر التاريخية؛ لتقوم دليلا على أنه إذا كان بعض الملوك يملكون السيطرة على قلوب رعاياهم، فالقليل منهم من يملك السيطرة على قلبه هو.
المؤلف
ملك إنجلترا السابق إدوارد الثامن (دوق وندسور الحالي).
الملك إدوارد الثامن والمسز سمبسون
الميلاد
فكر المستر تيكل واليس وارفيلد وهو ينظر باضطراب إلى باب الغرفة المغلق وقال في نفسه: عسى أن يكون ولدا.
ثم أخذ يتمشى في الحجرة الخارجية ذهابا وجيئة، ونظر من النافذة يلتمس الهدوء من اضطرابه في منظر تلك القمم الزرقاء اللون التي كانت تحجب عنه الأفق، وكان الناس في الطريق يمرون أمام المنزل في مونتيرى دون أن يهتم أحدهم لشيء مما يجري في الداخل؛ فقد حضروا هم أيضا للاصطياف على حدود بنسلفانيا وميريلند بين الجبال، وكانت تغطي رءوس السيدات قبعات كبيرة الحجم يزينها الريش الطويل؛ إذ كانت هذه هي «موضة» القبعات في عام 1896.
وفتح باب الغرفة المغلق فجأة، وأقبلت الممرضة وقد انفرجت شفتاها عن ابتسامة، وأشارت إلى المستر تيكل واليس وارفيلد بإصبعها تدعوه إليها، ثم قالت له بصوت منخفض لما اقترب منها: تعال لرؤية ابنتك.
فتاة! شعر تيكل واليس وارفيلد بخيبة أمل، ولكنها خيبة لم تدم طويلا؛ فإنه ما رأى ذلك الملاك الصغير في أرجوحته حتى شعر بالسعادة وبكى، وبدت زوجته - ولم تكن سنها تزيد عن ثمانية عشر عاما - جذابة على الرغم من شحوب وجهها. - أليس.
وأدارت الأم رأسها، ولكن الأب كان منشغلا بابنته التي أخذت في البكاء، وقال: ستصبح هذه السيدة الصغيرة شخصا ما في يوم من الأيام.
وأردفت الأم: ستكون جميلة جدا.
ولم يكن أحدهما، الأب أو الأم، يصدق كلمة مما يقول، ولكنه الغرور الوالدي هو الذي كان يدفعهما إلى هذا الكلام.
وسميت الطفلة «بيسي واليس». أما بيسي فلأن عمتها التي تقطن واشنجتون كانت تدعى بهذا الاسم، وأما واليس فلأن الوالد تيكل كان يحلم دائما بولد يحمل هذا الاسم.
الحفلة الأولى
أعلن الخادم قدومها فصاح: آنسة بيسي واليس وارفيلد.
وتحولت الأنظار كلها نحو السلم الذي بدأت تنزل درجاته أجمل فتاة رأتها عيون الحاضرين.
كان هذا في عام 1914 وأفكار العالم كلها مضطربة، والحديث لا يدور إلا حول الحرب المرتقبة، ولكن ما ظهرت الآنسة وارفيلد حتى خفتت الأصوات، وانقطعت المناقشات، ولم تستأنف إلا بعد ذلك بمدة، وكان موضوعها مختلفا هذه المرة؛ فيقول واحد: ما أرشقها!
ويقول آخر: انظر إلى عينيها، انظر جيدا! - من الصعب أن يذكر الإنسان إذا كان لونهما أسود أم رماديا أم أخضر. - على كل حال شعرها أسود اللون. - وأي سواد!
ومع ذلك كانت الفتاة تتحرك في القاعة دون أن تهتم بما يقال حولها، واتجهت رأسا إلى عمها المستر دافيز وارفيلد، فقبلته بلطف وقادته إلى ركن من أركان القاعة، وهناك قالت له: يا عمي العزيز، كم أنا سعيدة! إنك تعاملني بمنتهى الرقة، هل تظن أنني نجحت؟
فقال العم: نعم، أيتها الصغيرة والي؛ إذا كان هذا مبدأ دخولك في الحياة، فهذا يعتبر دخولا في الحياة بالمعنى الصحيح. إنك بديعة جدا، وإنني لأعرف شخصا كان يطيب له أن يشهد نجاحك الليلة. إننا لا يجب أن ننساه في هذا المساء.
وفيما كان يقول لها ذلك لم يتمكن من أن يمتنع عن البكاء، وكانت بيسي تعرف أنه يقصد المرحوم والدها بكلماته؛ فأمسكت بحلية ذهبية تتدلى من عنقها إلى صدرها وفتحتها، فظهرت فيها صورة الأب تيكل واليس وارفيلد بيضاوية الشكل، وكان يبتسم ابتسامة خالدة.
وقال العم وهو يحاول أن يبدد أحزانها: مسكين والي! لم تكن سنك تزيد على ثلاثة أشهر يوم توفي، ومع ذلك فقد كان يعبدك، ويدعوك ملكته، ويلقي مختلف الوعود عن مستقبلك، ولكن ها أليس قد أقبلت.
سليلة بيت مونتاج
وارتمت الفتاة بين ذراعي أمها التي كانت لا تزال جميلة، والتي كانت تحبها إلى درجة العبادة، وفي تلك الأثناء تقدم رجل واقتاد والي إلى حلبة الرقص.
النساء حسان، والرجال ظرفاء، والأنوار مضيئة، والموسيقى شجية. كانت الحفلة قد نجحت نجاحا باهرا، وكان العم دافيز وارفيلد، أو العم سول كما كانت تناديه ابنة شقيقه، يفرك يديه سرورا.
وفي ركن من الأركان جلست سيدتان تقدمتا في السن تتحادثان، فقالت إحداهما: أليست جميلة؟ - بل فاتنة. - يا لليتيمة المسكينة! إن والدتها تعذبت كثيرا؛ فقد ترملت وهي في سن الثامنة عشرة، لقد كان هذا مؤلما؛ إذ اضطرت أن تذهب لتعيش في بادئ الأمر عند حماتها مسز وارفيلد العجوز التي كانت تحب حفيدتها بيسي إلى حد كبير. - أظن أنه في عام 1906 افتتحت أليس صالون الشاي. - نعم، في ذلك العام غادرت منزل الجدة وارفيلد لكي تستقر في منزل بشارع بيدل ببلتيمور، وفي عام 1908 تزوجت من المستر جون راسين. - انظري إلى بيسي، كم هي مهذبة راقية! - إن هذا بفضل عمها الذي اهتم بتربيتها اهتماما خاصا، فأرسلها في بادئ الأمر إلى كلية أروندل، ثم إلى مدام ليفيفر.
وبعد، فإن هذه الصغيرة سليلة بيت مجد، فأم بيسي، واسمها الأصلي أليس مونتاج، تنتسب إلى دروجودي مونتكوتو؛ وهو أحد زملاء غليوم الغازي الذي وطئت قدماه أرض الممتلكات البريطانية في فرنسا عام 1066. وقد حكم أحد أعضاء هذه الأسرة النبيلة جزيرة مان، وأحد أعضاء هذه الأسرة، واسمه بيتر مونتاج، هو الذي هاجر من أوروبا وأسس في عام 1623 بولاية فرجينيا الفرع الذي تنسب إلي بيسي. - وأما أسرة وارفيلد فليس هناك ما يشينها ما دامت تعود في الأصل إلى بيجان وارفيلد.
وما لبثت أنغام الموسيقى أن ارتفعت فمنعت السيدتين من استئناف المناقشة؛ إذ لم تسمعا بعد ذلك غير أصوات الضجيج.
مقابلة سان دييجو
كانت الموسيقى تعزف نشيد: «يحفظ الله الملك!» النشيد الإنجليزي الوطني، ولم تكن الآلات العازفة خشبية، وإنما كانت آلات نحاسية، ولم يكن لقب بيسي واليس هو وارفيلد بعد ، وإنما أصبح سبنسر، ولم تكن في الثامنة عشرة من عمرها، وإنما كانت في الرابعة والعشرين.
منذ 8 نوفمبر من عام 1916 كانت بيسي قد أصبحت زوجة ملازم الطيران البحري المدعو وينفيلد سبنسر، ونحن اليوم في يوم 7 أبريل من عام 1920، وكانت محطة سان دييجو البحرية تستعد لزيارة ولي عهد إنجلترا؛ البرنس أوف ويلز أو الأمير إدوارد.
كانت قلوب الفتيات في سان دييجو تدق بشدة من أسبوع كامل، من أفقر الفقيرات إلى أغنى صاحبات الثروات، وكانت كل واحدة منهن تتصور في أحلامها أنها قد تكون السعيدة التي تستلفت نظر الأمير الفاتن في أثناء زيارته، أولم يرد في القصص الخيالية أن الأمراء قد يتزوجون من بنات الرعاة؟
كانت السيدة بيسي سبنسر تسخر من صديقاتها الصغيرات، وتسخر من أحلامهن البعيدة التحقيق، حتى لقد قالت لهن مرة: ولكن الحياة ليست خيالا أو خرافة.
وردت عليها إحداهن بحياء فقالت لها: إنك أنت نفسك قطعة من الخيال!
وكان هذا حقيقيا! فقد كان مظهر بيسي يدل على أنها تتحدى الجمال، وكانت تبدو جميلة في كل الأثواب، أثواب الصباح أو أثواب المساء. رشاقة! سحر! وعينان جميلتان! وغدائر سوداء! لم يكن ينقصها شيء، حتى «أجمل صوت في العالم!» كان الناس يعتبرون زوجة سبنسر ملكة سان دييجو التي لا ينازعها في ملكها منازع، ولكن لم تكن ملكيتها تؤثر على الملوك بعد؛ إذ إنه في اليوم المحدد لم يقف الأمير الشاب أمامها في حفلة الاستقبال أكثر مما وقف أمام غيرها.
لحظة واحدة تقابلت فيها نظرات العينين الرماديتين بنظرات العينين الخضراوين، ولحظة واحدة انحنى فيها الرأس ذو الشعر الأصفر أمام الرأس ذي الشعر الأسود، لحظة واحدة.
ومع ذلك فقد كانت هذه اللحظة الواحدة تميز المقابلة الأولى بين ذلك الرجل الذي قدر له أن يرتقي عرش إنجلترا باسم إدوارد الثامن، وبين المرأة التي قدر لها أن تصبح صديقته.
ولكن لم يكن هناك بين الحاضرين، حتى أشدهم اتصالا بين الاثنين، من يعتقد أنه سوف يجيء اليوم الذي تهز فيه السيدة بيسي واليس الجميلة إمبراطورية بأسرها، وتحدث أزمة حادة تصبح حديث العالم بأسره.
مقابلة البلاط
وانفصل سبنسر عن زوجته في عام 1925، وكما لم يحدث زواجهما ضجيجا، كذلك انفصالهما مر بسكون.
وتزوج المستر سبنسر بسرعة.
أما مسز سبنسر التي عادت فأصبحت مسز وارفيلد، فقد انتظرت أعواما ثلاثة تزوجت على إثرها المستر سمبسون، الذي قابلته في أثناء سفرها من أمريكا إلى لندن.
وكان المستر سمبسون زوجها الثاني كندي الأصل، إلا أنه قضى معظم حياته في لندن؛ ولذلك استقر الزوجان؛ المستر والمسز سمبسون، في لندن.
وحدث بعد هذا ما يحدث دائما، فقدمت المسز سمبسون إلى البلاط الملكي، وانحنت أمام الملك جورج الخامس، ثم انحنت أمام الملكة ماري، وتقابلت نظراتها - للمرة الثانية - مع نظرات ولي العهد، ولكنها كانت مقابلة بين النظرات لم يدرك لها معنى غير النجوم، وغير الأقدار الساخرة.
والحق أن أحد الاثنين؛ ولي العهد أو المسز سمبسون، لم يشعر بأقل تأثير بعد المقابلة الأولى والثانية، ولم يكن هناك من يظن أن تلك الأمريكية الحسناء، التي لم يمض على قيامها من أمريكا غير أيام قليلة، سوف تلعب بعد ذلك دورا في حياة ملك إنجلترا وإمبراطور الهند.
ومرت في ثوبها الأبيض الطويل، وأخذت عيناها، بما يكتنفهما من غموض، وما ينتاب لونهما من تغيير؛ فهما تارة في لون الرماد، وتارة في لون البحر الأزرق، وأخرى في لون الزرع الأخضر؛ نقول: إن عينيها أخذتا في البحث عن عمتها العجوز بيسي التي كانت تقطن واشنجتون، حتى عثرت عليها على ضفاف التاميز، فسعدت بلقائها.
المقابلة الكبرى
وكانت العجلة في هذه الأثناء تدور، عجلة القدر التي قادت بيسي فيما مضى إلى سان دييجو ثم قادتها إلى بهو العرش الإنجليزي، قادتها في مساء يوم من الأيام إلى مسكن ولي العهد الخاص. وكان زوجها هو الذي قادها بنفسه، وأخذ يقص عليها في الطريق كيف أنه عرف الأمير إدوارد في نهاية الحرب العظمى في فرقة حرس الكولدستريم، التي ألحق بها الكندي الأصل.
ولكن واليس زوجته لم تكن تصغي إليه، وإنما كانت تفكر فيما صادفته من النجاح بين الطبقات الأرستقراطية الإنجليزية ؛ فتمتلئ بذلك غرورا، وتشعر بنشوة السرور والفخر. وكانت تتولى تقديمها في الحفلات اللادي كنارد، أرملة السير باخ كنارد، من أعظم أصحاب شركات الملاحة في العالم «خطوط كنارد»، وكانت قد صادقت اللادي تيلما فيرنس، وهي سيدة أمريكية إنجليزية أيضا، كما أنها شقيقة جلوريا فاندربيلت.
وكانت اللادي فيرنس هي التي دعت المستر سمبسون وزوجته في ذلك اليوم إلى منزل ولي العهد، ولما وصلا إليه كانت هي هناك، فتولت تقديمهما.
هل أتمت العينين ذواتا اللون المتغير المعجزة؟ أم ترى هي خصلات الشعر الأسود، أم أن العينين والخصلات قد اشتركت في إحداث التأثير على البرنس أوف ويلز حتى أخذ في التقرب من المسز سمبسون، فأخذ منذ ذلك اليوم يسأل عنها تليفونيا في كل يوم ويواليها بخطاباته، كما لوحظ بعد ذلك أن الزوجين آل سمبسون كثيرا ما يزوران «فورت بلفيدير»، وهو القصر الذي كان يفضل ولي العهد الإقامة فيه.
وكانت العلاقة كلما توثقت بين الأمير وبين والي كلما ازداد مركز الزوج حرجا. وتقريرا للواقع، يجب أن نذكر أن الرجل قد احتمل التجربة مع الاحتفاظ بكرامته وكياسته في وقت واحد.
وماذا كان في وسعه أن يفعل؟ هل يطلب الطلاق فيهاجم أميرة وملكة المستقبل علنا في المحاكم، وهو ما تحرمه القوانين الإنجليزية؟ كانت الجماهير كلها تجهل كل شيء عن الموضوع، ولم تعرف عنه النزر اليسير إلا في صيف عام 1936 لما قام ولي العهد - وكان قد أصبح ملكا يحمل لقب إدوارد الثامن - برحلته البحرية غير الرسمية.
الرحلة البحرية
كان اليخت «ناهلين» يشق عباب بحر الأدرياتيك وهو يقترب من الشاطئ المرتفع، وقد وقف على ظهره الملك إدوارد الثامن الإمبراطور وقد التصق كتفه بكتف صديقته والي! وكانا ينظران إلى الماء.
لم تكن هناك حاجة إلى الحديث، كانت الأمواج وحركة الباخرة وهي تشقها، وعيون والي والملك وشعره الأصفر، تتحدث كلها في لغة سرية غامضة يفهمها كل العشاق في العالم؛ ولذلك سكت الاثنان وتركا البحر يهزهما وهما في أرجوحتهما، ويسر إليهما بكلمات رقيقة لا يمكن للشفاه الإنسانية أن تنطق بها.
وكانا في تلك الأثناء يقتربان من الشاطئ، فأخذا يسمعان صيحات العمال وهتاف الجمهور. وفي اللحظة التي نزلا فيها إلى البر أشارت والي إلى فوج من المصورين مقبلين وقالت: إنهم يأخذون صورتنا.
واكتفى الملك بأن هز كتفيه.
وفي أثناء تلك الرحلة كلها، سواء كان ذلك في طرقات مدن بلاد البلقان، أم على شواطئها، أم في غاباتها، لم يتمكن المصورون مرة واحدة من التقاط صورة الملك منفردا.
في كل مكان كان إدوارد الثامن يشاهد ممسكا بيد مسز سمبسون وعلى وجهيهما طابع البراءة والطهر الذي يحمله وجها أي عاشقين.
لم يكن الملك يهتم بالهرب من الطفيليين، بل كأننا به على العكس من ذلك، كان شديد الرغبة في أن يعرف العالم كله حبه لرفيقة سفره، ومنذ ذلك الوقت فقط، صيف عام 1936، بدأ العالم كله يعرف والي.
الصحافة
بدأت مسز سمبسون منذ ذلك الوقت تحتل الصفحات الأولى من الجرائد الأمريكية، وكانت صحف هيرست أسبق الصحف إلى نشر أخبارها، ثم تبعتها بقية الصحف الأمريكية، وقد لوحظ أنها تقدم أخبار مسز سمبسون على أخبار رئيس جمهورية الولايات المتحدة؛ المستر روزفلت، وعلى أخبار الثورة الإسبانية.
مسز سمبسون.
أما الصحف البريطانية فإنها لم تنشر شيئا عن الموضوع، ولم تشر إليه بحرف واحد، فزاد ذلك من اهتمام الصحافة الأميريكية، وأخذت تتهم الصحافة الإنجليزية بأنها مراقبة من الحكومة التي حرمت عليها نشر أخبار الملك إدوارد والمسز سمبسون.
وأما السفارة البريطانية في واشنطون فقد وقعت في حيرة شديدة، ولم يسعها إلا أن تجمع جميع ما كتبته الصحف الأمريكية في هذا الموضوع وترسله إلى وزير الخارجية الإنجليزية. ولم يكن هذا العمل سهلا؛ إذ بلغ عدد المقالات التي نشرتها الصحف والمجلات الأمريكية في يوم واحد أكثر من ثلاثة آلاف مقال كلها عن الملك إدوارد والمسز سمبسون.
وبدأ الصحفيون في أمريكا يضايقون الزائرين الإنجليز العظماء الذين كانوا يقضون عطلتهم في أمريكا، حتى اضطر كثير من هؤلاء إلى اختصار مدة إقامتهم في أمريكا؛ رغبة في التخلص من جيش الصحفيين الأمريكيين الذي كان يجتمع كل يوم عند أبواب غرفهم ؛ ليسأل كل واحد منهم رأيه في غرام ملكه إدوارد الثامن بالأمريكية الحسناء المسز سمبسون، ورأيه في احتمال زواج الملك منها.
حكاية سيندريلا
وفي تلك الأثناء أصبح مركز المسز سمبسون حرجا للغاية، إذ صار افتراقها عن زوجها بعد كل تلك الضجة أمرا محتما، وأمام تلك الضرورة الملحة وجد الزوج الكندي حلا يدل على النبل، إذ ترك والي زوجته تتقدم إلى المحاكم طالبة الطلاق من زوجها؛ بحجة أنها فاجأت زوجها أرنست سمبسون مع حسناء يطلقون عليها: «الزرار الذهبي»، وتركها فعلا تفاجئه مع الشهود حتى تحصل على الطلاق بسهولة.
ولما حصلت والي على الحرية وأصبحت مطلقة جنت أمريكا، وجنت صحافتها، وبدأ البحث يدور حول موضوع واحد هو زواج الملك منها، بعد أن كان الحديث قبل ذلك حديث حبه لها، وغرامه بها! وبدأ استفتاء الرأي العام بواسطة الصحف عما إذا كان يوافق على زواج ملك إنجلترا من المسز سمبسون أم لا. وكان الملك معروفا جيدا ومحبوبا جدا في أمريكا؛ ولذلك أطلق احتمال زواجه من والي خيال الأمريكيين.
زواج مثل زواج سيندريلا في قصتها المشهورة! ذلك هو الحلم الخالد في أمريكا، وهو غذاء ثلاثة أرباع الأشرطة السينمائية التي يخرجونها في هوليود مدينة السينما، وها هو ذا الحلم يصبح حقيقة! وفوق ذلك هي أمريكية ستخلد على صفحات التاريخ للمرة الأولى، وترتقي سلم العرش! فلا شك أن هذا مما يملأ النفوس غرورا، ويشعر العزة القومية بالرضا. بدأ 128 مليونا من الأمريكيين يتمنون من صميم قلوبهم أن تتم المعجزة، حتى ترى عيونهم للمرة الأولى ملكة أمريكية، وتتحدث ألسنتهم عن المسز أرنست سمبسون التي أصبحت فيما هو أشبه بالخيال «الملكة والي».
ما أثقله!
ما أبعدنا اليوم عن مدينة المياه المعدنية في 1900 وعن جبالها الزرقاء! كان الأب تيكل وارفيلد قد قال وهو يشهد ابنته للمرة الأولى: سوف تصبح شخصا له أهميته.
ولقد أصبحت شخصا.
هي جالسة في ركن من أركان الصالون بقصر فورت بلفيدير إلى جانب النار، وأمامها الملك يفكر وقد نظر إلى لهيب النار! ووراء النافذة لا يوجد غير الضباب ، والنور في الصالون ضعيف يبعث على الحزن والكآبة، وعلى أرض الغرفة توجد الأكوام البيضاء هنا وهناك؛ تلك هي الصحف.
كانت الصحف معظمها أمريكية من التي لا يراها الرعايا الإنجليز، فقد كانت الحكومة تمنع بيعها، أو تمزق الصفحات التي يرد فيها ذكر الملك. أما الملك والمسز سمبسون فقد كان مسموحا لهما بقراءتها.
والملك يحاول في هذا النضال الغريب، الذي قد يناضله أقوى الملوك العصريين للدفاع عن غرامه، أن يفهم حقيقة رأي العالم! وهو يقدر فوق هذا العبء الثقيل الذي يجب أن يحتمله كتفه بسبب التقاليد، وبسبب المملكة، وبسبب الإمبراطورية.
وهو يعرف كذلك أنه يحب تلك المرأة التي تجلس أمامه، وأنه يحب عينيها الخضراوين المتحولتين، وهو يحب ذلك الصوت «أجمل صوت في العالم»، الذي سوف يهمس في أذنه عاجلا أم آجلا، فيقول له بظرف: «كم تبدو منشغل الفكر يا حبيبي!» فماذا يصنع؟
إنه يمسك بالتاج الذي يجب أن يضعه على رأسه في يوم تتويجه ويقيسه، فما يلبث أن يقول وهو يرفعه بسرعة: ما أثقل وزنه!
أما والي، وكأنها تقرأ أفكاره بجلاء ووضوح، فإنها تمسك بيده وتضغط عليها بخفة. هي الأخرى قلقة.
موقف الوزارة
كان رئيس الوزارة الإنجليزية المستر بلدوين قد قابل الملك إدوارد في يوم 20 أكتوبر من عام 1936، وحادثه للمرة الأولى في موضوع المسز سمبسون وما تكتبه الصحف الأمريكية عنها، وعن صلتها بالملك، وعن الخطر الذي يهدد البلاد لو فتحت الصحف الإنجليزية هذا الموضوع بدورها وبدأت تتحدث عنه. وقد وافق الملك على كلام رئيس وزرائه وأخبره أنه سيفكر في الموضوع.
ثم عاد المستر بلدوين فقابل الملك في 16 نوفمبر من العام نفسه في قصر بكنجهام - وكان حكم الطلاق قد صدر في قضية المسز سمبسون - فصارحه برأيه وقال له: لا أظن، يا مولاي، أن هذا الزواج ينال موافقة البلاد؛ إذ يترتب عليه أن السيدة التي تتزوجها تصير ملكة. إنني قد أكون من بقايا رجال العهد الفيكتوري القديم، ولكني لا أقبل أن يقول عني ألد أعدائي إنني لا أعرف رد الفعل الذي يحدثه في الشعب البريطاني اتخاذ خطة معينة للعمل، إنني واثق من أن هذا لا يمكن أن ينفذ عمليا.
وأوضح المستر بلدوين في هذه المقابلة الثانية للملك أن مركز زوجة الملك يختلف عن مركز زوجة أي فرد آخر في البلاد. وهذا هو جزء من الثمن الذي يدفعه الملك؛ فزوجته تكون ملكة، وملكته ملكة للبلاد؛ ولذا يجب أن يكون صوت الشعب مسموعا ما دام الأمر يتعلق باختيار ملكته.
واستمع الملك لحديثه، ثم قال له: إنني سأتزوج المسز سمبسون، وأنا على استعداد لأن أذهب.
وكانت مفاجأة شديدة الوقع على رئيس الوزراء، إلا أن الملك كان مصمما على تنفيذ إرادته، فأخبر أمه الملكة الوالدة في مساء ذلك اليوم، ثم أخبر أشقاءه: دوق يورك، ودوق جلوستر، ودوق كنت في اليوم التالي.
الزواج غير المتكافئ
وفي خلال تلك المدة عرض الملك على رئيس الوزراء بطريق غير مباشر اقتراحا جديدا؛ هو أن يسن البرلمان قانونا يتمكن الملك بواسطته من الزواج بدون أن تصبح زوجته ملكة، ويكتفى بأن تكون زوجة الملك! وقابل المستر بلدوين الملك في 25 نوفمبر، فسأله الملك عن رأيه، فصارحه رئيس الوزراء بأنه يعتقد أن البرلمان لن يصادق على قانون كهذا، ولكن الملك أصر على ضرورة عرض الاقتراح على مجلس الوزراء، وعلى رؤساء وزارات الأملاك المستقلة، فوعد المستر بلدوين بعمل ذلك في يوم 2 ديسمبر.
وقبل أن ينتهي المستر بلدوين من جمع آراء الجميع طلب الملك منه أن يحضر لمقابلته، ولما حضر سأله الملك عن رأيه في الموضوع، فصارحه رئيس الوزراء بأن ما وصل إليه إلى ذلك الوقت كان يدل على أنه ليس هناك أي استعداد في إنجلترا، أو في الأملاك المستقلة، للموافقة على القانون الذي يقترح جلالته سنه.
ولم يدهش الملك لهذا الجواب، ولم يعد بعد ذلك إلى الحديث في الموضوع بالمرة.
وبدأ النضال الحاد الذي استمر أسبوعا كاملا في نفس الملك.
التاج أم الحب؟
استمر النضال مدة أسبوع كامل من يوم 2 ديسمبر إلى يوم 9 ديسمبر سنة 1936، ولكن الملك كان قد استقر رأيه منذ أول الأمر، ولم يكن ليتراجع في كلمته التي قالها لرئيس وزرائه عندما ذكر استعداده لأن يذهب.
وقد حاول أفراد الأسرة، وفي مقدمتهم الملكة الوالدة ماري، إثناء الملك عن عزمه، ولكنه لم يتحول، وأخذ في تلك الفترة يستعد للرحيل بعد أن سبقته المسز سمبسون التي سافرت بمجرد أن انتشر خبر الأزمة في البلاد، حيث استقرت مدة في كان.
وقد فضل الملك أن يظل مدة الأزمة في قصر فورت بلفيدير، وصرح لرئيس الوزراء بأنه لا يعود إلى لندن ما دام النزاع قائما، وذلك حتى لا يتعرض لجماهير الهاتفين من الشعب؛ إذ إن كثيرين من أفراد الشعب كانوا قد فهموا الأزمة في مبدئها على غير حقيقتها، إذ أشيع أن الوزارة تريد أن تفرض إرادتها على جلالة الملك، وأنها تستعجل جوابه، إلى غير ذلك من الأقوال المثيرة.
وفي مساء يوم 9 ديسمبر سنة 1936 تقرر أن لا بد أن تهيئ صحف الصباح الرأي العام لكي يتلقى الصدمة، فما أصبح يوم الخميس 10 ديسمبر سنة 1936 حتى كان الناس يشعرون بأن حدثا يوشك أن يحل بعد أن استمر قلقهم طويلا وهم يأملون أن يبقى لهم ملكهم المحبوب.
الصاعقة
وأخيرا خرج بائعو الصحف يحملون الطبعات الخاصة من الصحف التي نشرت إعلان تنازل؛ تنازل الملك عن العرش، وأقبل الناس على شرائها بالألوف، وأخذوا يتجمعون حلقات في الطريق يقرءون ويعيدون ما يقرءون، كما لو كانوا لا يصدقون أن الملك إدوارد الثامن الذي كانوا يجزلون له الحب من كل قلوبهم قد تنازل عن العرش حقا، وغادرهم من أجل سيدة.
واجتمع مجلس النواب الإنجليزي في منتصف الساعة الرابعة بعد الظهر، ودخل رئيس الوزراء في الساعة الثالثة والدقيقة 35، وقدم لرئيس المجلس الرسالة التي تخلى بها الملك عن عرشه، تلك الرسالة التي جاء فيها:
إنني أعتقد أنني لا أحيد عن واجبي الذي يقضي بتقديم مصالح الشعب، عندما أصرح بأنني لم أعد بعد اليوم قادرا على القيام بتلك المهمة الشاقة على ما يجب أو ما يرضي ضميري.
وقد استأنف البرلمان جلساته في اليوم التالي 11 ديسمبر سنة 1936، فأقر قانون التنازل في المجلسين، ثم أمضاه الملك في اليوم نفسه. وفي الساعة التي أمضاه فيها - وكانت الأولى والدقيقة 52 - لم يعد ملكا.
العشاء الأخير
وفي مساء ذلك اليوم، اجتمع حول المائدة الملكية في قصر وندسور: الملك السابق، والملكة الوالدة، والملك الجديد، والملكة الجديدة، والبرنسس رويال «شقيقة الملك»، والدوق جلوستر.
وقد اتخذ العشاء في تلك الليلة شكل وداع للملك إدوارد الثامن، وكانت الترتيبات التي اتخذت مؤثرة للغاية؛ إذ أشرفت الملكة الجديدة، دوقة يورك السابقة، بنفسها على اختيار ألوان الطعام التي يحبها الملك السابق؛ لأنها كانت تعرف ميوله من قبل.
وفي الساعة العاشرة قام الملك السابق من مكانه، وتحدث من القصر نفسه إلى شعبه عن طريق اللاسلكي حديثا سمعه العالم أجمع، وقد جاء فيه:
إنني وجدت من المستحيل علي أن أقوم بأعبائي دون معاونة المرأة التي أحبها. أما القرار الذي اتخذته فهو قراري وحدي. وأما الشخص الآخر فقد حاول أن يقنعني باتخاذ خطة أخرى.
وبعد ذلك الوداع المؤثر للأمة، ودع الملك أفراد الأسرة كلها، واستقل سيارة إلى ميناء بورتسموث اجتازت المدخل دون أن يقفها أحد؛ إذ كان البوليس على علم بشخصية راكبها، وسارت السيارة إلى مسكن الأميرال فيشر، القائد العام للأسطول، وحادثه الملك برهة ثم استقل مدمرة انسلت من ميناء بورتسموث في ظلام الليل.
وبقي الملك السابق على ظهرها يتطلع إلى أنوار الميناء وهي تغيب عنه وراء حجاب كثيف من ظلام الليل، ولعله كان يسائل نفسه عن الزمن الذي قد يمضي قبل أن يرى تلك الأنوار ثانية.
جلالة الملك كارول ومدام ماجدا لوبيسكو
الغرام الأول
كان أول من تعلق بها الملك كارول الثاني ملك رومانيا هي السيدة زيزي لامبرينو، وقد تم الزواج بين الاثنين في عام 1918، وكان الملك لا يزال إذ ذاك الأمير كارول ولي العهد.
وقد أزعجت هذه العلاقة المرحوم الملك فرديناند، والد الملك كارول، واشتد غضبه لما بلغه نبأ الزواج الذي تم بين ابنه وبين السيدة لامبرينو، وأمر بإلغاء هذا الزواج. وذهب سماسرة البلاط والحكومة يعرضون على تلك السيدة مبلغا كبيرا من المال مقابل أن تتنازل عن الزواج، إلا أنها رفضت ذلك بتاتا. وظل الأمير كارول مدة من الزمن على إخلاصه لهذه السيدة، وما لبث بعد ذلك أن مل الحياة إلى جانبها، وأدرك أنه قد تورط في هذا الغرام، فرحل إلى الخارج بعيدا عنها.
وقد ضيق الخناق على الأمير كارول بعد إعلان خبر هذا الزواج؛ إذ إنه خالف عندما عقده القانون العسكري الذي كان يخضع له؛ وذلك لأنه غادر بلاده إلى مدينة أودسا حيث تم الزواج دون الحصول على إجازة رسمية، كما قرر رجال الفقه بطلان هذا الزواج من الوجهة القانونية.
وقد كان لزواج الأمير كارول من السيدة زيزي لامبرينو ثمرة؛ هي غلام صغير اسمه الأمير مرسيا، وتحب أمه دائما أن تناديه باسم «برنس» أو أمير، وهي تعيش معه في الوقت الحاضر في إحدى المدن الفرنسية الصغيرة حيث يذهب الغلام إلى المدرسة مثل أي غلام آخر من أبناء الشعب.
وقد حدث في عام 1936، لما وصل جلالة الملك كارول إلى باريس قادما من لندن، بعد أن اشترك في تشييع جنازة الملك جورج الخامس، أن ظنت السيدة زيزي لامبرينو أنها ربما تمكنت من إعادة علاقتها بجلالته؛ ولذلك أسرعت بالسفر إلى باريس للقائه، ولكنه رفض مقابلتها هناك ولم توفق في محاولتها.
الزواج
وفي عام 1921، تزوج الأمير كارول من الأميرة هيلانة اليونانية، ابنة الملك قسطنطين وشقيقة الملك جورج الثاني، الملك الحالي، وهي التي خلفت له الأمير ميشيل أو ميخائيل، ولي عهد رومانيا الحالي.
التنازل
ولما توفيت الملكة ألكسندرا في أواخر عام 1925، سافر الأمير كارول ليشهد حفلة جنازتها، ولكنه لم يعد بعد ذلك إلى رومانيا، ولم يجتمع بأفراد أسرته في عيد الميلاد، وإذ ذاك لم يعد في الإمكان إخفاء الحقيقة عن الجمهور؛ فأعلن في يوم 31 ديسمبر سنة 1925 أن الأمير يرفض العودة إلى بلاده، وأنه لا يزال في ميلان.
وأرسل إليه والده الملك فرديناند رسولا يحضه على إنعام النظر في واجبه نحو أسرته وزوجته وبلاده، والعودة لاستئناف أعماله كولي العهد، ولكن الرسول عاد يحمل كتابا من الأمير كارول، وفيه يعلن قراره الأخير ؛ وهو التنازل عن حقوقه في وراثة العرش، وفي جميع الامتيازات التي له كعضو من أعضاء الأسرة المالكة. وقد نادى الملك - بعد أن وافق على تنازله - بحفيده الأمير ميخائيل الصغير وليا للعهد، وكان لا يزال إذ ذاك في الرابعة من عمره.
الملك كارول مع نجله الأمير ميخائيل ولي العهد.
وقد حاول بعض الكتاب إذ ذاك، كما حاولوا عند تنازل الملك إدوارد الثامن عن عرش إنجلترا، أن يقحموا السياسة في الموضوع، فقالوا: إن لتنازل الأمير كارول صلة بتجهيز مصلحة الطيران الرومانية بطائرات جديدة؛ إذ كان ولي العهد بصفته رئيسا لهذه المصلحة قد أوصى على طائرات ومحركات في مصانع دولتين من الدول الأجنبية، على الرغم من معارضة المصلحة نفسها التي كانت تريد أن توصي على الطائرات والمحركات في مصانع دولة أخرى، وقيل: إن الذي حدث بعد هذا هو أن طيارا من خيرة الطيارين الرومانيين قتل وهو يقوم بتجربة إحدى الطائرات الجديدة، فعد الأمير مسئولا وانتقد تصرفه؛ إذ قيل: إن محركات الطائرات التي أوصى على صنعها بنفسه لم تكن من طراز جيد، وطلب المسئولون في السلاح الجوي إجراء التحقيق، وعارض الأمير في ذلك، ولكن الوزارة لم تعبأ بمعارضته.
ولكن ظهر فيما بعد أن السياسة لم تكن ذات شأن كبير في الموضوع، وأن الأمير لم يتنازل إلا تلبية لنداء القلب. وقد وافق المجلس الوطني في رومانيا على تنازل الأمير كارول عن العرش بأكثرية 234 صوتا ضد 3 أصوات، وأعلن أن الأمير ميخائيل أو ميشيل هو ولي العهد، وتألف مجلس للنيابة عنه ضم البطريرك الأرثوذكسي، والأمير نقولا - عمه - ورئيس محكمة النقض والإبرام.
وفي يوم 4 يناير من عام 1926، وصل رسول خاص من البندقية إلى بوخارست يحمل كتابا من الأمير كارول يكرر فيه نزوله عن حقه في العرش، ويعرب عن رغبته في اتخاذ اسم «سكاريات موناسترياتو». وهو اسم مشتق من أملاكه في موناسيير.
وقد حمل الرسول خطابا خاصا من الأمير إلى قرينته الأميرة هيلانة كان مملوءا بالعبارت المؤثرة الرقيقة، وقد أبلغها فيه أنه قطع علاقته الزوجية بها، وأنه يتنازل عن سلطته الأبوية على ابنه الأمير ميشيل ولي العهد، وأنه يصرح لها أن تطلب الطلاق منه! ويقال: إن الأميرة هيلانة أصيبت بالإغماء لما قرأت هذا الخطاب، وقالت: إنها لا تعرف السبب الذي يدفع زوجها الأمير كارول إلى هذا التصرف.
وروي أنه لما عقد مجلس العرش للنظر في تنازل الأمير كارول كان الملك مغموما، حتى لقد خشي أن يصاب بمكروه؛ ولذلك لم يتقدم أي واحد من أعضاء هذا المجلس بسؤال أو استيضاح عن تصرف الأمير.
وقيل إذ ذاك: إن من بين الأسباب التي دفعت الأمير كارول إلى التنازل الخلاف الشديد الذي استحكم مدة طويلة بينه وبين والده الملك فرديناند، وأنه لذلك قد يتولى عرش المجر الذي عرضه عليه بعض الوطنيين في تلك البلاد، ولكن لم يحدث شيء من هذا، وما لبث الأمير كارول أن رحل عن إيطاليا إلى إنجلترا، ثم إلى فرنسا؛ حيث عرف أنه يعيش مع اليهودية الحسناء ذات الشعر الأحمر: ماجدا لوبيسكو.
ولما تنازل الأمير كارول عن العرش تعهد ألا يعود إلى رومانيا قبل انقضاء عشر سنوات على تنازله، وأنه حتى بعد هذه المدة يجب أن يطلب ترخيصا بالعودة من الملك.
عهد الملك الصغير
ولما توفي الملك فرديناند في 29 يوليو من عام 1927، انتقل العرش إلى حفيده الأمير ميخائيل ابن الملك كارول «الحالي»، وقد أسرع رجال البلاط الملكي الروماني إذ ذاك بإتمام إجراءات تتويج الملك الصغير؛ خوفا من عودة والده وتعرض البلاد للخطر والفتن.
وقد توج الملك ميخائيل في الأسبوع الأخير من شهر يوليو عام 1927، حيث اجتمع البرلمان الروماني في شكل مؤتمر، وأقيمت في صدر قاعة الاجتماع منصة عالية جلس عليها مطران بوخارست. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، نهض رئيس مجلس الشيوخ وأعلن وفاة الملك فرديناند، وتولى الأمير ميخائيل الملك، وفي تلك اللحظة دخل الأمير ميخائيل من باب القاعة وقد أمسك بيد أمه الأميرة هيلانة التي هجرها والده، فقوبلا - الابن والأم - بهتاف شديد رددت جوانب قاعة الاجتماع صداه. وكان الأمير الصغير، وهو في الخامسة من عمره، يرتدي ملابس البحارة البيضاء اللون .
ولما ساد الهدوء في القاعة أعلن أعضاء مجلس الوصاية أنهم يقبلون إدارة شئون المملكة بالنيابة عن الملك الصغير، ثم أقسموا يمين الإخلاص لجلالته، وأعلنوا بعد ذلك ثقتهم بالوزارة القائمة، وعدم قبولهم استقالتها.
وعاد الملك الطفل بعد ذلك إلى القصر الملكي مع الأميرة والدته، وكانت الجماهير المحتشدة تقابله بحماس عظيم، ولما وصل إلى جناحه الخاص بالقصر سأل أمه قائلا: لقد كان كل ما رأيته بديعا، ولكن لماذا كان الجميع يبكون؟
وكتمت أمه حزنها العظيم الذي كان الطفل لا يدرك سببه الحقيقي، وقالت له: إنهم يبكون جدك الذي مات.
فأطرق الصغير لحظة ثم سألها: ولماذا لم يعودوا ينادوني منذ أمس بيا صاحب السمو الملكي كما كانوا يفعلون قبلا؟
فأجابته: لأنك صرت الملك ميخائيل، وأصبح واجبا عليك أن تكون شريفا كثير الجد.
فسألها الولد محزونا: ولكن أخبريني يا أماه: هل ستمنعونني من اللعب بلعبي بعد اليوم؟ •••
وقد ساد التنافس بين الأحزاب في إبان حكم الملك الصغير كما هي العادة، وأهملت المرافق الحيوية للبلاد، وأخذ جميع العقلاء والزعماء يوجسون خوفا على مستقبل رومانيا، ويتطلعون إلى الرجل الذي يمكنه إنقاذ البلاد من حالة الفوضى التي تردت إليها.
ولم يكن ذلك الرجل البعيد عن بلاده، ولم تكن السيدة التي إلى جانبه، لم يكن أحدهما غافلا عن الحالة وعما يدعو الواجب إلى عمله.
العودة
على الرغم من تعهد الأمير كارول بعدم العودة إلى رومانيا قبل انقضاء عشر سنوات على تنازله، وبدون الحصول على تصريح من الملك، حدث في يوم 7 يونيو من عام 1930، أن وصل سموه على متن طائرة فرنسية إلى كلوزنبرج في مقاطعة ترنسلفانيا، فاستقبله لفيف من الضباط بمظاهر الحماسة ورحبوا به، ومن كلوزنبرج استقل طائرة رومانية نقلته إلى بوخارست العاصمة، ومن مطار بوخارست ركب سيارة إلى القصر الملكي. وكان أفراد الشعب قد عرفوا بعودته فاجتمعوا في الطرقات وهتفوا له بحماس شديد! ولما وصل إلى القصر استقبله الحرس الملكي استقبالا وديا، وعانقه شقيقة الأمير نيقولا عضو مجلس الوصاية على العرش.
وقد دبرت عودة الأمير كارول إلى عرش رومانيا تدبيرا محكما، ووضعت خططها بعناية وحذر، وقد انتشر نبأ عودته في جميع أنحاء البلاد بسرعة البرق. ولما بلغ مسامع النواب في مجلسهم تعالى هتافهم. وكل ذلك لأن الشعب كان قد مل حالة الفوضى وتنازع الأحزاب على الحكم، والفساد السياسي الذي أخذ في الانتشار، واعتبر الأمير كارول لذلك منقذ البلاد، كما انضم الجيش إلى جانبه.
وتمهيدا لعودة الأمير كارول أبلغ أصدقاءه في فرنسا قبل خمسة أيام من تاريخ عودته أنه قد قطع علاقته بالسيدة ماجدا لوبيسكو التي كان يقيم معها في قصره بمقاطعة نورمنديا. وقد نشر أصدقاؤه الخبر الذي كان له أحسن الأثر في رومانيا، وكان من العوامل التي ساعدت على ترحيب الشعب به.
وكان رئيس الوزراء، المسيو مانيو، والأمير نيقولا يعلمان بموعد وصوله إلى العاصمة؛ ولذلك وقفا عند باب القصر الملكي لاستقباله عند وصوله، وكان معهما مدير البوليس. أما والدته الملكة ماري فلم تكن تعرف شيئا عن عودته؛ ولذلك فإنها كانت قد اجتازت الحدود الرومانية عند منتصف الليل في طريقها إلى «أوبرمرجاو»؛ حيث تمثل رواية آلام المسيح في كل عام.
وأما زوجته الأميرة هيلانة، فلم تشأ أن تضع العراقيل في طريقه، أو بالأحرى لم يكن في وسعها أن تفعل ذلك، ولكنها لم تخف ميلها إلى عدم استئناف الحياة إلى جانبه.
وقد اختلف أعضاء وزارة المسيو مانيو بشأن الخطة التي يجب على الوزارة أن تتبعها إزاء عودة الأمير كارول، ولما اشتد الخلاف استقالت الوزارة، وقبل مجلس الوصاية استقالتها، وكلف المسيو ميرونسكو، وزير الخارجية في الوزارة المستقيلة، بتأليف الوزارة الجديدة في الحال، فألفها بعد ساعة واحدة من استقالة وزارة المسيو مانيو.
وفي يوم 8 يونيو، اجتمع كل من مجلسي النواب والشيوخ على حدة، وقررا إلغاء وثيقة تنازل الأمير كارول عن العرش، وعين الملك ميخائيل وليا للعهد؛ فصار أميرا من جديد.
وقام رئيس الوزراء المسيو ميرونسكو بمساعيه لدى زعماء الأحزاب، ثم عقدت الجمعية الوطنية جلسة خطيرة نودي فيها بالأمير كارول ملكا على رومانيا بأكثرية 486 صوتا ضد صوت واحد! وقوبلت هذه النتيجة بالتصفيق والهتاف العالي باسم الملك كارول الثاني الذي دعي لكي يقسم اليمين، فأقسم والجميع وقوف، ثم خطب الجمعية الوطنية قائلا:
لم آت للثأر من أحد! ولكني أود أن أؤلف بين قلوب جميع أفراد الشعب الذين يريدون أن يتعاونوا معي في سبيل ترقية البلاد.
إنني مصمم على حفظ البلاد من الانقسام، ولهذا الغرض يجب الحصول على معاونة جميع العناصر الحية في البلاد، وبدون الاتحاد لا يمكن أن نظهر أمام حسادنا أمة قوية يسهر عليها جيش منظم يحمل أحدث الآلات العصرية.
وقد تمت جميع هذه الحوادث في خلال 48 ساعة، وقيل: إن الملك بعد أن استتب له الأمر حاول إزالة الخلاف بينه وبين الأميرة هيلانة، وقيل: إن الأميرة هي التي رفضت الصلح، وصممت على عدم العودة إلى مطلقها الملك، فلم يسع هذا الأخير إلا أن ينزع عنها ابنها ولي العهد؛ ليشرف على تربيته ودراسته بنفسه. وقد كان انتزاع الأمير الصغير من أحضان والدته مؤثرا للغاية؛ إذ إنه أذرف الدمع وكرر أنه لا يريد مفارقة أمه! ولكن والده وعده بأنه لن يحرمه من رؤية والدته من وقت لآخر.
وقد تأكد الناس أن علاقة الملك كارول بالسيدة ماجدا لوبيسكو لم تقطع؛ إذ ما لبثت الأخبار أن جاءت من فرنسا تقول: إن السيدة قد غادرت قصر نورمنديا، وأنها تنوي السفر إلى سويسرا، ومنها إلى بوخارست.
الصديقة المخلصة
بعد أن عاد الملك كارول إلى العرش الروماني شغلت أوروبا كلها بالحديث عن ماجدا لوبيسكو، وخاصة بعد أن رفضت زوجه الأميرة هيلانة اليونانية أن تعاشره من جديد، وقنعت بأن ترى ابنها المحبوب الأمير ميخائيل في فترات متقطعة من كل عام، بعد أن كانت لا تفارقه لحظة واحدة مدة غياب والده خارج البلاد.
وبعد أن غادرت الأميرة هيلانة بوخارست، العاصمة الرومانية، حضرت إليها ماجدا لوبيسكو، وكان الملك قد أعد لها قصرا فخما تعيش فيه كما تعيش الملكات؛ إذ أحاطها جلالته بجميع مظاهر العظمة، وكان يلبي جميع طلباتها حتى قيل عنها: إنها القوة الخفية وراء العرش؛ مما أدى إلى كراهية حزب «الحرس الحديدي » لها، هذا فوق أصلها اليهودي الذي جر عليها نقمة هذا الحزب أيضا؛ إذ من بين مبادئه مناهضة نفوذ اليهود في رومانيا؛ لأنه يتهمهم بتدبير مقتل رئيس الوزراء المسيو دوكا.
وقيل: إن القصر الذي تعيش فيه ماجدا لوبيسكو في بوخارست كان يحوي آلة تليفون في كل غرفة حتى غرفة الحمام؛ وذلك حتى لا تجهد السيدة نفسها إذا شاءت أن تتحدث من إحدى الغرف بالانتقال إلى مكان التليفون.
ويقال: إن إحدى آلات التليفون كانت تتصل رأسا بحجرة الملك الخاصة في القصر، حتى يستطيع جلالته أن يتحدث إليها في أي وقت دون وساطة «السنترال»، وبغير أن يمكن لأي إنسان أن يستمع للحديث.
وكان قصرها محاطا بالحرس والبوليس السري؛ وذلك لأنها مطمح المصورين والرسامين والصحفيين الذين يقصدون القصر في كل صباح لكي يفوزوا بصورة أو حديث، فكانوا يعودون خائبين.
وتمتاز ماجدا لوبيسكو فوق جمالها الفتان بذوقها السليم، وحسن اختيارها للملابس، وحبها للماس والفراء والسينما.
وهي شديدة الإخلاص للملك حتى إنها ترفض الظهور معه في أي حفلة من الحفلات؛ ولذلك كثيرا ما كانت تتخفى في ملابس خاصة، وتجلس بين أصدقائها وصديقاتها في مكان منعزل أثناء تلك الحفلات ترقب تحية الجماهير لمولاها وقد انبسطت أسارير وجهها فرحا، وامتلأت نفسها فخرا وزهوا بصداقة جلالته التي أنعم بها عليها، وهي تقنع بهذا كله وهي في ركنها دون أن يلحظها أو يعرفها أحد.
اذكري هيلانة!
في أواخر عام 1934، اتهم الرومانيون ماجدا لوبيسكو بتضخم نفوذها في البلاط، وأخذ حزب الحرس الحديدي يفكر فيما عساه أن يفعل لكي يخلص البلاد من نفوذها؟
وقد أخذ أعداؤها يدبرون الدسائس والمؤامرات حتى قيل: إنهم أرسلوا إليها تهديدا بالقتل، اضطرت على أثره أن تغادر قصر الملك كارول الصيفي في ضاحية سينايا الذي كانت تتردد عليه من وقت إلى آخر، وأصبحت حياتها تعسة جدا بعد ذلك؛ إذ كانت كلما ظهرت أمام الجمهور في مجتمع من المجتمعات، أو مسرح من المسارح، تعالت الصيحات في وجهها تصم الآذان، وهي تنادي بها: «اذكري هيلانة! اذكري هيلانة!»
كانت هذه صيحة الأعداء الذين اتخذوا من زوجة الملك السابقة الأميرة هيلانة رمزا للحق والطهر والعفاف ضد سلطان ماجدا لوبيسكو. وكانت هذه الصيحات تلاحقها في كل مكان، وكثيرا ما كانت تفتح الغطاء وهي تجلس على مائدتها لتناول الطعام فتسقط منه ورقة عليها: «اذكري هيلانة!» كما أنها قد تركب سيارتها فتجد بها ورقة مطوية، ولكنها لا تقرؤها بل تقذف بها من النافذة توا؛ وذلك لأنها تعلم جيدا ما بها.
وأغرب ما حدث لها هو أنها كانت تستمع للراديو في ذات مساء وهي في منزلها، فإذا بالنغمات الموسيقية التي كانت تصغي إليها تقطع فجأة، وإذا بها تسمع الراديو يصيح بها: «اذكري هيلانة!»
ولم تلبث الموسيقى أن عادت بعد لحظة.
وهكذا كان ذلك الإنذار يلاحقها أينما ذهبت حتى لم تجد بدا من أن تغادر البلاد في رحلة إلى الخارج، رافقها في خلالها المسيو ديمتريسكو، سكرتير الملك كارول.
وقيل بعد ذلك: إنها تزوجت من المسيو أنتونيانو الذي كان الياور الخاص للملك كارول، وأن الزواج قد تم في المفوضية الرومانية في فيينا، طبقا للطقوس الدينية المسيحية الأرثوذكسية، وأن شاهدي الزواج كانا محافظ بوخارست وأحد ضباط الجيش الروماني العظام.
ولما كان المسيو أنتونيانو من أمهر حملة السيف في رومانيا، فقد خرست الألسنة التي طالما تكلمت عن مدام ماجدا لوبيسكو؛ لما عرف أصحابها أن المتكلم عن ماجدا بعد ذلك إنما يتكلم عن مدام أنتونيانو المبارز المشهور.
في فرنسا
وفي أوائل عام 1936، سافر بعض الملوك إلى لندن للاشتراك في تشييع جنازة المرحوم جورج الخامس، وكان من بين الذين سافروا الملك كارول؛ نظرا للصلات القائمة بين الأسرة المالكة في إنجلترا والأسرة المالكة في رومانيا عن طريق الملكة الوالدة ماري في رومانيا.
وانتهز الملك كارول فرصة عودته عن طريق باريز والتقى بالسيدة ماجدا لوبيسكو، وكان لم يرها منذ أن سافرت إلى فيينا، وقضى الملك كارول عطلة نهاية الأسبوع معها بعيدا عن باريس وصخبها بما يزيد عن مائة وعشرين ميلا، ولم يصحب معه في هذه الرحلة سوى اثنين من أشد أخصائه إخلاصا له، وترك باقي رجال الحاشية في باريز.
مدام ماجدا لوبيسكو.
واحتاطت الحكومة الفرنسية لهذه الزيارة؛ فأحاطت القصر الريفي الذي نزل فيه الملك مع مدام ماجدا لوبيسكو برجال الحرس الذين كانوا يمنعون أي شخص من الاقتراب، كما أنها أرسلت ستة من أمهر رجال البوليس السري لكي يتبعوا الملك ليل نهار ما دام في داخل الحدود الفرنسية. وقد لاقى هؤلاء المساكين أعظم المشاق في سبيل أداء واجبهم على الوجه الأكمل؛ وذلك لأن الملك أصر على أن يكتم عنهم خبر رحلته إلى الريف الفرنسي مع السيدة ماجدا لوبيسكو.
ففي اليوم الذي حدده الملك لانتقاله إلى الريف، خرج في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر تاركا وزراءه يوقعون على اتفاقية تجارية مع الحكومة الفرنسية، وارتدى هو بذلة عادية، ووضع ملفعة حول عنقه، ثم غادر الفندق من بابه الخلفي، وركب سيارة أحد أصدقائه، وكانت تحمل رقما إنجليزيا.
واعتقد الملك أنه تخلص من رجال البوليس السري، ولكن لم تمض عليه دقائق وهو في الطريق حتى رآهم قد لحقوا به؛ فأرسل إليهم كبير أمنائه يقول لهم: إن جلالة الملك يكون شاكرا جدا لو أعفيتموه من متابعته اليوم؛ وذلك لأنه يريد أن تبقى رحلته هذه سرا خاصا.
وكان هذا كل ما يتمناه رجال الشرطة، ولكن الأوامر التي صدرت إليهم كانت صريحة لا تقبل التأويل، فأصروا على متابعة الملك إلى حيث التقى بمدام ماجدا لوبيسكو، وكانت تضع حجابا كثيفا على وجهها.
وانطلقت بهما السيارة بأقصى سرعتها، وسيارة البوليس السري تلاحقها حتى وصلت الاثنتان بعد الساعة السابعة بقليل إلى القصر الريفي القائم على مقربة من قرية «بيلام»، على الرغم من أن الملك حاول في الطريق أكثر من مرة أن يضلل سيارة البوليس.
الأمير
وانتشر خبر وصول «الأمير» بسرعة في تلك القرية. ونقول «الأمير» لأن سكان القرية ما يزالون يعرفون جلالة الملك كارول باسم «الأمير»، وذلك لأنهم يطلقون عليه هذا اللقب منذ كان أميرا تخير هذا القصر البعيد للإقامة فيه إلى جانب من يهوى قلبه.
وقد سر سكان القرية بوجود «الأمير» بينهم من جديد يستعيد ذكريات الماضي العذبة أو المرة، وكان أكثرهم سرورا التجار الذين وصلت إليهم الأوامر بإرسال ما يحتاج إليه القصر.
وفي المساء ذهب عمدة القرية يرحب بالملك!
ولكن لم يغادر الملك أو مدام ماجدا لوبيسكو القصر مدة وجودهما في القرية.
إلى بوخارست
والظاهر أن الأيام التي قضاها الملك في باريز مع السيدة ماجدا لوبيسكو أثرت على جلالته وعليها، حتى إنه لم تمض مدة قصيرة بعد رحيل الملك حتى لحقت به السيدة إلى بوخارست من جديد، وأقامت في «الفيلا» الخاصة به بضواحي العاصمة.
وكانت شجاعة عظيمة منها؛ إذ ما كادت تعود حتى بدأ نسج المؤامرات من جديد في بوخارست، وعقد حزب الحرس الحديدي اجتماعا وضع فيه قائمة بمن تدعو مصلحة البلاد إلى التخلص من حياتهم بسرعة، وكان في رأس القائمة اسم ماجدا لوبيسكو، أو «مدام دى بومبادور» البلقان كما شاءوا أن يطلقوا عليها.
واتصل خبر المؤامرة برجال البوليس الروماني، فقبضوا على بعض المشتبه فيهم، أما ماجدا لوبيسكو فلم تظهر أقل اهتمام بالمؤامرات والدسائس التي تحاك لها، بل بالعكس، كثيرا ما تمتعض مما يتخذه البوليس من احتياطات للمحافظة عليها.
المستشارة الحسناء
وتتناول السيدة ماجدا لوبيسكو الغداء على المائدة الملكية في كل يوم، وهي تزور الملك بعد أن يكون قد انتهى من مقابلاته الرسمية، كما أنهما يتناولان العشاء معا مرتين كل أسبوع، وبعد العشاء يلعبان الورق مع بعض الأصدقاء، أو يشهدان رواية سينمائية في القصر.
والملك يستشيرها في شئون الدولة كما يستشير الرجل أقرب النساء إليه وأخلصهن له، وليس حقيقيا ما تتهم به من أنها تتداخل في كل شيء، بل الحقيقة أن الملك إذا استشارها في شأن من الشئون لا تتردد في إبداء رأيها، وهو الرأي الصواب في أغلب الأحيان.
وفي الأوقات التي لا تكون فيها ماجدا لوبيسكو مع الملك كارول تلازم أصدقاءها، وتتناول العشاء خارج منزلها، وتذهب لمشاهدة التمثيل. كل هذا والبوليس السري يلازمها.
وهي تقوم بكثير من أعمال الخير في السر والجهر؛ مما يجعل الجمهور يميل إليها.
ويقولون: إن جلالة ملك رومانيا أصبح لا يستغني عن مشورتها، كما أن عدد الرومانيين الذين يعتقدون أن رومانيا نفسها أصبحت لا تستغني عن خدمتها السياسية، وأنها قوة كامنة من وراء التاج، يزداد باستمرار.
من هي مدام لوبيسكو؟
أوشكت أن تبلغ الأربعين من عمرها، ومع هذا تبدو أصغر سنا من حقيقتها بكثير، وهي تتميز بشعر أحمر اللون.
ويقال: إن السر في قوة هذه السيدة شخصيتها الساحرة، ومقدرتها السياسية التي لا ينكرها عليها أعداؤها أنفسهم، وانقسام معارضيها في الرأي على أنفسهم.
وهي مشهورة بأنها أكثر سيدات بوخارست الجميلات أناقة ورشاقة، كما أن مجموعة حليها قد بلغت قيمة التأمين عليها 50 ألفا من الجنيهات! وقد قدم لها الملك قطعا كثيرة من هذه الحلي.
ويقال: إنها في المدة الأخيرة أصبحت محبوبة من أفراد الشعب، وأنها قد بدأت تضع أصبعها في كثير من الشئون المالية والحربية التي تهم المملكة بأسرها، كما أن سخاءها مع الفلاحين جعلهم يرحبون بها في كل مقاطعة تنزل بها.
تلك هي المرأة التي يتضخم نفوذها يوما بعد يوم في بلاد البلقان، حتى أصبحت تستحق لقب دي بومبادور.
ويكفي فخرا لها أنها أفلحت في المحافظة على حب الملك 14 عاما متتالية.
الملك إسكندر الصربي ودراجا ماشين
مقابلة بياريتز
في صيف عام من الأعوام كانت والدة الملك إسكندر الصربي تقيم في مدينة بياريتز، إحدى مصايف العظماء على ساحل فرنسا الجنوبي الغربي المسمى بالساحل الفضي، في قصر اسمه قصر ساشينو. وقد رأى الملك إسكندر أن يزورها في مصيفها؛ حتى ينسى مشاغل الملك الكثيرة فترة قصيرة.
فلما وصل إلى هناك لفت نظره جمال إحدى الوصيفات اللاتي يرافقن أمه، فلما سأل عن اسمها قيل له: إنها «دراجا ماشين». وقد أعجب الملك بشكلها إعجابا عظيما، ولم يخف ذلك الإعجاب عن والدته.
وفي ذات يوم كان الملك يستحم في البحر وكانت دراجا واقفة مع بعض صديقاتها عند الشاطئ، وكان البحر مضطربا في ذلك اليوم، والملك لا يتقن السباحة؛ فما لبث أن أشرف على الغرق، ولما لحظت دراجا أنه يغالب الأمواج، وكانت تراقبه بنظراتها من الشاطئ ، اندفعت إلى البحر مسرعة تحاول إنقاذه قدر استطاعتها. وكانت تبذل مجهودا عظيما في ذلك جعل جميع المجتمعين على الشاطئ يعجبون بها ويتساءلون عنها، وقد تمكنت في النهاية من إنقاذ الملك؛ فأسرته بجميلها وإخلاصها بعد أن أسرته بجمالها في بادئ الأمر.
ماضي دراجا
وعلى الرغم من أن دراجا كانت تكبر الملك بتسع سنوات، إلا أنها كانت تبدو لمن يراها أصغر سنا منه بكثير، وكانت قد تزوجت قبل ذلك ثم مات زوجها، فأبت أن تتزوج ثانية؛ لأن سوء الطالع قد أوقعها عند زواجها الأول بين براثن رجل سيئ الخلق، حاد الطباع، أساء معاملتها حتى مات وتركها دون أن يخلف لها غير مبلغ صغير من المال.
وعاشت دراجا المسكينة مدة من الزمن وهي تتألم لضيق ذات يدها، ولم يكن لها تسلية غير الذهاب إلى المجتمعات الدينية والاشتراك في الأناشيد، فكانت تجلس مع العامة على المقاعد الخشبية البسيطة وهي تنشد وترنم. وعلى مقعد من هذه المقاعد، في أحد الاجتماعات رأتها الملكة ناتالي، والدة الملك إسكندر، فأعجبت بجمالها، وتأثرت باستقامتها وعقيدتها الدينية؛ فضمتها إلى حاشيتها واتخذتها وصيفة خاصة لها. وعرفت الملكة بعد ذلك أن دراجا حفيدة لرجل اسمه نيقولا لونيفيتزا كان من أعز أصدقاء الأمير ميلوش أوبرينوفتش، جد الملك إسكندر؛ فزاد تقديرها وحبها لها.
الإشاعات
وكان للمدة التي قضاها الملك إسكندر من فصل الصيف في مدينة بياريتز أعظم الفضل في ازدياد الصلات بينه وبين دراجا، فلما عادت مع والدته الملكة إلى العاصمة بلغراد، كان يراها باستمرار ويحادثها ويدعوها إليه في كثير من الأحيان، ويستشيرها في بعض الأمور، وكان من أثر ذلك أن بدأت الإشاعات تنتشر في القصر أولا، ثم ما لبثت أن تسربت إلى خارجه، وكلها تلغط بذكر علاقة الملك بوصيفة والدته، وقد قيل إذ ذاك: إن الوزراء شكوا من أن الملك لا يبت في شيء قبل استشارة دراجا، وأنه كثيرا ما يغادرهم يتناقشون في موضوع لكي يحدثها تليفونيا ويسألها رأيها هي في ذلك الموضوع.
وزادت الإشاعات بعد ذلك حتى تناولت احتمال زواج الملك بالوصيفة ، وأقبلت إحدى زميلات دراجا في البلاط تهنئها مقدما على ما ينتظرها من عظمة ومجد في المستقبل حين تشارك الملك ملكه، ولكن دراجا غضبت لحديث صديقتها وصاحت بها: كفاك هذيانا! نعم، إن الملك يحبني، وأنا لا أنكر ذلك، بل إنني أعترف به وأنا أشعر بالفخر؛ إذ إنني أحبه أنا الأخرى إلى حد العبادة، ولكن لن يكون معنى حبي وإخلاصي لجلالته أن أحول بينه وبين واجبه نحو البلاد ونحو العرش: ذلك الواجب الذي يحتم عليه أن يختار زوجة تنتسب إلى أصل ملكي أو قيصري؛ حتى تجد بلادنا حليفة قوية تقف إلى جانبها دائما! أما أنا فحسبي أن أضحي بسعادتي في سبيله!
كانت دراجا تفوه بهذه الألفاظ بقوة وحماسة تجعل من يسمعها يتأكد صدقها وإخلاص قائلها لملكها وبلادها، أما الملك فكان يزداد في كل يوم تعلقا بدراجا حتى صار لا يقدر على فراقها لحظة، وقيل إذ ذاك في معرض النقد: إن دراجا لم تعد وظيفتها في القصر وصيفة الملكة ناتالي، ولكن وصيفة الملك إسكندر.
تنبوءات عراف
ولم تكن الملكة ناتالى تهتم بشيء مما يقال عن علاقة ابنها الملك بوصيفتها؛ إذ كانت تدرك أنها علاقة ثائرة لا بد أن تنتهي قريبا بعد أن يسأم الملك دراجا، ويشعر بالرغبة في غيرها أو بالرغبة في الزواج! ولكن حدث في عام من الأعوام أن كانت الملكة في باريس، فمرت على عراف اشتهر بمقدرته على كشف حوادث المستقبل، وكان من بين ما قاله ذلك الرجل للملكة: احذري يا مولاتي! إنني أرى حية سامة تحتفظين بها جلالتك في صدرك، احذري منها؛ فها هي ذي تلدغك لدغة مميتة!
الزواج
وكان أول من اتجه إليه فكر الملكة - وهي تفكر في الحية السامة - دراجا! فلما عادت إلى بلغراد أخذت تشعر نحوها بالنفور، ثم حدث بعد ذلك أن عثرت مصادفة على خطاب أرسله ابنها الملك إلى دراجا، فقرأته وراعها أن تتبين في سطوره مقدار تأثير الوصيفة على الملك وخضوعه لها، وشعرت بغضب عظيم وغيرة شديدة، ثم نادت دراجا وأمرتها بمغادرة القصر في الحال ، فأطاعتها دراجا بسكون؛ إذ كانت تتوقع حدوث مثل هذا من مدة طويلة بسبب الوشايات والدسائس التي تملأ القصور الملكية.
كانت الملكة مخطئة في تصرفها لما طردت دراجا من القصر؛ إذ إنها لما فعلت ذلك جعلت ابنها الملك يزداد تعلقا بها، وحبا لها؛ فقد أسرع إليها يواسيها ويكرر على مسامعها استعداده للزواج منها، ويقال: إن الملك كان قد طلب يد دراجا أكثر من مرة قبل ذلك، وإنها هي التي كانت ترفض في كل مرة، وتصرح له بأنها لا تستحق هذا الشرف، ولكنها بعد أن طردت من القصر وأخذت تشعر بأنها مهددة، وبعد أن أحست بأن تأثيرها على الملك سيزول بابتعادها عنه، فلن تجد لها نصيرا ولا صديقا، وبعد أن فقدت عطف الملكة الوالدة.
بعد هذا كله كان يجب أن تفكر مليا قبل أن ترفض طلب الملك كما رفضته في المرات السابقة، وكرر الملك طلبه بإلحاح فقال: إنك عندما تصيرين زوجتي تكونين في أمان من أحداث الدهر، ولن يكون لمخلوق أي سلطة عليك، فدعيني أتولى حمايتك والدفاع عنك!
وامتثلت الوصيفة دراجا لأمر الملك وقبلت طلبه! وذاع خبر عزم الملك على الزواج من وصيفة والدته؛ فأحدث الخبر دويا هائلا في البلاد، وأسرع الوزراء إلى الملك وتقدموا إليه بالرجاء حتى يعدل عن هذا الزواج، وأخذوا يشرحون له ما قد يفضي إليه من نتائج سيئة، ولكنه لم يهتم بكلامهم، وغضب عليهم ثم قال لهم محتدا: ليست هناك غير امرأة واحدة في هذا العالم أحبها وأفضلها على كل شيء، حتى على التاج! هذه المرأة وحدها قادرة على إسعادي، وعلى مقربة منها فقط يمكن أن أنسى متاعبي وآلامي، فأنا أريد هذه المرأة زوجا لي مهما كانت النتيجة.
وعلى الرغم من إرادة الجميع تزوج الملك إسكندر من دراجا ماشين فصارت ملكة صربيا.
الأب والزواج
ولد الملك إسكندر أوبرينوفتش في عام 1876، وقد تولى الحكم في عام 1889 وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره؛ بسبب استقالة والده لأسباب سياسية، وقد عين عليه إذ ذاك بعض الأوصياء، ولكنه لما بلغ السابعة عشرة من عمره في عام 1893 أخذ مقاليد الحكم في يده.
وكان والده الذي اعتزل العرش يعيش في باريز، وهو يتتبع أخبار ابنه وبلاده باهتمام، فلما سمع برغبته في الزواج من دراجا اشتد غضبه وتردد في تصديق الخبر، ولكنه لما تأكد منه حنق على ابنه، ونقل عنه أنه قال لأحد جلسائه: إنه لخبر مرعب حقا يكاد لا يصدق! إنني على ثقة من أن الصربيين لا يرضون بمثل هذه المرأة ملكة عليهم! هل يرتكب ابني إسكندر هذه الفعلة الشنعاء، ابني الوحيد! إنها امرأة كفيلة بأن تلحق به العار الأبدي! لقد كنت دائما أخاف على ابني من أن يقع في حبائل النساء سيئات الخلق، وها هو ذا قد وقع فعلا، وسيجر العار على أسرتي كلها، أسرة أوبرينوفتش العظيمة.
وتم زواج الملك إسكندر من دراجا في عام 1900، فأحدث استياء عاما في طول البلاد وعرضها، وبدأ أعداؤها وحسادها يدبرون لها المؤامرات. أما زوجها فكان حبه لها بعد الزواج قد ازداد، حتى إنه أخذ يدللها، ويجيب كل طلباتها، وينفذ جميع رغائبها؛ فيزيد بذلك من كراهية الشعب لها.
الدعوة ضد العرش
وأخذ الفوضويون يبثون الدعوة ضده في البلاد، وينادون في الناس بوجوب «تطهير العرش ممن دنسته»، ويبالغون في أخبار تبذيرها وإسرافها، كما ادعوا أنها لا تريد أن تخلف لزوجها ولدا يكون ولي العهد، حتى تمهد السبيل لارتقاء شقيقها عرش البلاد! وكانت هذه التهم الخطيرة تلقى أذنا صاغية من كثيرين، وخاصة بين رجال الجيش.
وفي ليلة 11 يونيو من عام 1903، دخل الملك إسكندر مع زوجته الملكة دراجا مخدعهما ليناما وهما لا يعرفان شيئا مما خبأه لهما القدر، ولما ساد السكون في القصر الملكي، وخفت كل صوت، انسل بعض الضباط المتآمرين إلى القصر من باب خلفي بعد أن رشوا الحراس هناك.
النهاية
وكان الضباط الذين وقع عليهم الاختيار لدخول القصر قد أفرطوا في شرب الخمر؛ فساروا في الردهات وهم يقتلون برصاصهم كل من يعترض طريقهم من رجال الحرس، حتى صعدوا إلى الطابق العلوي حيث يوجد مخدع الملك، ووقفوا هناك عند بابه ثم ترددوا في الدخول.
وكان الملك والملكة قد أفاقا من نومهما على صوت الرصاص؛ ففهما كل شيء في الحال، ووقفا متلاصقين وراء الباب وقد أخذا يرتجفان خوفا من مصيرهما.
وتشجع المتآمرون بعد ذلك، فحاولوا فتح الباب إلا أنهم وجدوه مغلقا بإحكام بحيث لا يمكن فتحه بسهولة؛ فأرسلوا في الحال من يستحضر لهم فأسا لتحطيمه، ووصل في تلك اللحظة رئيس الحرس، فحاول أن ينقذ الملك ويبعد الثائرين السكارى عن باب مخدعه حتى يساعده على الفرار، إلا أنه لم يفلح في إدراك غرضه، وكانت الفأس قد وصلت إذ ذاك؛ فبدأ الضباط يحطمون الباب بها دون هوادة أو تردد.
وجها لوجه
وأدرك رئيس الحرس أنه لا فائدة ترجى من وراء المقاومة؛ إذ وجد القصر كله مطوقا بالجنود، فأخذ يهدئ من ثائرة الضباط، ووعدهم بأن يطلب من الملك أن يفتح لهم الباب بنفسه إذا أقسموا له أن يتقدموا إليه بشكواهم ومطالبهم دون أن يلحقوا به أي أذى. وأقسم بعض الضباط على ذلك، فتقدم رئيس الحرس وخاطب الملك من وراء الباب فقال له: افتح لهم يا مولاي باب المخدع؛ فإن الطارقين من ضباط جيشك وهم لا يريدون بك شرا.
ولما سمع الملك صوت رئيس حرسه - وكان يعرف إخلاصه - اطمأن قليلا وفتح الباب في الحال، فوجد المتآمرون الثائرون أنفسهم وجها لوجه أمام الملك والملكة وهما بملابس النوم، وقد استعادا رباطة جأشهما وثباتهما. وتقدم الملك خطوة إلى الأمام، ثم وجه الحديث إلى الضباط فقال لهم بلهجة حازمة متزنة: ماذا تريدون مني في هذه الساعة المتأخرة؟ أهذا دليل إخلاصكم لملككم؟
وشعر الضباط برهبة الموقف، وترددوا فلم يحر أحدهم جوابا، ولم يعرفوا ما يجب أن يفعل أو يقال وهم في ذلك الموقف، إلا أن ضابطا ثملا من بينهم كان يمتاز بالجسارة والإقدام صاح بهم: ماذا أصابكم أيها الجبناء؟ هل شل الخوف ألسنتكم وأيديكم؟! انظروا! هأنذا أقدم للملك رمز ولائي.
وأخرج مسدسه في الحال وأطلق رصاصة منه على الملك؛ فخر صريعا بين ذراعي زوجته! وكأن لهذه الرصاصة الأولى تأثير الكهرباء في نفوس الآخرين؛ فأسرعوا جميعا وأخرجوا مسدساتهم، وأطلقوا النار على الملك والملكة، وأخذ الرصاص ينهال من كل ناحية على الجثتين حتى مزق جلدهما، ولم يكتف القتلة بذلك، بل استلوا سيوفهم وأعملوا فيهما تمثيلا حتى صاح قائدهم: ألقوا بهما من النافذة، اقذفوا بهما إلى الكلاب.
وجروا جسد دراجا أولا حتى النافذة، ثم ألقوه منها إلى حديقة القصر، وألقوا بعد ذلك بجثة الملك وراءه.
وارتفعت بعد ذلك أصوات هتافهم في الفضاء ابتهاجا بإتمام عملهم، وبجريمتهم الفظيعة، وكانوا يصيحون: فليحيا الملك بطرس.
وكانوا يقصدون بطرس قرة جورجفش الذي خلف الملك إسكندر على العرش.
وكأن القتلة قد ثملوا بخمر الجريمة، فأخذوا يجوبون أنحاء القصر وينتقلون من غرفة إلى أخرى وهم يصيحون ويرقصون ويهتفون بأعلى أصواتهم، ويحطمون كل ما يقع تحت أيديهم من الأواني النفيسة، أو القدور الفنية الغالية، وحطموا بالفأس فراش الملكين.
واستمروا في أعمالهم المنكرة، وخاصة بعد أن شربوا خمرا من القصر، فأخذوا يقتلون جميع الموالين للملك من وزراء وضباط، وكان من بين من قتلوا أكثر أقارب دراجا، ويقال: إن سفير النمسا لما وجد أن المسألة قد خرجت عن حدها؛ هدد القتلة بزحف الجيش النمسوي على بلغراد في الحال إذا لم يكفوا عن فظائعهم، وكان لهذا التهديد أثره؛ فامتنعوا عن القتل قرب الفجر فقط!
وبقيت جثتا الملكين إسكندر ودراجا في حديقة القصر ساعات طويلة والمطر يهطل عليهما، وقد تمزقت ملابس النوم فكشفت عن أجزاء كثيرة من جسميهما، حتى حضر سفير الروسيا بنفسه وأمر بإدخالهما إلى القصر.
هنري الثامن وزوجاته الست
الملك ذو اللحية الزرقاء
الملك المزواج: هنري الثامن.
يعد الملك هنري الثامن من ملوك إنجلترا العظام الذين خدموا بلادهم بإخلاص، وعملوا على رفعة شأنها، ولكنه على الرغم من حبه لبلاده وتفانيه في العمل لمصلحتها، وعلى الرغم من التقدم الذي وصلت إليه إنجلترا في عهده، فإن الكتاب حتى من أبناء جنسه لا يرحمونه إذا جلسوا لكتابة سيرة حياته، فذكروا حوادث زواجه وطلاقه، وإعدامه لزوجاته المتعددات، حتى إن كثيرا منهم لقبوه باسم الملك ذي اللحية الزرقاء، نسبة إلى بطل الأسطورة القديمة المشهورة الذي كان يصيد النساء ثم يقتلهن بعد أن ينال منهن كل ما يريد.
كاترين أراجون
أغرم الملك هنري الثامن بتغيير زوجاته حتى بلغ عددهن ستا، وقد كانت أولى زوجاته «كاترين أراجون». وهي إسبانية الأصل، وكانت زوجة لأخيه أرثر الذي مات وهو في عنفوان شبابه.
فلما تولى هنري الثامن الحكم رغب في الزواج بأرملة أخيه؛ لأنه كان يعجب بجمالها على الرغم من أنها كانت أكبر منه سنا. وقد قضت كاترين إلى جانب الملك هنري الثامن مدة تبلغ نصف حكمه الذي وصل إلى 83 عاما، ولكنها أخفقت في أن تلد له ذكرا يرث العرش من بعده، كما أنه ما لبث أن شعر بالرغبة في التجديد.
آن بولين
ووقع نظر الملك في ذلك الوقت على «آن بولين»، وكانت فتاة بارعة الجمال، صغيرة السن؛ فأسرت قلبه لحسنها وخفتها. كانت آن من أسرة متواضعة، إلا أنها نظرا لجمالها عينت وصيفة شرف للأميرة ماري شقيقة الملك عند سفرها إلى فرنسا في عام 1514، وقد عادت في عام 1522 فذاعت شهرتها في دوائر البلاط الإنجليزي، وقد عرفت في ذلك الوقت بخفة الروح، وحضور البديهة. ولما رأت تعلق الملك بها بدأت أطماعهما العظيمة، وصممت على أن تصبح ملكة إنجلترا، فرفضت بكل إباء عروض الملك غير الشريفة، وكانت كلما رفضت ازداد هو حبا لها، وكان أول ما فعله أن أنعم على والدها بلقب سير.
في ذلك العهد كانت في إنجلترا نهضة نسوية قوية تهاجم نساء العهد السابق نصيرات الجمود والقديم مثيلات كاترين أراجون، وكان لهذه النهضة ألوانها المتعددة، وأغراضها الجديدة، ونزعاتها المتطرفة، وحرياتها المبتذلة؛ ولذلك شعر هنري، وهو تحت تأثير ذلك الجو، برغبة قوية تدفعه إلى التخلص من زوجته كاترين والزواج من الحسناء آن بولين.
وكان الملك يطارد آن بولين في حجرات القصر وردهاته وهو يشعر برغبة جامحة في البقاء إلى جانبها، ولكن الفتاة كانت تفر منه، وتتخلص من مطاردته بسرعة الغزال الشارد أمام صياده؛ ولذلك لم يجد بدا من الاستقرار عند فكرة الزواج منها، بعد أن يئس من الحصول على شيء منها دون زواج.
ولكن ما العمل والديانة الكاثوليكية تحرم الطلاق، بل وأي عذر ينتحل لطلب الطلاق من كاترين أراجون؟
لم يكن من الصعب على هنري الثامن مدفوعا بغرامه القوي بآن بولين أن يجد عذرا يلتمس به الطلاق، فأخذ يدعي أن ضميره دائم الاضطراب لزواجه بكاترين أراجون أرملة أخيه على الرغم من تحريم الدين، وقال: إنه يشك في أن شقيقه ارتاح لعقد مثل هذا الزواج، بل لا بد أن المسكين يتعذب في قبره وهو يرى زوجه المحبوبة قد انتقلت إلى ذراعي شقيقه.
ولم يكن غريبا بعد أن رأى الملك آن بولين وعشقها، وصمم على الزواج منها، أن يستيقظ ضميره ليؤنبه على الزواج من كاترين أراجون أرملة أخيه بعد سنوات طويلة من هذا الزواج.
وتم طلاق الملك من زوجته الأولى كاترين أراجون في عام 1524، بعد أن عارضت البابوية في روما، فلم يأبه هنري لمعارضتها، وبعد أن امتنعت عن المصادقة على الزواج الجديد، فلم يكن منه إلا أن أحدث انقلابا من أخطر الانقلابات التي انتابت المسيحية في أوروبا، فقد جعل أسقف كنتربري الإنجليزي يعقد الزواج الجديد، وفصل الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما، وصار ملك إنجلترا منذ ذلك الوقت هو رأس الكنيسة. وكل ذلك من أجل عيني آن بولين الحسناء.
ولئن كان الملك هنري الثامن قد ألحق ظلما كبيرا بكاترين أراجون لما طلقها، فإن شكسبير الشاعر الخالد قد أنصفها في روايته الكبيرة عن الملك المزواج «هنري الثامن»، فرسمها على أحسن صورة للمرأة والزوجة الكاملة. وقد بلغ من طيبة قلب كاترين أن سامحت وهي على فراش الموت ذلك الرجل الذي خان عهدها دون أن تلحق به أي أذى، فكتبت إليه تقول له وهي تودعه:
إنني لا أزال أحبك أكثر من أي شيء آخر في الحياة!
وتم زواج هنري الثامن من آن بولين، وارتقت إلى مقام كاترين، فصارت الملكة، وقد كان الزواج سريا في بادئ الأمر - عقد في أوائل يناير من عام 1533 - ولكن ما لبثت آن بعد ذلك أن توجت. وتكون خطابات الملك إليها مجموعة من أبدع خطابات الغرام التي تبادلها ملك مع حبيبته.
وقد ولدت له في شهر سبتمبر الأميرة اليصابات التي ارتقت عرش إنجلترا فيما بعد، إلا أن هنري كان يميل دائما إلى التغيير والتجديد، فما لبث أن سئم آن بولين، كما أن خفتها لم تكن تروقه بالمرة، ولم يكن يلتمس لها العذر بسبب صغر سنها، كما أنه غضب عليها لما لحظ أنها لم تشعر بأقل تأثر عندما بلغها نبأ وفاة الملكة السابقة كاترين أراجون.
وفي إحدى الحفلات لحظ أن السير هنري نوريس يتقرب منها، ويبدي لها إعجابا بريئا؛ فانفجر غضبه، وأمر بإرسالها إلى برج لندن في اليوم التالي استعدادا لمحاكمتها بتهمة الخيانة. وقد أمر بتأليف مجلس خاص من 24 لوردا، انعقد وقرر إدانتها، وخير الملك بين إحدى عقوبتين: إحراقها حية أو قطع رأسها! واختار الملك العقوبة الثانية فنفذت فيها، وفي اليوم التالي تزوج هو من جين سيمور.
جين سيمور
وقد عاش الملك هادئا قانعا إلى جانب جين سيمور التي أفلحت في أن ترزقه بولد أسماه الأمير إدوارد، وسر بمولده سرورا عظيما. والظاهر أن الله أراد أن ينقذ جين سيمور من هنري الثامن قبل أن يغدر بها كما غدر من قبل بكاترين أراجون وآن بولين، فماتت المسكينة بعد مولد الطفل بأسبوع واحد، وكتب الملك إذ ذاك يقول:
كأن الله أبى إلا أن يمزج سعادتي بالحزن على من كانت السبب في منحي هذه السعادة!
فهل كان يشعر بالأسف على وفاة جين سيمور حقا؟ إن عواطفه المتقلبة تجعلنا نشك في صدق هذه العبارة.
آن كليفز
ولم يسرع الملك بعد وفاة جين سيمور بالزواج كما جرت عادته بذلك، بل ظل شهورا يعيش وحده حتى ظن الناس أنه قد زهد الزواج واكتفى بثلاث زوجات، ولكنهم كانوا على خطأ؛ إذ إنه ما لبث أن تزوج بآن كليفز بعد أن رأى صورة لها من ريشة هولبين المصور المشهور.
ولم ترق له الحياة إلى جانب آن كليفز من بادئ الأمر، على العكس من سابقاتها اللاتي كان يشعر إلى جانبهن بسعادة عظيمة في بدء الزواج.
وقد ذكر العارفون أسبابا كثيرة لهذه الكراهية التي شعر بها الملك نحو آن، ولكن الحياء يمنع من سردها، وأمر هنري الثامن بإلغاء زواجه من آن كليفز، ولكنه عفا عنها فلم يقدمها للمحاكمة؛ إذ لم يكن الذنب ذنبها، بل كان ذنب كرومويل مستشاره، فأمر بقتله!
أما آن كليفز فلم تأسف على هذا الطلاق الذي أعاد إليها حريتها، فاستأنفت حياة البذخ والإسراف والعبث دون أن تهتم لشيء.
كاترين هوارد
وكانت الزوجة الخامسة هي كاترين هوارد، حفيدة دوق نورفوك الثاني، ولما تزوجها الملك في عام 1540 كانت لا تزال في العشرين من عمرها، ومن الطبيعي أنها كانت متصلة قبل زفافها إلى الملك ببعض الشبان، إلا أن هنري الثامن لم يرق له ذلك، فما وصل إلى علمه أنها كانت على اتصال قديم بكولبيبر حتى أمر بقتلها في عام 1542؛ أي بعد عامين من زواجها.
ودافعت المسكينة عن نفسها فقالت: إنها أخلصت للملك منذ زفت إليه، وليس من حقه أن يسألها عن شيء مضى، إلا أن الملك لم يأخذ بدفاعها هذا؛ فأمر بقتل جميع الذين جاء ذكرهم فيما روى عنها وعن غرامياتها.
وأعدمت كاترين هوارد، واعترفت ساعة قتلها بحبها لكولبيبر فقالت: «إنني أموت ملكة! ولكنني كنت أفضل على ذلك أن أموت وأنا زوجة حبيبي كولبيبر! ألا فليغفر الله لي! أيها الناس، صلوا من أجلي!»
كاترين بار
وكان هنري الثامن قد تقدم في السن لما اختار كاترين بار زوجة سادسة له، وقد تخيرها صغيرة السن أيضا. وكانت ماهرة على كثير من الدهاء؛ ولذلك فقد كان تعامله معاملة الأم لطفلها الصغير حتى اطمأن إليها، وقد أفلحت بسياستها هذه في أن تعيش بعد موته، وقد كانت هي الوحيدة التي تمكنت من ذلك من بين زوجاته، ويقال: إنه حاول الغدر بها في يوم من الأيام، فوقع أمرا بإرسالها إلى السجن، ولكنه في الوقت الذي كان يوقع فيه هذا الأمر كانت هي قد هربت من القصر.
ولعل الملك المزواج هنري الثامن هو الوحيد من بين الملوك الذي تزوج من ست نساء.
الملكة فيكتوريا والغراندوق إسكندر
منذ قرن
كانت بديعة الجمال، صغيرة السن، لها قلب ينبض كسائر الأحياء، ويضطرب للحب كما تضطرب قلوبهم، ولم يكن يمكن أن يراها أحد إذا انقبضت أسارير وجهها فيظن أنها تنقبض لغير شاغل نفسي لا دخل لمهام الدولة المختلفة فيه.
وقد حدثت الوقائع التي سنسردها هنا في عام 1839؛ أي منذ قرن من الزمان، وكانت الأخلاق في ذاك العهد تختلف عن الأخلاق الآن؛ بحيث لم يكن يخطر لأهله ببال أن يزنوا بين الحب والواجب حتى يرجح أحدهما على الآخر؛ ولهذا ظل غرام الملكة فيكتوريا دفينا في قلبها تسطر ذكرياته أحيانا في مفكراتها، مع أنها كانت لا تزال في العشرين من عمرها.
الغراندوق إسكندر
في ربيع 1839، وصل إلى بلاط إنجلترا في حاشية كبيرة الغراندوق إسكندر، ولي عهد الروسيا ووراث تاج القياصرة، في طوافه بأوروبا؛ امتثالا لرغبة والده القيصر.
كان الغراندوق شابا أشقر له عينان كبيرتان شديدتا الزرقة، وعليه مظهر الرجولة الكاملة فوق ابتسامة ساحرة. وكان يتكلم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ويرقص رقصا بديعا، كما كان يجيد الحديث والمناقشة، ويتقن ركوب الخيل، ويحذق الصيد، ويؤمن بعظمته، ولكنه ينساها بسهولة.
وكان عدد النساء اللاتي وقع عليهن نظره قليلا جدا، كما كان عدد الفتيات أقل؛ ولذا كان فيه إغراء الشبان الذين لا يفكرون في الحب.
المقابلة الأولى
في يوم 4 مايو من عام 1839 كتبت الملكة فيكتوريا في مذكراتها ما يلي:
في الساعة الواحدة والنصف ذهبت إلى مكتبي حيث استقبلت الغراندوق الذي قدمه اللورد بالمرستون، وكان بصحبته الكونت أورلوف والكونت بوزودي بورجو، وقد أجلست الغراندوق، وله وجه رقيق وتقاطيع منبسطة صريحة تعجب من يراها دون أن يكون فيها ما يتميز بالجمال، علاوة على عينين جميلتين زرقاوين، وأنف قصير، وفم بديع له ابتسامة رقيقة.
وقد انتقلت على الأثر إلى حجرة الاستقبال حيث قدم لي الغراندوق رجاله النبلاء.
وقد قادني سموه بنفسه أثناء السير، وجلست بينه وبين الأمير هنري، وجلس لورد مارلبورو بين لادي نورمندي ومس أنسون . وإنني لأجد الغراندوق شخصا مسليا يميل كل من يقابله لصحبته؛ فطيبته طبيعية، وهو بسيط مرح، كما أنه يكبرني بعام واحد بالضبط.
وكل رجال حاشيته ظرفاء. إنني أحب الغراندوق كثيرا؛ فهو طبعي جدا، كثير المرح، شديد الألفة.
وقد حدث بعد يومين أن تقابلت الملكة بالأمير في نزهة على صهوة الجياد؛ فتحدثت الملكة عن المقابلة إلى صديقها الكبير ووزيرها اللورد ملبورن، كما أن الغراندوق تحدث عن هذه المقابلة إلى رجل كان يميل إليه بنوع خاص من رجال حاشيته هو الجنرال يوريفتش.
وكتب الجنرال يوريفتش يوم 7 مايو من عام 1839 في مذكراته ما يلي:
حدثني الغراندوق بحماس عن نزهة قام بها مع الملكة فيكتوريا التي يميل إليها كثيرا.
وهو يمتع بصحة جيدة. وقد انتهزت فرصة إرسال بريد السفارة لكي أبعث بتقريري إلى القيصر. ويتحدث الجميع هنا عن استقالة رئيس الوزراء اللورد ملبورن.
الحفلة الراقصة
كان الغراندوق يسرف في الحديث عن إعجابه بالملكة للجنرال يوريفتش، حتى أدرك هذا الأخير أنها أحدثت تأثيرا عميقا في نفسه، وأخذ يفكر فيما قد ينشأ عن هذه العلاقة من نتائج سياسية قد تكون مبدأ العلاقات الودية بين إنجلترا والروسيا.
الملكة فيكتوريا.
ولا شك أن أحسن الوسائل للاستمتاع بشيء من الحرية بين نظام القصور الملكية الدقيق، وقواعدها الصارمة في حدود البروتوكول الضيقة هي إقامة حفلة راقصة من المسلم أن ترقص فيها الملكة بنفسها وترأسها، وتجري فيها المحادثات بشكل ودي. وليتصور القارئ حمى الليل وهي تسري في عروق الاثنين، والموسيقى تدعوهما إلى سمائها الملأى بالعذوبة والرقة، والأزهار ذات الرائحة الجميلة تحلق بهما إلى عالم الخيال الرقيق الجميل، والأنوار الساطعة تملأ لهما جو المكان بالبهجة والرواء، والمرايا تعكس إليهما ألوان الجمال الذي يمر أمامهما، فأي مكان يمكن لمخلوق أن يجد أنسب منه ليخرج فيه الغرام من نطاق السر والكتمان؟
وفي تلك الحفلة الباهرة رقص الغراندوق كثيرا مع الملكة، وكانت تبدو عليه مظاهر السعادة ما دام إلى جانبها، كما كان يبدو على الملكة أنها سعيدة بصحبته، وكان جميع الموجودين ينظرون إلى الاثنين بمنتهى الإعجاب ، ويرون فيهما «زوجا» بديعا.
وعاد ركب الغراندوق في الساعة الرابعة صباحا لما انتهت الحفلة، ولاحظ رجال الحاشية مظاهر التفكير العميق وانشغال الفكر على سموه.
وقد كتبت الملكة فيكتوريا شيئا عن هذه الحفلة في مفكرتها الخاصة تحت يوم الجمعة 10 مايو من عام 1839 فقالت:
دخلت في الساعة العاشرة إلى القاعة الأولى كما هي العادة، حيث وجدت أفراد حاشيتي في انتظاري، ولحق بنا إلى تلك القاعة الغراندوق ومعه الكونت أورلوف والأمير هنري أوف أورنج وغيرهم، ولما أتممت عمل «الدائرة» بدأ الرقص، وقد رقصت أولا مع الغراندوق، ثم ذهبنا بعد ذلك إلى القاعة الأخرى حيث راقصت الأمير دولجروكي، ثم اللورد دوجلاس.
وفي الساعة الواحدة تناولنا طعام العشاء واستأنفنا الرقص بعد العشاء بحماس أعظم.
وعدنا بعد ذلك إلى القاعة الصغيرة حيث شاهدنا رقص بعض الاسكتلنديين، وكان الغراندوق يجلس إلى جانبي، وقد ختمت الحفلة برقصة مع سموه، وغادرت الصالة في الساعة الثالثة والدقيقة 15 صباحا وأنا في غاية الرضا، أشعر بشيء كثير من سعادة الروح.
الأزمة
كانت الملكة فيكتوريا، في سذاجة الفتاة وبراءتها، تشعر بشيء كثير من سعادة الروح، أما الغراندوق فعلى الرغم من أنه كان في مثل سنها الصغير، إلا أنه بدأ يقدر إلى أي مغامرة سيئة كانت تسوقه الظروف والأقدار، وقد لبث يفكر ثلاثة أيام تبعها التصريح والأزمة.
ففي يوم 12 مايو، أي قبل أن يمضي على تعارف الملكة والغراندوق أكثر من 8 أيام، كتب الجنرال يوريفتش بيد مضطربة ما يأتي في مفكرته:
غادرني الغراندوق الساعة فقط، وأنا الآن في شدة الاضطراب والارتباك. كان الغراندوق شاحب الوجه جدا، وقد صرح لي بأنه يحب الملكة، وأنه على ثقة من أنها تحبه كذلك. إن هذا التصريح يزعجني كثيرا؛ إذ إنني أعلم مقدار رقة إحساسه، وقد طلبت من سموه أن يترك لي مهلة للتفكير.
وفي اليوم التالي صارت الأزمة واضحة، وكتب الجنرال يوريفتش ما يلي تحت يوم:
الاثنين 13 مايو سنة 1839
طلب مني الغراندوق في هذه الليلة أن أبقى إلى جانبه، وقد جلس ساكنا لا يتحرك مدة طويلة وكأنه لا يشعر بما يحيط به، وبعد صمت طويل بدأ الحديث بهذا الاعتراف المروع:
إنني أحب الملكة، وأنا واثق من أنها تحبني. لم أكتم في حياتي سرا عنك، وأنا أصرح لك الآن بأن هذه هي أول مرة في حياتي أصادف فيها امرأة وأحبها حقا، وأشعر بالسعادة إلى جانبها.
وقد حدثني طويلا في هذا المعنى حتى تأثرت كثيرا، وذكرت له أن الارتباط بالزواج بينه وبينها غير ممكن أبدا، وأنه لا يجب أن يغفل عن واجباته؛ إذ إنه لو أراد أن يتزوج الملكة لوجب عليه أن يتنازل عن حقوقه في وراثة عرش القياصرة، وأن هذا ما لا يمكن أن يقره عليه ضميره.
ولم يتردد الغراندوق في أن ينضم إلى رأيي، ولما غادرني كان على شيء كثير من الأسى والحزن.
إنني أشعر بارتباك عظيم، فهل يجب أن أقص كل هذا على القيصر؟ لا شك أن غضبه يكون عظيما لو سمع به.
وبعد يومين تحرجت الأزمة عن ذي قبل، فكتب الجنرال يوريفتش تحت يوم:
الأربعاء 15 مايو
إن حالة الغراندوق تسبب لي قلقا عظيما، فغرامه يزيد من يوم إلى آخر، وهو يشعر بألم شديد، وقد اضطر أن يعترف بأن مركزه صار مستحيلا.
إنني أعتبره ابنا لي؛ ولذلك فأنا أتألم لألمه. وقد تحدد سفرنا يوم 30 مايو، ولكنه صرح لي برغبته في البقاء.
وهو على ثقة من أنه لو طلب يد الملكة للزواج، فإنها ستوافق في الحال على أن تصبح زوجته. ألا فليساعدني الله في هذه الأزمة؛ فقد كانت سعادة ابني هي غرضي الوحيد في الحياة، ولكن القرار الذي يجب أن أتخذه في هذه المسألة في غاية الوضوح. إن مسئوليتي كبيرة، وقد قال لي: إني صديقه الوحيد، وإنني الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يساعده.
إلى النجدة
كيف يضبط الجنرال يوريفتش نفسه من أن يصيح هذه الصيحة بعد أن رأى الأمور تتطور بسرعة، وهو يعرف القاعدة في الحب، وهي أن الجرح السريع أفضل بكثير من العلاج البطيء المفعول، إذن يجب التأثير على الغراندوق، ويجب التأثير على الملكة؛ ولذلك قرر الجنرال أن يتحدث إلى إحدى المقربات من فيكتوريا حتى تراقب مقابلات الحبيبين، وتعمل على إبعادهما عن بعضهما كما سيعمل هو.
وتمكن الرجل في يوم 22 مايو من محادثة البارونة «ل ...» محادثة طويلة، وكانت هذه البارونة هي الوحيدة التي تستأمنها الملكة على أسرارها، وقد اتضح له أن الملكة أسرت إليها بأنها تحب الغراندوق حقا، وأنه أول رجل أحبته في حياتها، كما أنها لا تشعر بالسعادة إلا إذا كانت إلى جانبه، وهي تجده جميلا ظريفا، بل لقد ذهبت الملكة إلى أبعد من ذلك، فصرحت لأمينة سرها أنه لو تقدم الغراندوق يطلب يدها؛ فإنها لن تتردد في القبول.
وبين الجنرال للبارونة ما قد تفضي إليه هذه العلاقة الغرامية من نتائج خطيرة، واتفق معها على أن يعمل هو وهي، كل من ناحيته، على منع وقوع هذه الكارثة.
الحفلة الأخيرة
وكان يوم الفراق يقترب ومظاهر الألم والحزن تبدو على الغراندوق، كما أن الملكة أصيبت بذهول غريب ارتعب له صديقها الكبير اللورد ملبورن، ولكنهما - الملكة والغراندوق - كانا قد أدركا بعد أن هدأت عاطفتهما واستقرت أنه لا يجب أن يفكر الواحد منهما في الآخر؛ إذ يجب أن يسافر هو ليؤدي واجبه لبلاده، كما يجب أن تبقى هي لتؤدي واجبها.
وقد بلغ من حزن الملكة أن صارت لا تسجل في مفكرتها غير تفاصيل مقابلاتهما الأخيرة. وفي يوم 27 مايو أقيمت حفلة الوداع الأخيرة، فكتبت عنها الملكة ما يلي:
لقد كان يوما جميلا بديعا، ومع ذلك لا أعرف لماذا كان أول شعور خالجني، على الرغم من جمال اليوم واخضرار نباته وبهائه، هو شعور الحزن. وقد رأيت الغراندوق وهو يصل إلى القصر في الساعة السابعة والدقيقة 20، وقد أرسل إلي التحية وأنا في نافذتي، ثم تناول الطعام في الساعة الثامنة والدقيقة 15 مع رجال حاشيته.
الغراندوق إسكندر.
وقد ذهبنا بعد العاشرة بقليل إلى الصالون الأحمر، وهو الذي يؤدي إلى حجرة المائدة، وكانت به فرقة موسيقية، وهناك بدأنا الرقص. وقد رقصت أولا مع الغراندوق، ثم عزفت الموسيقى دورا للفالز فبقيت في مكاني، ورقصت بعد ذلك مع المسيو تولستوي، ثم جاء دور الفالز من جديد فلازمت مكاني كما لازمه الغراندوق.
وبعد منتصف الليل بقليل انتقلنا إلى حجرة المائدة للعشاء، وبعد العشاء رقص الجميع المازوركا
1
نحو نصف ساعة. وقد طلب مني الغراندوق أن أشترك فيها بأن أدور بضع خطوات ففعلت، ولم أكن قد جربت ذلك من قبل فوجدته لطيفا. ولما كان الغراندوق خفيف الحركة، فإن زميلته في الرقص تضطر إلى العدو للحاق به، ومن ثم تشعر كأنها تطير كما هو الحال في رقصة الفالز.
ولقد رقصت مع الغراندوق وعبثت معه وضحكت كثيرا، حتى إنني لم أشعر بتسلية مثل التي شعرت بها وأنا إلى جانبه، وقد آويت إلى مخدعي في منتصف الساعة الرابعة صباحا، ولكنني لم أتمكن من النوم إلا إلى الساعة الخامسة!
وكان اليوم التالي يوم الوداع، فقابلت الملكة صديقها اللورد ملبورن مقابلة طويلة، وذكرت الملكة في مفكراتها أنها قالت للوزير: إن جميع أنواع التسلية والاستمتاع تحدث في تأثيرا حسنا.
فأجابها اللورد ملبورن: ولكنك تتألمين فيما بعد! يجب أن تعتني بصحتك حتى لا يصيبك المرض، إنك تشكين من الألم المتزايد ومن المجهود الذي تبذلين؛ ولذلك فإنه سيكون مما يضايقك حقا أن تشعري بعد ذلك بالاشمئزاز وعدم الميل إلى العمل.
فأجابته الملكة مؤكدة: إن هذا ما لا يمكن أن أحتمله لو شعرت به.
فقال لها: إنك تعيشين حياة غير طبعية بالنسبة لسيدة صغيرة السن، إنها معيشة رجل.
وأجابته الملكة بحزن: إنني أشعر بهذا أحيانا.
وتحدثا بعد ذلك قليلا عن الغراندوق.
الوداع
وجاءت ساعة الوداع، فدخلت الملكة إلى المخدع الملاصق لغرفة نومها، وكان اللورد بالمرستون قد أدخل الغراندوق إلى تلك الغرفة واستأذن في الانصراف.
ولما دخلت الملكة أمسك الغراندوق بيدها وضغط عليه بشدة، وكان شاحب الوجه، واضطرب صوته وهو يقول لها: إن الكلمات تخونني إذا أردت أن أعبر لك عن كل ما أشعر به.
وأخذ بعد ذلك يشكرها على العناية التي حبته بها مدة وجوده بإنجلترا، وذكر لها أنه يأمل العودة في يوم من الأيام، كما أكد لها أن ذلك مما يوثق عرى الصداقة بين الدولتين: إنجلترا والروسيا.
وبعد ذلك ضغط على يدها وقبلها، فعانقته الملكة وقبلته على خديه، فقبلها هو الآخر بدوره بشكل ذكرت عنه في مذكراتها أنه ممتلئ بالحرارة والإخلاص والحب.
وارتبطت أيديهما من جديد بعد ذلك.
قال الملكة في مذكراتها:
إن ما شعرت به إذ ذاك كان انتزاعا لصديق، لا رحيل شخص غريب. إنني أشعر بأنني حزينة جدا وأنا أفترق عن هذا العزيز، عن هذا الشاب المحبوب، حتى إنني أفكر في أنني عشقته قليلا، وأنني بالتأكيد قد ارتبطت به ارتباطا وثيقا، فهو على شيء كثير من الصراحة، كما أنه صغير السن، ممتلئ بالمرح، ووجه أبدا مبتسم، ساحر الجمال، تتجلى فيه الرجولة.
أما الغراندوق، فبعد أن انتهى من وداع الملكة ووجد نفسه وحيدا مع الجنرال يوريفتش، ارتمى بين ذراعيه وبكى الاثنان طويلا.
وذكر الغراندوق للجنرال - بعد أن بكى طويلا - أنه لن ينسى هذا الفراق، وأن اللحظة التي قبل فيها الملكة فبادلته قبلته هي أسعد لحظات حياته.
لا شك أن غرام الملكة فيكتوريا والغراندوق إسكندر كان غراما حيا تتجلى فيه عظمة الملكية وذلها أمام سلطان الحب.
الملكة اليصابات واللورد روبرت ددلي
الزواج
اشتهر روبرت ددلي بالشجاعة منذ نعومة أظفاره، ولقد أرسل ذات يوم في مهمة خاصة؛ هي إخضاع الثورة التي تعرف في التاريخ الإنجليزي «ثورة كيت»، وفي طريقه إلى مكان الثورة مر بقصر السير جون روبزارت وحل لديه ضيفا، مع أنه كان لا يعرفه قبل ذلك، ورأى هناك ابنة مضيفه السير روبزارت واسمها «آمي»، فأعجب بجمالها إعجابا عظيما، وصمم على الزواج منها مهما كلفه ذلك.
ولا شك كذلك أن آمي الجميلة قد أعجبت هي الأخرى بجمال الشاب روبرت. كانت لأسرة الشاب شهرة عظيمة في تاريخ إنجلترا تفوق شهرة أسرة السير روبزارت؛ لأن والده وجده قد حوكما بتهمة الخيانة العظمى، كذلك سمعت الفتاة أن الشاب روبرت كان صديقا وزميلا للأميرة إليزابيث منذ صغرها، وكانت إنجلترا بأجمعها قد بدأت تهتم بهذه الأميرة وتتبع أخبارها. وأخذ والد الفتاة السير جون روبزارت يقوم بتحريات دقيقة تتعلق بالشاب الذي تقدم إليه يطلب يد ابنته للزواج، وكانت آمي سترث ثروة عظيمة؛ إذ لم يكن لوالدها غيرها وغير ابن آخر اسمه أرثر روبزارت. وكانت والدة آمي أرملة حين تزوجت السير جون روبزارت؛ ولذلك كان لآمي أخوان وأختان من أمها يحملون جميعا لقب أبليارد.
ولما تأكد السير جون أن صلة الحب بين ابنته وبين الشاب روبرت ددلي قد أصبحت وثيقة، وأنها يتمنيان الزواج، زوجهما بحضور الملك إدوارد الخامس في حفلة باهرة، وكان سن الزوجة إذ ذاك ثمانية عشرة عاما، أما الزوج فكان يكبرها بعام واحد.
اشتهر العهد الذي حدثت فيه هذه الواقعة بالقسوة الشديدة، ولم تكن القسوة هي قسوة الإنسان على الحيوان، بل كانت قسوة الإنسان على أخيه الإنسان! كان من السهل إذ ذاك أن يستأجر المرء قاتلا ليخلصه من عدوه، كما كان كل المتصلين بالبلاط يخشون السم، حتى إن الناس كان يحذر بعضهم بعضا من تناول أي شراب لم تعده يد يثق بها وبإخلاصها، وكلما علا مركز الشخص كلما ازداد الخطر على حياته.
وعندما تزوجت آمي من روبرت ددلي الجميل، لم يكن أحدهما يخشى الموت الفجائي؛ إذ على الرغم من سمو مركزهما وصغر سنهما لم يكن هناك من يكن لهما شيئا من العداء أو الحسد. ولما كان السير جون روبزارت يظهر الحب لابنته، فقد منحها هي وزوجها قصره في سيدرستون.
بين أحضان السعادة
أخذ الزمن يمر تباعا، وكانت آمي تزداد جمالا، وكانت تفوق زميلاتها الجميلات المتأنقات في العناية بالملبس. وكانت العناية العظيمة بالملبس، سواء أكانت ملابس الرجال أم النساء، شيئا عاديا في ذلك العهد، كما لم يكن غريبا أن تحلي المرأة ملابسها بالأحجار الكريمة واللآلئ. وكانت اللادي روبزارت ددلي تصرف مقدارا عظيما من المال سنويا على ملابسها دون أن يؤثر ذلك في ماليتها، وما لبث والدها أن توفي فورثت عنه مالا وفيرا، وأصبحت أغنى مما كانت بكثير.
على أن شيئا واحدا كان يسبب لها الحزن والألم في حياتها، وذلك هو إخفاقها في الحصول على البنين، وكان زوجها يشاركها في ألمها ورغبتها العظيمة في الحصول على ولد.
كان من العبث في ذلك الوقت أن يحاول الإنسان أن يحيا حياة هادئة ساكنة حتى إذا كان سعيد الحظ مثل آمي روبزرات؛ ولذلك لم يمض على زواجها أكثر من ثلاثة أعوام حتى زج بزوجها روبرت ددلي في السجن متهما بالاشتراك في تدبير ثورة ضد الملك. ومع أن سن زوجته آمي كان إذ ذاك لا يزيد على واحد وعشرين عاما، إلا أنها برهنت على شجاعة فائقة ومهارة؛ فقد أدرات أعمال زوجها بنفسها، وأسرعت إلى لندن حيث تمكنت من أن تحصل على إذن بمقابلته في السجن بعد أن صادفتها صعوبات جمة.
وتابعت مساعيها حتى أفرج عن زوجها، وعاد الزوجان عقب ذلك إلى الريف حيث عاشا معيشة بذخ وحب متبادل.
اليصابات
وفي السابع عشر من شهر نوفمبر 1558، ارتقت إليزابيث العرش الإنجليزي، وقد خلد هذا اليوم على وجه التاريخ، وبمجرد أن صارت ملكة أظهرت العطف والود لصديق طفولتها وزميلها في ألعابها روبرت ددلي، فأنعمت عليه في بادئ الأمر بلقب فارس، ثم ما لبثت أن أنعمت عليه بنيشان ربطة الساق. وأخذت آمي روبزارت إذ ذاك تلاحظ على زوجها «انشغاله في مهام خطيرة ملقاة على عاتقه تسبب له هما كثيرا»، كما عبرت هي بنفسها عن تلك المشاغل. وقد اتضح أن الملكة إليزابيث لا تكاد تتركه يغادر أنظارها. وما لبث اهتمام جلالتها بهذا الشاب الذي كان أجمل شبان القصر شكلا، وأذكاهم عقلا، وأصغرهم سنا، أن أخذ يلفت أنظار السفراء الأجانب، ويثير غضب النبلاء التابعين للملكة.
أقاويل وإشاعات
وقد سر السفراء الأجانب إذ وجدوا شيئا مثيرا للاهتمام يمكنهم أن يفصلوا خبره في رسائلهم إلى حكوماتهم، وكان أكثر هؤلاء السفراء الأجانب اهتماما بهذه المسألة وتتبعا لتفاصيلها ودقائقها هو السفير الإسباني، واسمه كودرا.
كانت الكلفة مرفوعة بين الملكة وروبرت حتى أمام الجموع المحتشدة؛ ولذا بدأ الموجودون بالقصر يستغربون ما يشهدون ويشمئزون منه، وأخذ الناس يتهامسون إذ ذاك فيقولون: إنه لو تمكن اللورد روبرت ددلي من التخلص من زوجته، فربما أمكنه الوصول إلى مركز الملك أو نائب الملك.
وكان كودرا السفير الإسباني يسيء الظن باللورد روبرت ددلي إلى أبعد حد، حتى لقد وصفه فقال عنه في رسائله إلى حكومته: «هو أسوأ شاب قابلته في حياتي، فهو بلا قلب ولا روح، كله خيانة وقسوة. وهو يزداد في طغيانه يوما بعد يوم، ويقولون اليوم إنه ينوي أن يطلق زوجته.»
ولما بلغت هذه الإشاعة آذان شقيق آمي؛ أرسل إلى أحد أصدقائه يقول له: «يجب أن يقلع اللورد روبرت عن نواياه هذه بخصوص طلاق شقيقتي، وإلا فإنه لن يموت الميتة الطبيعية.»
وبدأت الإشاعات تنتشر في المملكة حتى لقد قبض على امرأة وأرسلت إلى السجن؛ لأنها سمعت تتحدث فتقول: إن للملكة ولدا من اللورد روبرت ددلي.
وإذ ذاك هدد السياسي الكبير، سيسيل، الملكة بالاستقالة إذا استمرت على إظهار الميل لروبرت ددلي بهذا الشكل الفاضح، الذي جعل البلاد كلها تتحدث عن علاقته بها، ومع أن أحدا لم يتمكن من أن يذكر كلمة من هذا في حضرة الملكة، إلا أن الناس في خارج القصر كانوا يتحدثون بصراحة فيقولون إن روبرت ليس هو فقط السيد الآمر في شئون الدولة، بل هو صاحب السلطان على شخص الملكة. وقد صارح سيسيل، السياسي الكبير، سفير إسبانيا فقال له إنه لا يشك في أن الملكة وعشيقها يفكران في القضاء على حياة زوجة روبرت؛ آمي روبزارت. كما راجت إشاعة بأن النية معقودة على التخلص من اللورد روبرت ددلي بواسطة السم. ولم تتردد شقيقة روبرت نفسه في أن تخبر كودرا، السفير الإسباني، بأن السم سيقدم للملكة ولعشيقها مدسوسا في الطعام في وليمة خاصة تقام لهما، فكتب هذا السفير يقول:
يمكن أن يتنبأ المرء بسهولة بأن اللورد روبرت ددلي هو الملك المقبل، ولكن يخطئ من يظن أن الشعب الإنجليزي سيوافق على ذلك بسهولة، أو أنه سيشاهد ذلك وهو مكتوف اليدين؛ إذ ليس هناك رجل أو امرأة يمر بالملكة وباللورد روبرت إلا ويقابلهما بصيحات الازدراء والاستنكار. وأخذت المسألة تزداد سوءا حتى امتنع اللورد روبرت نهائيا عن الذهاب إلى نورفولك؛ حيث كانت زوجته تعيش وحدها شقية بائسة بعد أن أهملها.
في قصر كمنور
وفي صيف عام 1560، وكان قد مضى على إليزابيث عامان وهي تحكم البلاد، أرسل اللورد روبرت ددلي إلى زوجته يخبرها أنه يرغب منها أن تنتقل إلى قصر كمنور، وهو قصر جميل بالريف بناحية أكسفورد. والظاهر أن آمي روبزارت ذهبت إلى هناك دون أن تساورها ريبة ما، وشعرت بشيء من الرضا والسرور حين رأت جمال قصر كمنور، وعرفت أنه يفضل بكثير قصر نورفولك حيث كانت تعيش من قبل. وقد كان قصر كمنور على الأقل أقرب إلى لندن من أي قصر آخر.
كان القصر جميلا جدا، اشتهر بحدائقه الغناء، والبرك المعدة لصيد الأسماك فيه، وكان ملكا لطبيب الملكة الخاص، واسمه أوين، حتى اشتراه منه أحد أتباع روبرت ددلي.
الموت
لما كانت آمي روبزرات امرأة غنية بثروتها الخاصة، فقد عاشت في قصر كمنور معيشة مترفة، وكان لديها الكثير من الخدم والحشم، بينهم من يكن لها إخلاصا عظيما، ولكن إلى جانب هؤلاء كان هناك بعض العيون والأرصاد الذين وضعهم زوجها روبرت في خدمتها لتنفيذ أغراضه، ومن بينهم فورستر وفوني - وقد اشتهرا بدناءتهما ونذالتهما - وكانت بين التابعات زوجة أوين، وسيدة أخرى تدعى أدو ينجسلز، هي في الواقع خليلة فورستر.
بعد ذلك بمدة قصيرة بدأ القلق الشديد يستحوذ على آمي روبزارت؛ إذ سمعت تفاصيل كثيرة عن علاقة زوجها بالملكة، ويقال إن شخصا ما صارحها بأنها العقبة الوحيدة في سبيل وصول زوجها روبرت ددلي إلى مركز ملك إنجلترا، وبدأ الحزن العميق يدب إلى قلبها حتى امتنعت نهائيا عن مقابلة زوجها.
وفي شهر سبتمبر من نفس ذلك العام 1560، أخبرت الملكة أحد السفراء الأجانب أن زوجة اللورد روبرت تعاني أشد آلام المرض، إن لم تكن قد ماتت. مع أن المسكينة كانت في الحقيقة لا تزال ممتعة بتمام صحتها. وأرسل ذلك السفير الخبر إلى حكومته بعد أن علق عليه بقوله: إنه لا يظن أنه في حالة وفاة زوجة اللورد روبرت تقدم الملكة على الزواج من هذا اللورد .
وحدث بعد أربعة أيام من اليوم الذي ذكرت فيه الملكة للسفير الأجنبي أن زوجة اللورد روبرت مريضة جدا، أن كانت الزوجة المسكينة ملقاة في قصر كمنور وقد صعدت روحها إلى خالقها حقا، تشكو إليه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
كانت آمي روبزارت في يوم موتها بالذات قد سمحت لكل الخدم بالخروج، على أن بعضهم ظل معها، وتناولت السيدة أوين معها طعام الغداء، ولم يعرف أحد البتة ما حدث بعد ذلك، على أن الخدم بعد عودتهم من السوق وجدوا أن سيدتهم قد قضت نحبها بسقوطها من أعلى السلم، وقيل لهم إن قدمها زلت فوقعت برأسها على الأرض وماتت.
وبعد ثلاثة أيام كانت الأخبار قد انتشرت في كل قرية من قرى إنجلترا، وأخذ الناس يتناقشون في الحادث، وكذبوا - بسخرية قاسية - نظرية وفاة آمي روبزارت بحادث فجائي لم يكن متوقعا، واتهموا روبرت ددلي علنا بأنه المحرض على موت زوجته.
الملكة اليصابات.
وفي اليوم التالي لموت آمي كان زوجها روبرت ددلي في خدمة الملكة بقصر وندسور حين أخبروه أن خادما يدعى «بويز» حضر من قصره الخاص، وأنه يرغب في مقابلته في الحال في أمر عظيم الأهمية.
وغادر الرجل الملكة في الحال، وسمع نبأ موت زوجته من الرسول فلم يعبر عن رعبه وحزنه فقط لدى سماعه الخبر، ولكنه صرح لمن حوله بأنه على ثقة من أن موتها قد دبر تدبيرا، وأنه سيتهم بالاشتراك في ذلك التدبير.
التحقيق
وظن جميع من بالقصر أنه سيذهب في الحال إلى قصر كمنور حيث ماتت زوجته، ولكنه بدلا من ذلك أخذ يبعث الرسل تباعا إلى أهلها وأقاربها في نورفولك، وكتب خطابا لصديق من أصدقائه يدعى توماس بلونت، طلب منه فيه أن يقوم بالتحقيق في موت زوجته، ورجاه أن يسرع إلى قصر كمنور ويختار عددا من أنزه القضاة وأمهرهم للقيام بالتحقيق الدقيق في سبب وفاة آمي روبزارت، وأمر كذلك أن تعرض الجثة على المحققين لفحصها.
وطلب من صديقه هذا أن يضع له تقريرا مفصلا يقرر فيه إذا كان السبب في الوفاة هو الصدفة السيئة، أم أنه تدبير أثيم مجرم؟! ومهر الخطاب بتوقيع «صديقك المحب المضطرب»، ثم كتب حاشية بأنه طلب من أحد إخوان زوجته من أعضاء أسرة أبيلارد أن يشترك في التحقيق.
من المستحيل الجزم بما إذا كان روبرت ددلي قد كتب هذا الخطاب عن إخلاص وأمانة، أو أنه كان يود أن يفهم صديقه ما تنطوي عليه كلمات الخطاب من معان مختلفة، ومهما يكن فإن الصديق بلونت بدلا من أن يذهب توا إلى قطر كمنور حط رحاله في فندق بقرية صغيرة حتى يسمع ما يقوله عامة الناس عن الوفاة وأسبابها، وبمجرد وصوله دخل مشرب قهوة وأخذ يستمع لما يقول الموجودون بالمشرب، ولكنهم لم يتحدثوا في هذه المسألة إلا قليلا، حتى صاحب المشرب صرح له بأن البعض يتحدثون بالخير عن روبرت، بينما غيرهم يتحدثون بالشر.
وعاد بلونت بعد ذلك إلى قصر كمنور بعد أن فشل في التقاط خبر من أفواه العامة، ومن هناك حرر خطابا طويلا لروبرت ددلي لم يحو إلا القليل من التفاصيل عن وفاة آمي روبزارت. وقد ورد فيه صلة الخادم فورستر بهذه المأساة للمرة الأولى. والغالب أن فورستر هو الذي قتل آمي روبزارت؛ إذ إنه كان صنيعة لروبرت.
ولقد أعدمت الأوراق الخاصة بالتحقيق فيما بعد، ولكن على الرغم من هذا ظل بعض المحققين يعتقدون اعتقادا جازما بأن فورستر هو القاتل. وقد أعلن أبيلارد فيما بعد أن فورستر قد قتل آمي بتحريض زوجها. وسواء أكان فورستر قد ارتكب الجريمة تلبية لرغبات «روبرت ددلي» أم رغبات الملكة؛ فإنهما أسبغا عليه كثيرا من النعم بعد ارتكابها.
وبعد انتهاء التحقيق دفنت جثة آمي روبزارت بهدوء عند كنيسة كمنور، ولكنهم ما لبثوا أن أعادوا دفنها في أكسفورد باحتفال فخم.
حول زواج الملكة
وفي نفس الوقت كانت كل إنجلترا قد بدأت تتهامس احتجاجا على الملكة وعلى روبرت ددلي، وأخذت الشكوك والريب تتزايد لدى الناس حتى لم يصبح لديهم شك في أن آمي المسكينة زوجة اللورد ددلي قد ماتت مقتولة.
ومع أن الملكة سرت لأن حبيبها قد تخلص نهائيا من أسر الزواج، إلا أن القلق أخذ يتناوبها من جراء الإشاعات التي انتشرت بعد مقتل آمي روبزارت؛ ولذا لم يسعها إلا أن ترسل في استدعاء السفراء الأجانب، وأعلنت لهم في ابتسام أنها لم تعد تفكر بالمرة في الزواج من رجل إنجليزي، ولكنها تنوي أن تختار زوجا من الأمراء الأجانب حتى يصير ملكا أو نائب ملك! ولكن لم يصدق أي واحد من السفراء كلامها، وعرفوا جميعا ما وراءه من خداع، وكتبوا إلى حكوماتهم يقولون: إن أخبار زواج الملكة من روبرت ددلي ستعلن بعد وقت قصير!
وأخذ النفعيون وعباد المصالح الشخصية يتصلون بروبرت ددلي؛ نظرا لنفوذه، وأخذ يتلقى رسائل العزاء المتتابعة في وفاة زوجته، وكان بينها رسالة مؤثرة من السفير الإنجليزي في باريز، الذي أرسل في نفس الوقت إلى السياسي سيسيل رسالة أخرى يلح عليه فيها أن يمنع زواج الملكة ب «ددلي»، وقال في خطابه: «إنه لو تم الزواج لقلت الثقة في حكمنا، وزال نفوذنا، ورحنا ضحية.» ولم يكتف بذلك، بل كتب خطابا آخر إلى صديقه السفير الإنجليزي بإسبانيا يقول فيه: «إنه إذا كانت إنجلترا تعتقد أن عنق آمي روبزارت قد دق صدفة، وأنها ماتت ميتة طبيعية، فإن فرنسا تعتقد أن آمي روبزارت قد ماتت قتيلة في سبيل الملكة.» ولكنه مع ذلك لم يذكر في خطابه ما كان يتناقله الناس في البلاط الفرنسي بلهجة التأكيد؛ وهو أن الملكة قد تزوجت سرا من اللورد روبرت ددلي عقب وفاة آمي روبزارت.
وقد حدث إذ ذاك أن قابل السير هنري سيدني، وهو شقيق آمي روبزارت، السفير الإسباني كودرا، وأخبره في حديث خاص أنه تأكد تماما أن شقيقته آمي قد ماتت ميتة طبيعية، وأن الملكة واللورد روبرت قد أصبحا الآن محبين يرغبان في زواج شرعي أمين، وأعلن له أنه حقق المسألة كلها بنفسه، وأحاط بظروف وفاة اللادي روبرت، فتأكد أنها ماتت بتأثير سقوطها من أعلى السلم.
وقد رد كودرا، السفير الإسباني، على ذلك بقوله: إن كل ذلك قد يكون صحيحا، على أن اللورد روبرت سيجد صعوبة عظيمة حتى يحمل الناس على تصديق ذلك، وأن آمي روبزارت لو كانت ماتت مقتولة حقا فلا شك أن الله سينزل عقابا رادعا بمدبري الجريمة. وهنا تحول السير هنري سيدني عن موضوع الحديث بحماقة غريبة، فصارح السفير الإسباني بأن الملكة إليزابيث على استعداد لأن تعيد نشر المذهب الكاثوليكي في إنجلترا لو أن ملك إسبانيا يساعدها على تحقيق رغبتها في الزواج من روبرت ددلي.
وتقدم روبرت ددلي نفسه إلى السفير الإسباني بنفس هذا العرض، وكان ذلك بعد أربعة شهور فقط من وفاة زوجته. وبعد يومين، استدعت الملكة السفير الإسباني إليها، وبدأت حديثها معه بقولها: إنها على الرغم من معرفتها لما يتميز به اللورد روبرت من الصفات الجليلة والفضائل، إلا أنها لم تقرر بعد الزواج منه أو من أي رجل آخر، ولكنها مع ذلك تشعر كل يوم بحاجتها إلى زوج مخلص يعاونها في أداء مهمتها الكبرى، وهي تظن أن شعبها يفضل أن تتزوج مليكته من رجل إنجليزي، على الرغم من أن عروض الزواج من أجانب كانت عديدة أمام أنظارها.
ووجد السفير الإسباني الفرصة سانحة لكي تستفيد إسبانيا من رغبة الملكة في الزواج لإعادة المذهب الكاثوليكي إلى إنجلترا، فانتهز خلوته مع الملكة وعشيقها وقال لها: إنه يستغرب لماذا لا تنزع جلالتها عن نفسها نير من يعترض طريقها، وتعيد الدين الحنيف إلى البلاد، وتتزوج بعد ذلك بمن تريد ويشتهي قلبها.
ولكن لم ينفذ شيء من هذه النصيحة، واستمرت الملكة على غرامها بروبرت، وبعد أن كان روبرت يعيش في القصر في غرف بعيدة جدا عن غرفها، أمرته في يوم من الأيام أن ينتقل إلى غرف تقع فوق غرفها تماما؛ بحجة أن غرفه غير صحية، والحقيقة أنها كانت تريده على مقربة منها.
شهوة الانتقام
وتتابعت الأسابيع والشهور والأعوام، وأخذت النعم تنهال من جانب الملكة على لورد ليستر، ولكنها مع ذلك لم تتزوج منه لكي تصل به إلى مركز يقارب مركز الملك الشرعي، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يزداد في طغيانه، ومع أنه كان مسرورا بنفوذه العظيم وجاهه، إلا أنه كان يرغب في الانتقام من كل من يظن أنه قد سبب له الأذى في الماضي أو ناصبه العداء.
وأخذ ينقب عن أشخاص ينتقم منهم حتى أنزل الرعب بقلوب من بالقصر، ولم يكن أحدهم يجرؤ على انتقاد تصرفاته جهرا، ولكنهم كانوا يمعنون في نقده إذا كان غائبا عن مجلسهم، حتى قال أحد القضاة الإنجليز إذ ذاك: «لو أنني أمرت بسجن كل من يتحدث بشر عن لورد ليستر؛ لوجب أن يكون عدد سجون إنجلترا موازيا لعدد المنازل المعدة للسكنى.»
وكان للورد ليستر معرفة تامة بأنواع السموم، ويرجح أنه هو قاتل السفير تروكمورتون - وكان تروكمورتون هو السفير الذي كتب له خطاب عزاء مؤثر عند وفاة زوجته آمي، ولكنه حرر في نفس الوقت خطابين آخرين إلى السياسي سيسيل، وإلى سفير إنجلترا في إسبانيا يعترض فيهما على زواجه من الملكة - ولقد توفي هذا السفير بعد أن تناول طعام الغداء مع اللورد روبرت، ولما عاد إلى منزله شعر بآلام داخلية حادة؛ فاستدعى أهل منزله وأعلن إليهم أنه يرجح أن الرجل الذي تناول معه الطعام في ذلك اليوم قد دس له السم، ووصفه لهم بأنه أكثر الرجال شرا وخطرا.
النساء
وقد أخذ كثيرون ينتظرون وفاة اللورد روبرت حتى يذكروا رأيهم فيه بصراحة. وبدأ هو بعد ذلك يشغل بالنساء، وكان يوفق في الحصول على أجملهن دون مجهود كبير، كما كان مركزه السامي يذلل العقبات التي تعترض رغباته. وكثيرا ما راح بعض الأزواج ضحايا لنزواته، فأحب اللورد روبرت زوجاتهن، ووفق في الحصول عليهن، وكانت سلطته قد تضخمت تضخما عظيما، كما أنه سئم الملكة وتسويفها الزواج منه وخداعها له؛ ولذلك تزوج سرا بسيدة تدعى لتيس ديفيرو، ووشي به أحد أعدائه فحمل الخبر إلى الملكة، التي اشتد غضبها حين سمعت به حتى هددت بإرساله إلى السجن، ولكنها قنعت أخيرا بطرد السيدة لتيس من القصر.
دولة ليستر
ولم تكن الأقدار غافلة عن الملكة وحبيبها، فبعد أربعة وعشرين عاما من وفاة آمي روبزارت طبعت في بلجيكا رسالة عنوانها : «دولة ليستر» كان ملؤها المطاعن والمثالب، ويقال: إن كاتبها كان كاهنا فرنسيا، وإنه كتبها بتحريض السياسي سيسيل، وكانت مقدمة الرسالة هذه الجملة فقط: «ستكشف السماء عن فجوره وتثور الأرض ضده.»
وتمكنت بعض نسخ هذه الرسالة من الوصول سرا إلى إنجلترا حيث قرئت باهتمام عظيم، حتى اضطرت الملكة إلى أن تصدر منشورا تستنكر فيه كل ما ورد في الرسالة، وتعلن امتلاءها بالكذب والبهتان. ومع أن شواطئ إنجلترا كلها روقبت بدقة إلا أن الرسالة كانت تنتشر باستمرار، وما لبثت أن ذاعت في البلاد، وأخذ الناس ينقلونها بخط أيديهم، ولا تزال بعض هذه النسخ الخطية باقية إلى اليوم.
كانت الرسالة قوية جدا في حملتها على ليستر، فلم يوصف فيها بأنه شخص كله خداع وخيانة وكذب وفجور وجبن وكفر فقط، بل اتهم صراحة بأنه قاتل زوجته.
وقد فصل الكاتب المجهول قصة وفاة آمي؛ فذكر أن ليستر كان يريد في أول الأمر أن يدس لها السم بإغراء فوني خادمه على تنفيذ الخطة الموضوعة، وقد طلب مساعدة الطبيب تيلي في ذلك، ولكن الطبيب رفض الاشتراك في مثل هذه الجريمة المروعة. وأخيرا ترك ليستر طريقة تنفيذ القتل لحنكة القاتل.
وذكر كاتب آخر أن آمي قد خنقت في فراشها أولا ثم ألقيت بعد ذلك من أعلى السلم فدق عنقها؛ حتى يعتقد الناس بأن موتها كان من جراء عثرة قدمها وسقوطها من أعلى السلم.
ورد أحد أقارب ليستر على رسالة «دولة ليستر» يدافع عن ليستر، ولكن رده لم يحدث أثرا حتى إنه لما أعيد طبع «دولة ليستر» بعد مائة عام من صدورها لقيت رواجا كبيرا.
وقد خلد الروائي الإنجليزي المشهور السير ولتر سكوت صورة آمي روبزارت في روايته «كنيلورث» لملايين القراء، وتناقل عنه الكتاب الأجانب بعد ذلك هذه الصورة، وجعلوها بطلة من أبطال كثير من القصص في فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
كليوباترا ومارك أنطوني
مع يوليوس قيصر
وصلت كليوباترا إلى العرش بوساطة مؤامرة دبرتها ضد شقيقها الذي كان شريكها في العرش تبعا للتقاليد القديمة، وكانت سنه إبان حكمهما المشترك إحدى عشرة سنة، وسنها ثمانية عشر عاما، وكانا يحكمان مصر على اعتبار أنها مستعمرة رومانية، واستمر حكمهما المشترك ثلاثة أعوام، ثم حدث أن تخاصما لسبب قد تكون الغيرة هي الباعث الأكبر عليه. وكان من نتائج خصامهما أن شبت الحرب الأهلية بمصر، تلك الحرب التي كانت سببا في اتصال كليوباترا بحبيبها الأول يوليوس قيصر.
وهناك فك اللفة فخرجت الملكة منها تبتسم.
كان يوليوس قيصر هو سيد العالم في ذلك الوقت، وكان قد انتهى من نزاعه مع بومبي، وكان محور النزاع هو الإمبراطورية الرومانية، وخرج يوليوس قيصر منتصرا من هذا النزاع، وعاد إلى روما، ولكنه ما لبث أن سمع بحدوث ثورة في مصر أشعلتها قوات بومبي، فأسرع إلى مصر. وأسرعت كليوباترا إلى مقابلة قيصر؛ لأنها عرفت أنه أقوى حليف يمكن أن تعتمد عليه في نزاعها مع شقيقها.
كان قيصر بالإسكندرية، وكانت كليوباترا وجيشها في معزل عنه؛ إذ حرم عليها الانتقال، فكيف تصل إلى قيصر؟ أخيرا رأت أن تكلف خادمها أبلدورس أن يحزمها في لفة كبيرة ويحملها في قارب إلى الشاطئ! وهكذا تم. وحمل أبلدورس اللفة على ظهره، وأخذ يسعى حتى تمكن من المثول بحضرة قيصر وهو يحمل هديته، وهناك فك اللفة ونزلت الملكة تبتسم. وكم أعجب القيصر بذكاء كليوباترا لهذه الفكرة!
كانت سن قيصر إذ ذاك خمسة وأربعين عاما، وسن كليوباترا واحدا وعشرين عاما، ولكن هذا الفرق لم يمنع من توثق العلاقة بين الاثنين. كان قيصر رجلا قويا وجنديا شجاعا، كذلك ظهرت له هي مخلوقا ناعما لطيفا كفيلا بأن ينسيه متاعب الحروب؛ إذ كانت صغيرة الجسم، ظريفة الشكل، سوداء العينين والشعر.
ليس من المستغرب بعد ذلك أن يصغي قيصر إلى مشاريع ملكة مصر الصغيرة التي ملكت لبه بسحر جمالها أولا، ورقة حديثها ثانيا.
كان للشئون السياسية دخل كبير فيما نشأ بينهما من حب، فإذا كانت كليوباترا قد سعت لأن تعقد محالفة مع قيصر لصالحها وصالح مصر، فقد سعى هو أيضا لأن يحكم مصر حكما قويا بوساطة كليوباترا. ومع ذلك يقال: إن قوة الحب الأول تجلت في غرام كليوباترا بقيصر، ذلك الغرام الذي أنساها الشئون السياسية كلها. ولقد قضيا معا أوقاتا هنيئة، وكانت الحياة بقصر الإسكندرية سلسلة متصلة من السعادة، وعلى الرغم من مئات المهام التي كانت تثقل كاهل قيصر وتدفعه إلى السفر والرحيل عن مصر، وليس أقلها شأنا وجود زوجته في روما، على الرغم من ذلك دفعه جمال كليوباترا وسحرها إلى البقاء بمصر، مع أنه كان قد أنهى إخضاع المملكة، ولم يبق أي سبب يدفعه إلى البقاء. مع ذلك ظل بمصر مدة عام كامل، وقبل أن يرحل ولد لكليوباترا منه طفل صغير دعي «قيصرون»؛ أي قيصر الصغير.
قيصرون
ومنذ ولد ذلك الطفل أصبح هو المحور الأساسي الذي تدور عليه آمالها وتصرفاتها حتى نهاية حياتها، وأخذ تأثير يوليوس قيصر عليها في الزوال. لم يلبث قيصر أن أصبح حدثا قديما من حوادث الماضي، وأخذت تستعمل جمالها وذكاءها وقوتها وحيلها في تحقيق أطماعها؛ وهي أطماع الأم التي ترغب في أن يصل ابنها إلى مركزه الحقيقي الجدير به، فهو ابن يوليوس قيصر؛ ولذلك يجب أن يرثه في التربع على عرش العالم.
والظاهر أن حب قيصر نفسه لكليوباترا بعد ولادة «قيصرون» قد نقص؛ إذ كان هو رجلا عمليا وكانت كليوباترا واحدة من خليلاته العديدات، وكان قد عاد إلى روما ليحمل الناس على قبول دكتاتوريته الجديدة. واستدعى كليوباترا إلى روما بعد ذلك لتشاركه مركزه الرفيع، مفضلا إياها على زوجته الشرعية كالبورنيا، إلا أن وجود كليوباترا بروما سبب فضيحة كبرى؛ إذ ما كان الرأي العام الروماني ليوافق على الزواج الذي قيل إنه تم بمصر.
وكانت كالبورنيا زوج قيصر الأولى من الطبقة العليا، ولها أصدقاء أقوياء النفوذ؛ ولذا عاشت كليوباترا بروما معيشة خليلة للقيصر قليلة الأهمية في منزل يطل على ضفاف التيبر، ولقد احتملت ذل تلك الحياة من أجل ابنها فقط، ولبثت تنتظر انتصار قيصر على أعدائه. ولو تم له ذلك لأصبحت هي ملكة العالم، ولصار قيصرون وارثا لمملكة لم ير التاريخ مثلها من قبل.
ولكنه لم ينتصر! فلقد سببت قوات قيصر حسدا عظيما بين القوات الأخرى، وأوجدت له أطماعه أعداء كثيري العدد، وانتهى الأمر بأن طعن في يوم من أيام شهر مارس أثناء ذهابه إلى مجلس الشيوخ طعنة قاتلة أردته في الحال.
وهكذا انتهت أحلام كليوباترا، وعادت إلى مصر تحمل ذكريات كثيرة عظيمة التأثير، وعادت تحمل بين ذراعيها وارثا قويا للأملاك الرومانية؛ هو قيصرون، ابن يوليوس قيصر. مات الوالد، إذن فليحي الابن وليحتل مركز أبيه! وهكذا ظلت الأم تنتظر سنوح الفرصة لتحقق هذا الأمل.
مارك أنطوني
كان مارك أنطوني أعظم أصدقاء يوليوس قيصر، فلما قتل قيصر أعلن أنطوني أنه سينتقم له من القتلة وفي مقدمتهم بروتس، ولما انتصر عليهم أصبح هو، كما كان يوليوس من قبله، أعظم شخص في العالم، وكان عدوه الوحيد هو أوكتافيوس ابن أخي يوليوس قيصر ووارثه الشرعي، ولكنه ما لبث أن انتصر عليه.
ولما وصل مارك أنطوني إلى تلك المكانة العليا؛ صار واجبا على كليوباترا أن تعمل على نيل رضائه من أجل مصالحها ومصالح ابنها وأطماعها العتيدة الخالدة.
ولم يكونا، أنطوني وكليوباترا، غريبين عن بعضهما؛ إذ كانا قد تقابلا في روما حيث كانت كليوباترا ملكة لا عرش لها، تقطن بالمنزل المطل على ضفاف التيبر، وكان أنطوني يزورها كثيرا في ذلك المنزل بصفته من أصدقاء قيصر وأخصائه؛ ولذا كانت كليوباترا حين وصل أنطوني إلى أوج العظمة تعرف جيدا الرجل الذي تعامله، ولا شك أنها سرت لأنها ستعامل مارك أنطوني؛ إذ كانت تعرف أنه من السهل أن يقع فريسة لمثل جمالها.
إن شخصية مارك أنطوني الحقيقية لم تكن كما رسمها «شكسبير» في روايته «يوليوس قيصر»، بل كان أنطوني أشبه بالتلميذ الحدث كما قال عنه ربيان: «هو كالولد العظيم حقيق به أن يفتح العالم، ولكنه غير قادر على مقاومة أضعف امرأة.» وكان جميل الشكل، قوي الجسم، يعبده جنوده، ويحسده أعداؤه، وتعشقه النساء، كما كان بسيطا صريحا طيب القلب، بحيث تعرف كليوباترا كيف تؤثر على عواطفه؟
ولهذا استعدت لكي تمر في طريقه. كانت تطمع في عرش روما لابنها، وكانت على استعداد لأن تقدم لأنطوني مقابل ذلك جمالها وملك مصر؛ ولذا لما وصل أنطوني بجنده إلى طرسيس أقلعت كليوباترا من الإسكندرية في عرض البحر الأبيض وهي في أبهى حلل الجمال والإغراء.
ذهبت إليه في موكبها الملكي في القوارب ذات الشراع الحريرية، والمجاديف المطعمة بالفضة، والعبيد من نساء ورجال يحيطون بها، وكان الموسيقيون يعزفون على آلاتهم، والعود برائحته الجميلة يحترق أمام الملكة البديعة الجمال.
كانت كليوباترا قد قصدت أن تعرض هذه الأبهة. ورسا الموكب الملكي بطرسيس حين أوشك المساء أن يرخي سدوله. وفي اللحظة التي رسا فيها الموكب خرج أنطوني ليقابل ما هيأ له القدر، واستقبلته كليوباترا بترحاب عظيم، ودعته إلى مآدبها الفاخرة، فأكلا في الأطباق الذهبية المطعمة بالأحجار الكريمة.
ولما عاد الضيوف إلى أعلى السفينة اشتد إعجابهم حين تذوقوا طعم الخمر المصري، ورأوا المصابيح التي كانت تلقي عليهم أنوارها من بين فروع الأشجار متكاثفة فوق رءوسهم، وتمتعوا فوق ذلك بالحديث الطلي الذي كانت توجهه إليهم الملكة الصغيرة، وظلوا في سمر وسرور حتى نضب الخمر في الأباريق، وانطفأ الضوء في المصابيح.
لهو الإسكندرية
انغمس أنطوني في اللهو والعبث بالإسكندرية.
وفي اليوم التالي تمكنت كليوباترا من أن تحصل من مارك أنطوني على كل ما كانت تريد، وانتهت من الاتفاقيات السياسية التي كنت ترغب في إبرامها مع روما، وعادت إلى مصر تحمل وعدا من أنطوني بأن يزورها في مصر، ووفى أنطوني بوعده وزارها في مصر سنة 41ق.م. وهو على علم بالثمن الذي سيدفعه لهذه الزيارة؛ إذ أصبح أسيرا في قبضة امرأة جميلة كما كان يوليوس قيصر من قبله.
وانغمس أنطوني في اللهو والعبث بالإسكندرية، وسلم نفسه لشيطان السرور الذي كان مستوليا إذ ذاك على «باريز القديمة». كانت حواسه قد خدعت بكل مظاهر الأبهة والعظمة التي أحاطته بها كليوباترا، فكانا يخرجان للصيد والنزهة في البحيرات معا، ويسيران في حدائق القصر جنبا إلى جنب، وكثيرا ما كانت تقف لتراقب ألعابه وقوته، كما استمرت المآدب الفخمة، ونمت بينهما علاقة حب متينة، وكان كل منهما يرغب في الآخر رغبة قوية؛ حتى إن كليوباترا سلمت نفسها إليه كأية امرأة عادية دون أي اعتبار لمركزها العظيم.
وأودعت كليوباترا في أنطوني تلك الآمال التي كانت أودعتها في الماضي في يوليوس، وأصبح كل أملها أن يصير أنطوني إمبراطور العالم وهي شريكته، على أن يليهما قيصرون.
وبينما كان أنطوني أسيرا لغرامه بالإسكندرية كانت المسائل تتعقد بروما؛ إذ عاد أوكتافيوس إلى نشاطه، وأخذ أمراء سوريا يثورون ضد الحكم الروماني. وفي شهر فبراير سنة 40ق.م. اضطر أنطوني إلى مغادرة معبودته، ففارقها متحسرا في شهر مارس، وتركها مثقلة بالأحزان، حبلى في توءمين تلدهما في فصل الخريف المقبل، ومرت عليها أربعة أعوام قبل أن تراه ثانية.
بين اليأس والأمل
قضت كليوباترا ثلاثة أعوام بعد أن فارقها أنطوني ولا شاغل لها إلا تثبيت حكمها لمصر، ولم تغفل طول هذه المدة أن تراقب جيدا ما يجري بالإمبراطورية بالرومانية، حيث كان أوكتافيوس في نزاع مع أنطوني، ولم تنس أبدا طول هذه المدة أهمية مركز ابنها من يوليوس في هذا النزاع.
وكانت لدى أنطوني مئات المشاغل التي تجعله ينسى كليوباترا ولو مؤقتا؛ إذ كانت الثورة بسوريا نجحت إلى حد ما، وكان أوكتافيوس قد ثبت قدمه بإيطاليا منتهزا فرصة غياب أنطوني بالإسكندرية. وكان أسوأ ما يواجهه أنطوني بعد غضب زوجته فولفيا التي بلغها ما اقترن باسم زوجها واسم كليوباترا من حديث الحب والغرام.
وحدث إذ ذاك أن توفيت فولفيا زوجة أنطوني، وربما كان سبب وفاتها هو ما انتاب قلبها من آلام، ولكن أنطوني استراح من شر غيرتها، ثم تزوج عقب ذلك أوكتافيا، وهي شقيقة عدوه أوكتافيوس؛ وبذلك تمكن من الوصول إلى اتفاق ودي مع أوكتافيوس مؤداه: أن يحكم أنطوني النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، في حين يحكم أوكتافيوس النصف الغربي. وولدت لأنطوني من زوجته أوكتافيا بنت صغيرة، هي التي أصبحت فيما بعد جدة الإمبراطور الظالم نيرون.
سمعت كليوباترا طبعا بكل ما حدث في روما، فانتابها ما ينتاب كل امرأة أخرى في موقفها من غيرة وغضب ويأس، بل يمكن أن نتمثلها هنا بامرأة أحبت جزيل الحب، ثم ما لبثت أن تبينت، كما تبينت كثيرات غيرها من قبل ومن بعد، أنها نبذت كامرأة، وخدعت كملكة وسياسية، علاوة على أنها كانت تعلم جيدا أن زوجة أنطوني الجديدة، أوكتافيا، صغيرة السن، بديعة الجمال.
ولو كانت كليوباترا امرأة عادية لانتهى كل شيء في سهولة، ولنسي أنطوني ذكرى خليلته القديمة، ولكن كليوباترا لم تكن امرأة عادية - وإذا كان قد فكر في أن ينبذها فقد كان مخطئا في فهم قوتها وتأثيرها - ولم تكن كليوباترا سليلة البطالسة لتتنازل بهذه السهولة عن أطماعها وبلادها وغرامها.
كان على أنطوني أن يخضع سوريا، وكان يعلم أن الأسطول المصري خير من يساعده في إدراك هذا الغرض؛ ولهذا اضطر أن يستدعي كليوباترا إلى مقابلته ثانية، وكان يريد أن تكون هذه المقابلة مقابلة سياسية محضة، كأنه يعتقد أن كليوباترا قد نسيت الماضي بصفحته العاطفية.
وتمت المقابلة بينهما في مدينة أنطاكية بسوريا، ولكنها لم تذهب إليه في تلك المرة كما ذهبت إليه وهو في طرسيس تحوطها مظاهر البذخ والعظمة؛ إذ إن الأعوام التي مرت عليها جعلتها أرجح عقلا مما كانت، وزادتها معرفة بالرجل. قابلته هذه المرة مقابلة امرأة جرحت كرامتها فاشتد غضبها، وأخذ هو يعتذر إليها بأن المصالح السياسية هي التي أملت عليه تصرفاته، وكانت النتيجة النهائية أن حصلت منه على كل ما تريد، وأغرته على أن يستأنف الحياة إلى جانبها، فعاشا معا شتاء بأكمله، وفي فصل الربيع بدأ أنطوني حملته السورية، وفي الخريف وضعت كليوباترا ولدا.
المحاولة الأخيرة
غير أن أنطوني فشل في حربه فأخذت قوته في الزوال، وبدأ يسرف في الشراب محاولا أن ينسى همومه، وكانت كليوباترا تمده بالمال والآلات ليستأنف الحرب، وخطر لها أن تزوره بنفسها في أحد الأيام، فوجدته في القرية البيضاء بجوار مدينة صيدا وهو يعالج جروحه، ويحاول أن يغرق أحزانه في كئوس الخمر، فعادت به إلى الإسكندرية.
كانت ترى واجبها في أن تدفع به إلى العمل.
وهنا أصبحت علاقة أنطوني وكليوباترا لا تقوم إلا على قليل من الحب؛ إذ لم تبق في نفسه إلا رغبته في الملكة. أما هي فلم يكن يدفعها إلا الامتثال لرغباته غير مطامعها في سبيل ابنها قيصرون. وكان قد بدأ يفقد نشاطه بعد أن حل به الفشل السياسي؛ فأصبح يميل إلى الكسل والتقاعد.
كانت ترى واجبها في أن تدفع به إلى العمل والنضال حتى يصل إلى مركز إمبراطور العالم، وقد استعملت كل قواها وبراعتها للوصول إلى هذا الغرض، حتى ليقول بلوتارخ، كبير المؤرخين، في ذلك: «إنها حاولت أن توهمه أنها تموت هياما به؛ فأخذت تقلل من الطعام حتى بدأ جسمها في النحول والهزال، وكان إذا دخل الغرفة عليها ترفع إليه عينيها بإعجاب وتقديس، وإذا غادرها تظهر الحزن حتى يكاد يغمى عليها، وتنهمر الدموع من عينيها فتسارع بتجفيفها كأنها ترغب ألا يراها باكية.
وكان كل من يحيط بكليوباترا ينحى باللائمة على أنطوني، ويلومه على عدم إحساسه، وعلى طبيعته التي تميل إلى القسوة وتجعله يترك امرأة مسكينة تتوقف حياتها عليه، وعليه وحده، تموت بهذا الشكل. حقا إن أوكتافيا كانت زوجته، ولكن كليوباترا الملكة المتوجة على عدة ممالك قنعت بأن تعرف كخليلته، فإذا انفصلت عنه لم تكن تقوى على احتمال الحياة بعد ذلك.»
كانت كليوباترا تطالب أنطوني بالإمبراطورية الرومانية ثمنا لحبها، ووعدها هو بأن يدفع لها هذا الثمن الغالي؛ إذ كان يظن الرومان شعبا سهل القياد، وكأنه نسي نفسه ونسي وطنه ونسي شعاره، وانقلب حتى أصبح ألعوبة في يد امرأة لا يتحدث عنها الناس بغير ألفاظ الازدراء.
وأخذت تحرضه على أن يخطو خطوة إلى الأمام في سبيل الوصول إلى مركز إمبراطور العالم، وبعثت في نفسه شيئا من طموحها وحماسها، فاستيقظ من سباته وبدأ يعمل بنشاط، وأقلع في شتاء سنة 33ق.م. من الإسكندرية بأسطوله ومعه كليوباترا يريد غزو روما. وكانت كليوباترا قد أقسمت أمام الجماهير المحتشدة قبل إبحارهما أن تجلس هي وابنها قيصرون في الكابيتول.
وصلت في ذلك الوقت إلى قمة عظمتها، وبدأت الحملة التي كانوا يأملون من ورائها أن يسجد العالم عند أقدام أنطوني، وأخذت كليوباترا تحرض رجلها على أن يطلق زوجته الرومانية أوكتافيا. وكان هذا دليل إيمانها بالنصر القريب. وحكمت كليوباترا مدة من الزمان في أثينا كأنها ملكة العالم، ولكن الأمور بذلك الجيش العظيم لم تكن على ما يرام؛ إذ إنه عندما ظهر جيش أوكتافيوس دب الانقسام في جيش أنطوني، حتى هجر بعض الجنود معسكره، وانضموا إلى جيش الإمبراطور، وأخذ بعضهم يحرض كليوباترا على العودة إلى مصر، ولكنها رفضت وفضلت الانتظار.
وا أسفاه على آمالها التي انهارت! فلقد انجلت موقعة أكتيوم عن هزيمة جيوش كليوباترا وأنطوني، واضطرت الملكة المسكينة إلى العودة في الحال إلى مصر ومعها زوجها البائس الشقي.
هنا يختفي اسم أنطوني بعد أن أصبح قليل الجدوى بالنسبة لكليوباترا، ولكنه اضطر إلى العيش بمصر بما كانت تجود به عليه، وكانت معيشته أشبه بالاستغفار والندم على ما فات. كان قلبها قد صدم، ولكن روحها ظلت حية تدفعها إلى العمل؛ فأخذت تعقد المحالفات لتأمين سلامة الحدود المصرية وتوسيعها إذا أمكن، وأخذت تهب العروش لأبنائها وقوادها.
ولكن القضاء كان يسخر منها، وكانت النهاية تقترب رويدا، كان أوكتافيوس عدوها العنيد وعدو أنطوني كذلك قد سار إلى مصر.
ظنت كليوباترا أن في إمكانها أن تسحر أوكتافيوس بجمالها كما سحرت يوليوس قيصر وأنطوني من قبله، ولكنها مع ذلك كانت ممن يؤمنون بالحقائق ولا يخدعون بالأوهام، فشغلت بالبحث في خواص السموم حتى تأكدت أخيرا أنه ليس هناك ما يوازي عضة الأفعى؛ لأنها تسبب النوم العميق أولا، ثم الموت دون ألم.
هل كان لهذه المرأة مثيل؟
الانتحار
وحانت ساعة التجربة الأخيرة، وسار مارك أنطوني بقوة ضعيفة ليقاوم أوكتافيوس الذي كان يحاول إذ ذاك اختراق أسوار الإسكندرية، وقبل أن تبدأ الموقعة رأى أنطوني فرسانه يهربون دفعة واحدة وينضمون لجيش العدو، فلم يسع فرق المشاة إلا الهرب كذلك، ولم يجد بدا هو الآخر من أن يهرب بنفسه إلى قصر الإسكندرية وهو يلعن كليوباترا ويتهمها بالخيانة. ولكن لم يلبث أحد رجاله أن حمل إليه خبر انتحارها، فانتابه الندم وسلم لخادمه أيروس سيفه، وطلب منه أن يقتله به، إلا أن أيروس طعن نفسه بهذا السيف وخر قتيلا وأنطوني يصيح به: حسنا فعلت يا أيروس! لقد بينت لسيدك كيف يتمم العمل الذي لم تجرؤ أنت على عمله.
وأمسك بالسيف وطعن به نفسه! ولكنه لم يمت في الحال، وكانت كليوباترا التي حملوا إليه خبر انتحارها لا تزال حية ترزق، فلما سمعت بما حل به أسرعت إلى جواره، وأخذت تناديه بالسيد والزوج والإمبراطور حتى لفظ النفس الأخير بين ذراعيها.
إدوارد الرابع.
كان أوكتافيوس المنتصر لا يزال عند أبواب الإسكندرية، ووصل أحد رسله إلى كليوباترا بعد أن كاد يقتل، ولم ينتقم أوكتافيوس لهذه الإهانة، ولكنه لبث ينتظر حتى تسلم الملكة نفسها، وبعد أن عادت كليوباترا من جنازة أنطوني أصابتها حمى شديدة، ولما شفيت وقابلت أوكتافيوس وعرفت أن الرجل الصخري الذي لم يؤثر فيه جمالها سوف يحملها أسيرة إلى روما لتسير في موكب نصره، كانت الصدمة أعظم مما يمكن أن تحتمل، فصممت على الانتحار.
وبعد بضعة أيام، طلبت من أوكتافيوس أن يسمح لها بزيارة قبر أنطوني، فلما سمح لها بالذهاب إلى القبر أخذت تصيح وتبكي وتقبل حجر القبر، وأرسلت خطابا إلى أوكتافيوس تطلب منه أن يأمر بدفنها إلى جانب أنطوني، فأدرك أوكتافيوس الحقيقة المؤلمة لما وصله هذا الخطاب، وذهب إليها رسله فوجدوها ميتة بعد أن وضعت الثعبان السام في صدرها. وقد طلبت رداءها الملكي وتاجها قبل أن تموت؛ فقد كان التاج أعظم ما حرصت عليه طوال حياتها، وماتت وهي لا تزال في التاسعة والثلاثين من عمرها، بعد أن خلفت في تاريخ العالم مأساة خالدة هي مأساة الحب والأطماع.
الملك إدوارد الرابع واليصابات جراي
أنا الملك
أدار الملك رأسه وهو على جواده يخب به في الغابة حين رأى فتاة جميلة تجلس على مقربة من شجرة البلوط، كان وجهها يكشف عن جمال فاتن، وشعرها الذهبي يتدلى على وجه طفل تحمله بين ذراعيها، وكان على خديها آثار الاحمرار الخفيف كأنها مقبلة من رحلة بعيدة.
وبقي الملك في مكانه لا يتحرك عند ما رأى الفتاة التي خيل إليه أنها جنية ظهرت له من أعماق الغابة، وبينما كان منشغلا بمراقبتها رفعت نظرها فرأته. وقامت من مكانها في شيء من الخجل، واقتربت من الغريب وهي تقول له: يا سيدي العزيز! إنني أبحث عن الملك، ولكنني لست على ثقة من الطريق، فهل يمكنك أن تدلني على الطريق إلى جلالته؟
ودهش الملك لهذه المفاجأة، ولكنه أخبرها أن «جلالته» يعيش في قلعة فوزرنجاي على بعد أميال عديدة، ثم سألها بعد ذلك دون اهتمام حتى لا يشعرها أنه الملك: وماذا تريدين من جلالته؟
وترددت الفتاة قبل أن تقص على الغريب ما تريد من جلالة الملك؛ إذ كان الجو الذي تعيش فيه مملوءا بأعدائها، ولكنه كان يبدو شابا ظريفا رقيقا سنه قريبة من سنها، كما أن نظرته كانت لا تخفي الإعجاب، فقالت له: لقد قتل الملك زوجي في حروبه الأخيرة، ثم انتزع من أطفالي أرضهم ومالهم، وأصبحنا اليوم ونحن لا نملك شيئا! إنني أريد أن أستعطف جلالته لكي يرد للأطفال حقوقهم: أرضهم وألقاب والدهم.
وأجابها الغريب في هدوء دون غضب: أنا الملك.
وكانت صيحة صغيرة، هي صيحة العجب والخوف، وقعت على أثرها الأم الصغيرة جاثية على ركبتيها في ضراعة صامتة، ولم تجسر على أن ترفع عينيها لتنظر إلى وجه الملك؛ خوفا من أن تقرأ فيه الغضب والحنق، ولم يسعها وهي في ذلك الموقف إلا أن تضم ابنها إلى صدرها بشدة في انتظار مصيرها.
وقال لها الملك في لهجة الجد: وما اسمك؟
وهنا غاض قلبها؛ إذ كانت تحمل اسما لا يكره الملك من أسماء أعدائه اسما مثله، اسما أقسم على أن يمحوه من وجه إنجلترا.
وبعد تردد طويل أجابت بصوت ضعيف لا يكاد يسمع: اليصابات جراي! وأبي هو السير ريتشارد ودفيل.
وظلت تنتظر وهي لا تزال جاثية على العشب، وفجأة شعرت بالملك إلى جانبها يساعدها بلطف على أن تقف على قدميها.
بين الأعداء
وحاول الملك أن يهدئ روعها، ولكنه شعر هو الآخر بعاطفة غريبة تغمره، ومع أن ملامحه كانت تدل على هدوء ظاهر، إلا أن عينيه كانتا تنمان عن قلق باطني هو الذي دعا إلى تضاعف ضربات قلبه، وقال لها: قد تجاب رغائبك. وسوف أحل الليلة ضيفا عندكم!
وفي تلك اللحظة حضر بعض خدم الملك، فسلم إليهم الصقر الذي كان يستقر على معصمه، ثم عاون اليصابات وطفلها في امتطاء صهوة جواد، وركب معها بعد ذلك إلى قصر جرافتون بمقاطعة نورثمبتون حيث كانت تعيش مع والدها.
كان آل ودفيل من غير الأغنياء، وكانت الحرب الأخيرة بين أسرتي لنكستر ويورك قد زادت من فقر الأب؛ لأنه انضم فيها إلى جانب أسرة لنكستر المندحرة.
وذهب الملك إدوارد الرابع إلى قصرهم، ذهب إليهم ذلك الملك الشاب الذي تولى العرش باسم أسرة يورك المنتصرة، وكان حتى ذلك الوقت منشغلا بالقضاء على فلول أعدائه، في حين كان ناصحوه ومستشاروه يجدون في البحث له عن ملكة يمكن أن تضيف قوة جديدة وعظمة إلى اسمه.
وارتعبت اليصابات في بادئ الأمر من حماسة الملك في الرأفة بحالها؛ إذ إنها كانت تنظر إليه دائما نظرتها إلى ألد أعدائها، أفلم يقض على زوجها ويصادر أملاك أطفالها معتديا على حقوقهم الموروثة؟!
ومع ذلك استمر إدوارد في مواساة اليصابات، وكان كلما تمكن من الهرب من أتباعه ورقابتهم الدقيقة امتطى جواده وسار في الغابة إلى جرافتون حتى تكتحل عيناه بمرأى الجمال ممثلا في اليصابات، ولكي يصرح لها مرة جديدة بحبه وولهه.
وبعد مدة من الزمن أجابته، في رعدة وحياء، بشيء مما كان يبثها، وكان موعدهما دائما تحت تلك الشجرة الكبيرة، شجرة البلوط، حيث تقابلا للمرة الأولى، وكانت زهور الربيع الباسمة التي تفتحت أكمامها تكون لهما مقعدا وثيرا، كما كانت الطيور تغرد لهما أناشيد السعادة والحب.
كان شكلهما بديعا إذا ركبا جنبا إلى جنب وسارا في طرقات الغابة الضيقة، وكان شعر اليصابات الذهبي يصل إلى وسطها وهو يكون لعينيها الزرقاوين، وفمها الأحمر الرقيق، وعنقها الأبيض الجميل ما وراء رائعا.
مشاريع الزواج
كان إدوارد شابا جميلا في عينيه نعاس قليل، إلا أنهما تدلان مع ذلك على أنه على ثقة من قوته العظيمة.
وكان الاثنان صغيري السن.
ومع كل هذا كان قلب إدوارد ورأسه في نضال عظيم وهو يعطف على اليصابات ويواسيها، وكان إذا عاد في المساء إلى فازرنجاي وواجه أمه أو إيرل وارويك، عمه وكبير مستشاريه، لم يجسر على أن ينطق أمامهما باسم اليصابات ودفيل.
كانت الأم كثيرا ما تفكر، كما كان العم يفكر دائما، في زواج الملك الشاب، ومع أنهما كانا يختلفان فيمن يقع عليها الاختيار في النهاية، إلا أنهما كانا متفقين دون جدال على نبذ كل فكرة تتعلق بارتباط الملك بفرع حقير من فروع الأعداء.
وكان الملك يصغي إلى وارويك وهو يصف له مزايا زواجه بالأميرة بونا التابعة لسافوي، ويقول له: إنه فكر له فيها نظرا لأنها كفيلة بأن تضيف قوة جديدة وعظمة لا نزاع فيها إلى تاجه.
أما والدة إدوارد، وهي سيسيليا دوقة يورك، وكانوا يطلقون عليها لقب «سيس الفخورة»، فكانت لها هي الأخرى مشاريع خاصة بزواج ابنها الملك، وكان اختيارها قد وقع على اللادي اليصابات لوسي، ابنة بيت من أقوى البيوتات الإنجليزية في ذلك العهد، وكانت ترى فيها خير زوجة لابنها، ولا تمل من ذكر أفضليتها على غيرها.
وأما الملك إدوارد نفسه فكان لا يزال تحت تأثير الشباب ونشوة الحب، وكان قد اعتزم ألا يتخذ ملكة غير اليصابات ودفيل التي قابلها صدفة في الغابة.
ولكنه كان لا يعرف ماذا يصنع؟
وفي ذات ليلة
وأخذ يبدو بعد ذلك متحفظا متسترا، وكان يتحاشى مقابلة والدته، وإذا اضطر إلى الإجابة على أسئلتها الكثيرة التي تشتم منها رائحة الشك والاشتباه، لم يجبها بغير هزة من كتفيه يتهرب بها.
وكان يعرف أن حبه المتقد لاليصابات سوف يظهر عاجلا أو آجلا أمام الأنظار، وأنه سيرى العالم كله إذ ذاك معترضا سبيل سعادته.
اليصابات جراي.
ولكن لو فرض أنه في الوقت الذي تبدأ فيه الزوبعة يكون هو قد تزوج، فماذا يحدث؟ إن الأوضاع تحتلف في هذه الحالة بلا ريب.
ففي ذات ليلة ركب الملك جواده واخترق به الغابة قاصدا منزل من يحب، ولما وصل إلى هناك أمر اليصابات بالاستعداد للخروج معه في الحال واصطحاب والدها ووالدتها.
واقتادهم جميعا إلى كنيسة قرية جرافتون، وتركهم هناك في دهشة وحيرة وذهب هو يبحث عن الكاهن.
وفي ساعات الصباح الأولى كانت الشموع تلقي بضوئها الضعيف على المذبح وعلى وجوه الجمع الصغير.
وهناك وسط عالم نائم، تزوج إدوارد الرابع، ملك إنجلترا، سرا باليصابات ودفيل.
تزوجا، ولكنهما افترقا عند عتبة الكنيسة بعد أن تبادلا قبلة ملأى بالحب والإخلاص.
وعادت اليصابات إلى منزلها وفراشها الصغير لتنام وحدها وتحلم بالحب والأسى.
وعاد إدوارد إلى فازرنجاي ودخل إلى جناحه بمنتهى الحذر حتى لا يدرك أحد شيئا عن خروجه أو عودته.
وتقابل العروسان بعد يومين، وكان الملك قد نظم رحلة صيد شرف في أثنائها منزل السيد ريتشارد ودفيل، ولم تبد اليصابات في أثناء تلك الزيارة والرحلة ما يشتم منه رجال الحاشية وجود علاقة بينها وبين الملك.
وهكذا قضى الاثنان شهر العسل. وفي مذكرات السير جون هوارد وصف هذا الرجل «كيف قضى الملك هناك أربعة أيام لما زارته اليصابات سرا في أثنائها دون أن يعرف مخلوق على الأرض بذلك غير أمها.»
لقد تزوجت
ومرت الشهور الأولى من زواجهما تتخللها لحظات قصيرة من السعادة ثم الفراق، وعاد وارويك بعد ذلك من سافوي يحمل أخبارا حسنة عن الأميرة بونا وجمالها وثروتها، ولكن والدة الملك أصرت على أفضلية اختيارها.
أما الملك فلم يظهر ميلا إلى إحدى الاثنتين؛ ولذلك ألحا عليه لكي يتخذ قراره بسرعة ويبوح باسم من يميل إلى الزواج منها، ولما اشتد إلحافهما قال الملك بصوت ضعيف: لقد تزوجت.
وصاحا به: ممن؟
قال: من اليصابات ودفيل أرملة السير جون جراي! وبدأت الثورة؛ إذ تبين وارويك أن آماله قد انهارت بسرعة، فخلع رداء الناصح المستكين الخاضع، وتحول إلى طاغية مستبد يصيح بضرورة الطلاق السريع.
أما الملكة الوالدة فكان غضبها أشد من غضبه بكثير، وأقسمت ألا ترى تلك المرأة الشيطانية التي أوقعت ابنها في حبائل خداعها، وألا تغفر لها تلك الإهانة.
وثار الملك بدوره كذلك؛ إذ إنه سكت قبل ذلك خوفا من افتضاح السر، وما دام السر قد عرف فما الذي يدعو إلى السكوت بعد ذلك؟
كان إدوارد محاربا، وها هو ذا اليوم يجد شيئا يجب أن يحارب من أجله؛ لذلك لم يزده غضبهما وتهديدهما وحججهما ورجاؤهما إلا عنادا وإصرارا على أن يتخذ اليصابات ودفيل لا زوجة فقط، وإنما ملكة متوجة.
وأخبرهما بذلك في صراحة قاسية.
ولما كان وارويك سياسيا محنكا، فقد أدرك أنه غلب على أمره، وأن أحسن ما يصنع في هذه الحالة هو أن يصل إلى خير النتائج من الحالة الراهنة.
أما الملكة «سيس الفخورة» فما كانت لتسلم بالهزيمة، وقالت لابنها ثائرة: لا يمكن أن تجعل منها ملكة بحال من الأحوال؛ إن هذه المرأة لا يجري الدم الملكي في عروقها.
وقال لها الملك في برود: إن هذا القول من اختصاص علماء الأنساب، وسأطلب منهم الاجتماع للبحث عن هذا الدم الملكي في أجدادها.
الملكة
وأمر الملك باجتماع علماء الأنساب، فاجتمعوا وجدوا في البحث حتى تمكنوا من تحرير قائمة طويلة فيها أسماء أعضاء أسرة اليصابات ودفيل، وتمكنوا في النهاية من الوصول إلى ما يثبت انتسابها إلى أصل ملكي.
كان إدوارد قد تزوج من اليصابات في أوائل عام 1464؛ ففي أواخر العام سار الاثنان من جديد إلى المذبح في كاتدرائية ريدنج وهما في أبهة الملك والعظمة، وعلى مرأى من اللوردات وعظماء المملكة، وعلى درجات سلم هذا المذبح قاد الملك إدوارد زوجته اليصابات ودفيل، فتاة الغابة المجهولة، إلى حيث تلقت تاج الملكة، وحيث قدم لها النبلاء فروض طاعتهم.
وكانت اليصابات في نفس ذلك الوقت تقرأ في عيني زوجها، حين نظرت إليه، جميع فروض الطاعة والخضوع التي يسر بها قلب المرأة.
ماري ملكة اسكتلندا واللورد بوثول
إلى اسكتلندا
نشأت ماري، ملكة اسكتلندا، في البلاط الفرنسي في الوقت الذي اشتهر فيه هذا البلاط بالمجون والفساد؛ فأثر عليها ذلك تأثيرا سيئا. وقد زفت إلى ولي عهد فرنسا، ابن هنري الثاني، قبل أن تبلغ السابعة عشرة من عمرها، وكان هو في الخامسة عشرة من عمره . وقد نقلت بمعاهدة الزواج تاج اسكتلندا إلى ملك فرنسا في حالة وفاتها دون ولد، ويقال: إن ماري كانت لا تميل إلى زوجها، بل إنها كانت تحتقره؛ نظرا لمرضه الذي ما لبث أن قضى عليه بعد عام واحد من توليه عرش فرنسا في عام 1559.
وفي نفس الوقت، توفيت في اسكتلندا الملكة الوالدة ماري جيز، فتولى الحكم نفر من النبلاء كثير التنازع؛ مما كان يستدعي ضرورة انتقال الملكة الصغيرة إلى هناك.
وانتقلت الملكة ماري من فرنسا إلى اسكتلندا وفي حاشيتها الشاعر الإيطالي ريزيو، الذي كان ينظم لها المديح وقصائد الغزل، ويغنيها لها على قيثارته بصوت جميل، وكانت الملكة تعجب بريزيو وأدبه وصوته وإخلاصه، كما كان هو أشبه بالكلب الأمين في ولائه لسيدته الملكة.
وبعد وصول الملكة إلى اسكتلندا بمدة قصيرة لاكت بعض الألسن اسمها مقرونا باسم أحد النبلاء الشجعان، وهو اللورد بوثول، وكان مشهورا بالدعابة والقوة. ولما كان من الضروري أن تتزوج الملكة حتى تجد إلى جانبها من يمكنها الاعتماد عليه في مهام الحكم، وتقضي على ما يشيع الناس عنها، فقد وقع اختيارها على اللورد دارنلي، ابن عمها وأول أصحاب الحق في عرش اسكتلندا وإنجلترا من بعدها.
مقتل ريزيو
وكان دارنلي رجلا ضعيف الخلق، كثير الغرور، شديد الوقاحة، ولكنها أرغمت على الزواج منه بعد أن أخفقت في محاولتها الزواج بنبيل إسباني هو الدوق كارلوس، وقد أقبل عليها في أول ليلة للزواج وهو سكران؛ فكرهته منذ ذلك الوقت.
وعرفت الملكة بعد ذلك أن زوجها يشترك مع الخارجين عليها في مؤامراتهم، فصممت على الانتقام منه. وفي إحدى الثورات التي شبت ضد حكمها قامت بنفسها على رأس الجيش، ومزقت شمل الثوار ثم عادت منتصرة دون أن يتحرك زوجها من مكانه، وكانت إذا قارنت صفات الزوج بصفات اللورد بوثول المقدام الشجاع المخلص اشتدت كراهيتها لدارنلي.
وكان دارنلي يشعر ببغض زوجته له، ويحاول إصلاح الأمور بينهما فلا يوفق، حتى انتهى الأمر بأن اعتقد أن مصدر البلاء هو ريزيو الإيطالي، وكان يرى الملكة وهي تقرب ريزيو إليها وتستشيره في كل شيء ، وتستقبله في مخدعها، وتتأثر لشعره وصوته فتتأجج نيران الغيرة في صدره.
ولما توهم أن ريزيو عشيق زوجته، وأنها تغلق بابها دونه من أجل هذا الشاعر صمم على قتله، وتآمر مع اللوردات موراي وروثفن ومورتون على تنفيذ ذلك، ونفذ عزمه فعلا في مساء يوم 9 مارس من عام 1566، فدخل على الملكة في قصر هوليرود وطعن ريزيو بسيفه، على مشهد من الملكة، طعنات قضت على حياته.
واتضح بعد ذلك أن المؤامرة أوسع نطاقا مما ظنت الملكة؛ إذ لم تقتصر على مقتل ريزيو، وإنما أعقبها سجن الملكة نفسها في قصر هوليرود حتى تخضع لرغبات الثائرين وتنفذ إرادتهم.
وقد عز على الملكة أن يقتل ريزيو وهو في حضرتها، وتسجن هي في قصرها؛ فأصرت على الانتقام، وصممت بعد إقماع الثورة على أن تتخذ من زوجها نفسه آلة للانتقام كما اتخذ منه الثوار أداة لإشعال ثورتهم.
وثيقة الخيانة
وكان من الغريب أن تفكر في استخدامه لمساعدتها في الانتقام من أعدائها بعد مقتل ريزيو وسجنها في قصرها، ولكنها جعلته يعتقد أن شركاءه في المؤامرات، أمثال مورتون وروثفن، إن هم في الحقيقة إلا أشد أعدائه حقدا عليه في قلوبهم، على الرغم مما يتظاهرون به من الإخلاص له.
وقد صدق دارنلي ما سمع من زوجته الملكة وفزع له، فوشى بشركائه جميعا، ولكنه طلب منها أن تصدر أمرا بالعفو ونسيان الماضي، وإغفال ما صنعه ضدها المتآمرون، ففعلت، وإزاء ذلك عاد اللوردات الذين ثاروا إلى هدوئهم، فتمكنت هي من الفرار ليلا من هوليرود يصحبها زوجها نفسه.
وأمل المتآمرون أن تحافظ الملكة على وعدها فتؤمنهم على سلامتهم وحياتهم؛ ولذا أرسلوا إليها وهي في «أدنبره» يطلبون منها أن تصدر وثيقة العفو عنهم كما وعدتهم.
ووافقت الملكة على إصدار وثيقة العفو، بشرط أن يعلنوا استنكارهم لحادث مقتل ريزيو وعداءهم لمدبريه.
وقد قبل المنفيون هذا الشرط بسرور، وعادوا لبلادهم، أما باقي أعضاء الذين أبوا المؤامرة فقد تفرقوا وهربوا كل إلى مخبئه.
وهكذا فازت الملكة ماري بحكمتها وسياستها، وأمكنها التغلب على معظم المتآمرين وضمهم إلى صفوفها.
وكانت الأخبار تصل إلى الباقين من الثوار في مخابئهم؛ فيزداد حقدهم عند سماعها، وقد بلغ غيظهم أقصى درجاته عندما أصدر دارنلي تصريحه بتبرئه من مؤامرة مقتل ريزيو، وعدم اشتراكه في أي شيء يتعلق بها، مع أنه في الحقيقة كان من أركان تلك المؤامرة؛ ولذلك استقبل الاسكتلنديون تصريحه بالضحك والسخرية لجبنه.
وكان أشد المتآمرين حقدا على دارنلي وغيظا منه لنذالته: روثفن، الذي لم يسعه وهو على فراش الموت، بعد ستة أسابيع من ذلك التاريخ، إلا أن يرسل إلى الملكة ماري بالوثيقة الأصلية التي وقعها دارنلي بإمضائه قبل أن يبدأ الثورة ضدها.
وقرأت الملكة ماري الوثيقة بعجب شديد؛ إذ رأت أن زوجها الملك لم يكتف فيها بأن يعلن انضمامه إلى المؤامرة، بل أعلن أنها تقوم بمحض إرادته وأمره، وأن كل مسئوليتها تقع على عاتقه هو، وأنه يؤمن الثائرين ضد كل العواقب.
وكانت الوثيقة قاطعة بالخيانة؛ ولذلك أمرت الملكة باستدعاء زوجها لتواجهه بها، فلما مثل بين يديها قابلته بكل غضب وازدراء، وأخذت تسبه، وأبرزت له الوثيقة الممهورة بإمضائه، والتي كانت الدليل القاطع على خيانته، وأخيرا قطعت كل علاقة لها به، وطردته من حضرتها باحتقار شديد، فخرج متحسرا مغلوبا على أمره.
في ظلام اليأس
خرج دارنلي يائسا؛ إذ قد فقد أصدقاءه اللوردات الذين شاركوه في المؤامرة في مبدأ الأمر، ثم ما لبثوا أن نبذوه؛ لأنه تبرأ منهم وخانهم، وكذلك فقد الملكة بعد أن وضعت يدها على الدليل المادي على خيانته. وكانت الملكة تظهر له الازدراء كلما وقع نظرها عليه، وأصدرت أمرها بأن كل من يظهر الاحترام لزوجها سيجر على نفسه غضبها وعدم رضائها، وكان من أثر ذلك أن اضطر دارنلي إلى الانسحاب من القصر؛ لأن حياته فيه أصبحت مستحيلة لما يكتنفها من هزء واحتقار، ولبث يتجول حينا من الزمان وقد أغلقت في وجهه الأبواب؛ إذ كان كل من يلقاه، سواء من أتباع الملكة أو من أعدائها، لا يقابله بغير الازدراء، واضطر في النهاية إلى الذهاب إلى صديقه لينوكس بمدينة جلاسجو، حيث أخذ يسلي نفسه بالعبث مع كلابه وطيوره ونسائه.
لا شك أن الملكة أخطأت إذ تركت زوجها دون أن تنتقم منه، حتى أخذ يعبث ويتنقل حيث يشاء، وكان من الخير لو أنها انتهت منه دفعة واحدة فأمرت بنفيه أو إعدامه جزاء اشتراكه في المؤامرة، ولكن كان ما يبعثها على عدم الأمر بإعدامه هو نفس السبب الذي بعثها على طرده من قصرها شر طردة.
ذلك السبب الذي وقف حجر عثرة في سبيل تنفيذ مآربها وانتقامها من زوجها دارنلي هو علاقتها الغرامية باللورد بوثول؛ الرجل الذي كان لا يهتم بالوسائل في سبيل تنفيذ الأغراض، فقد خشيت الملكة أن يظن الناس أنها أعدمت زوجها من أجل بوثول؛ حتى لا يكون عليها ثمة رقيب يضايقها بحقوقه الزوجية.
مع بوثول
وجدت الملكة في بوثول صديقا مخلصا في الوقت الذي كانت فيه في أشد الحاجة إلى صديق؛ إذ كانت لا تجد رجلا يمكنها أن تثق به. وكان بوثول قوي الشكيمة يمكن للمرأة أن تعتمد عليه. وهذا ما يعلل نفوذه العظيم على الملكة، وما أثاره في نفسها من عاطفة الحب القوي حتى غدت لا تستطيع أن تفارقه لحظة واحدة، أو تعصي له أمرا.
وقد تجلى حبها لبوثول وتقديرها له أكثر من زوجها نفسه في الوصية التي كتبتها حين أوشكت أن تلد، وخشيت أن تموت في أثناء الوضع، فقد أوصت إذ ذاك لدارنلي بخاتمها ذي الماسة الحمراء الذي قدمه لها يوم زواجهما، ولكنها عينت بوثول وصيا على ولده إذا أدركها الموت، وأمرت أن تسلم إليه مقاليد الحكم من بعدها!
وذهب زوجها دارنلي يزورها بعد أن ولدت الطفل، فقوبل في القصر بازدراء، وخاصة من بوثول الذي كان نفوذه قد ازداد إذ ذاك، وقابلت الملكة زوجها بفتور شديد في حين أنها أظهرت لبوثول كل حب وإخلاص أمامه؛ حتى اضطر أن يعود وقد ازداد حزنه وعاره.
وبعد مرور شهرين فقط، بعد أن صارت أما، ذهبت لزيارة بوثول زيارة خاصة في «الوا»، وقد كانت هذه الزيارة فضيحة كبرى وصمت بها الملكة، وما اتصل خبرها بدارنلي حتى رأى أن يقوم بمحاولة أخيرة ليستعيد حقوقه كزوج وملك، ولكنه لم ينجح في هذه المحاولة، وعرف أن حياته في خطر طالما كان في اسكتلندا، فعاد إلى عبثه ولهوه، ولم يظهر في القصر الملكي بعد ذلك إلا مرات معدودات.
وبعد ثلاثة أشهر، مرضت الملكة مرضا خطيرا في جدبورو وكادت تنتقل إلى العالم الآخر، وذهب زوجها دارنلي لزيارتها، ولكنه لم يمكث معها غير يوم واحد.
وكان بوثول قد أصيب قبل ذلك بثلاثة أسابيع بجروح خطيرة في مناوشات حدثت على الحدود، وظل طريح الفراش في دير مهجور، فما اتصل نبأ ذلك بالملكة حتى سارعت إلى الذهاب لرؤيته - وكان بينها وبينه نحو ثلاثين ميلا - وعادت في نفس اليوم وقد أثر البرد في صحتها تأثيرا سيئا فمرضت.
وقد سمع دارنلي بهذه القصة، بل لقد زار بوثول في جدبورو فاحتقره بوثول وأساء معاملته، كما كان يفعل كل من يقابله، ولكنه كان يتألم من احتقار بوثول له أكثر من أي شخص آخر؛ وذلك لعلمه أن بوثول هو عشيق زوجته.
فك العقدة
ووصلت الأمور بين الملكة وزوجها إلى حد لا يمكن الاستمرار عليه كما أعلنت هي في القصر وهي لا تزال تعاني آثار المرض.
وجلست في غرفة واسعة إلى جانب المدفأة وقد غاض قلبها والتفت بعباءة تقيها البرد، وكانت شاحبة الوجه، وقد ظهرت هالة زرقاء على عينيها من تأثير المرض الذي عانته، ثم تأوهت وقالت: كم أود أن أموت!
ماري «ملكة اسكتلندا» تودع فرنسا.
وكان عشيقها بوثول إذ ذاك يتكئ على ظهر مقعدها وقد ظهر بوجهه العبوس وأنفه الأقنى ولحيته الكثة، وتظاهر بأنه يتأوه مثلها وهو يقول: لم أقف في حياتي أمام عدو وتمنيت أن أموت.
وما لبث أن خفض من صوته وهو يملي أوامره على سكرتيره، الذي كان جالسا إلى مائدة على مقربة منها وهو يكتب ما يمليه عليه سيده.
وفجأة رفعت إليه الملكة عينيها وسألته: أي أوامر تملي؟
وعندما أجابها رفعت يدها وأشارت إشارة السلب وهي تقول: كلا! ليس هذا هو الطريق.
وتحرك بوثول حتى واجهها وظهره إلى المدفأة، ولم يعن بأن يخفض صوته وهو يحادثها، بل قال ببرود: هناك شيء آخر، وقد قررت ذلك من قبل.
فقالت له: وما الذي قررته؟
إذ ذاك خاطبها بصوت أجش حتى ظهر الخوف والاهتمام على وجهها وهو يقول لها: إن ما قررناه يتعلق بفك قيودك. لا تخافي شيئا؛ إن الشريف مواري نفسه هو الذي اقترح ذلك وأسره إلى لثنجتون، وما ذلك إلا لمصلحة اسكتلندا ومصلحتك.
ثم رفع صوته مناديا إياهما.
وحضروا جميعا تلبية لندائه، واجتمعوا في الغرفة فكان منظرهم غريبا، والملكة بينهم تظهر على وجهها أمارات الاهتمام والخوف والضعف، أما بوثول فكان شكله يدل على العظمة والقوة وقد لبس أفخر ملابسه، أما آرجيل ولثنجتون فكانا متشحين بالسواد.
ووجه بوثول الحديث للثنجتون فقال له هازئا: إن جلالة الملكة تهتم بسماع الطريقة التي يمكن بها أن تفك عقدة زواجها.
ورفع لثنجتون نظره إلى الملكة وفرك يديه وضغط على شفتيه ثم قال: فك العقدة! ها! ها! من الخير هنا أن نستعمل طريقة الإسكندر؛ وهي قطع العقدة للتخلص منها مرة واحدة وإلى الأبد.
قال ذلك وقد أدار بصره في الغرفة، ولكن الملكة صاحت: لا! لا! لن أدعكم تقتلونه.
ولكن بوثول قال لها: ولكنه يا سيدتي لم يكن على شيء من الشفقة التي تظهرينها الآن.
وكان يقصد بذلك طبعا أن يذكرها بمقتل ريزيو، وبأن زوجها هو الذي دبر ذلك الحادث، كأنه هو نفسه كان يحب ريزيو!
فقالت الملكة: ولكن على الرغم مما صنعه زوجي؛ فإني لا أوافق البتة على قتله.
فقال آرجيل: ولكن، يا مولاتي، يمكننا أن نقدمه إلى المحاكمة بتهمة اشتراكه في سجن جلالتك في هوليرود بعد حادث مقتل ريزيو.
وفكرت في ذلك برهة ثم هزت رأسها وقالت: ولكن الوقت متأخر جدا، وكان يجب أن نصنع ذلك منذ أمد بعيد؛ إذ سيقول الناس الآن: إننا لم نقدمه إلى المحاكمة بعد مرور هذه المدة على الحادث إلا لنتخلص منه لسبب من الأسباب.
ولم تفكر الملكة في غير وسيلة الطلاق للتخلص من زوجها ، وظهر الاهتمام جليا على وجهها وقالت: لقد فكرت في الطلاق، ويعلم الله أنني لا أريده لغرض في نفسي. هل الطلاق ممكن بتمزيق أمر البابا الذي صرح فيه بالزواج؟
فرد عليها آرجيل قائلا: نعم، إن الزواج يعد لاغيا بعد تمزيق ذلك الأمر. ثم نظرت إلى بوثول وإلى نار المدفأة ووضعت يدها على وجهها وقالت: نعم، لا ريب أن الطلاق هو خير الوسائل.
ولكنها ما لبثت أن رفعت بصرها فجأة، فرأوا في عينيها مظاهر الشك والخوف، وقالت: ولكن في هذه الحالة ماذا يحدث لولدي؟
فقال لثنجتون ببطء بعد أن هز كتفيه وحرك يديه، وما لبث أن شبكهما ثانية: نعم، إن هذه هي العقبة التي اعترضت سبيلنا ونحن نبحث هذا الأمر؛ فلا ريب أن ذلك مما يجعل توليه بعدك محفوفا بالمصاعب والأخطار.
فصاحت وهي تطلب منه أن يوضح أفكاره: إنك تعني أنه سيعتبر ابنا غير شرعي، أليس كذلك؟
فقال السكرتير: نعم، هذه هي الحقيقة يا مولاتي، ولن يكون جزاؤه غير ذلك.
وهنا قال بوثول: وما دام الأمر كذلك، فهذا ما يعود بنا إلى طريقة الإسكندر، فما دامت الأصابع لم تفلح في حل العقدة وجب استعمال السكين في قطعها.
إذ ذاك ارتعدت الملكة وانكمشت في ملابسها، فانحنى إليها لثنجتون وخاطبها بعطف ولطف متمتما: دعي لنا الأمر يا مولاتي، وسنجد الوسيلة لتخليص جلالتك من ذلك الأحمق دون أن نمس شرفك، أو نلحق الضرر بحقوق ولدك.
وأخذت الملكة تنظر إلى وجه كل واحد منهم وكأنها تود لو تمكنت من قراءة أفكاره، ثم ما لبثت أن أعادت نظرها إلى نار المدفأة وتحدثت بسكون فقالت: أرجو ألا تصنعوا شيئا يمس شرفي ولا يرضاه ضميري.
ثم أردفت بلهجة من تؤكد كل كلمة تقولها: بل إنني أرجوكم أن تدعوا الأمر حتى يقضي فيه الله بما يريد.
ونظر لثنجتون إلى الاثنين الآخرين ونظرا إليه، ثم فرك يديه بسكون وقال: ثقي بنا يا مولاتي، وسنحل المسألة بشكل يرضيك ويوافق عليه البرلمان!
ولم تجب الملكة على هذا الطلب؛ ولذا فقد أرضاهم أن يجدوا في سكوتها دليلا على موافقتها، وأسرعوا ثلاثتهم إلى الاجتماع باثنين آخرين هما: جنتلي وبلفور، واتفق الخمسة على إهلاك دارنلي، زوج الملكة، الذي كانوا يطلقون عليه اسم «الأحمق الصغير، والطاغية المتكبر».
وقبل عيد الميلاد أصدرت الملكة أمرها بالعفو عن سبعين شخصا من المتهمين بالاشتراك في مقتل الذين قست في الحكم عليهم من قبل لما ثبتت عليهم تهمة الاشتراك.
وقد رأى العالم في ذلك العفو مظهرا جميلا من مظاهر الإحسان والعطف الملكي على الرعايا، وأثنى على ملكة اسكتلندا، ولم يعرف غير قلائل أن هذا العفو لم يكن غير الثمن الذي تدفعه الملكة مقابل تخليصها من زوجها دارنلي؛ مما يدل على موافقتها التامة على أن العقدة التي لا يمكن حلها يجب قطعها.
وفي نفس اليوم الذي أصدرت فيه الملكة أمرها بالعفو ذهبت في صحبة بوثول لزيارة اللورد رمند؛ حيث مكثا في ضيافته نحو أسبوع، ومن هناك ذهبا معا إلى مدينة «توليبردين»، وكانت تلك التنقلات غذاء الأقاويل والإشاعات والفضائح التي تذاع عن علاقتهما غير الشريفة.
هل عاد الحب؟
غادر دارنلي زوج الملكة مدينة «سترلنج» حيث كان يعيش عيشة تاعسة؛ إذ كان الأشراف يتجاهلونه، وكان في حاجة إلى المال لقضاء ضروريات حياته حتى اضطر إلى الاستغناء عن خدمه، وأصابه المرض إذ ذاك فأشيع أن السم قد دس له، ولكن ما لبث الناس أن رأوه وقد شوه وجهه الجميل؛ فعرفوا أن المرض الذي أصيب به لم يكن إلا نتيجة لحياة التهتك التي يعيشها.
ولما عرف أنه قد وصل إلى أبواب الموت أخذ يكتب خطابات استعطاف إلى الملكة، ولكنها كانت تتجاهله، ولا تعنى به ولا بخطاباته، وقد اطمأنت عندما سمعت عن مرضه؛ إذ ظنت أنه قد يقضي عليه فيموت موتا طبعيا قبل أن يمسه الآخرون بسوء، فلما سمعت بتحسن صحته ذهبت لزيارته في جلاسجو.
ولما دخلت الملكة إلى غرفة زوجها المريض الذي هجرته منذ زمان، وجدته في فراشه وقد وضع على وجهه قطعة من النسيج الرقيق ليخفي التشويه الذي لحقه، فتأثرت تأثرا شديدا حتى ليقال: إنها ركعت على ركبتيها بجانب فراشه، وأخذت في البكاء على مرأى ومسمع من حاشيتها وأتباعه، واعترفت بندمها الشديد على الماضي.
وتبع ذلك الصلح، وأخذت تظهر له الحب والعطف والاهتمام بشأنه، وأخبرته بضرورة انتقاله إلى مكان آخر يتمتع فيه براحة أكبر، ويكون لائقا بمركزه الرفيع، وسر هو وقبل أن يعود معها إلى هوليرود، ولكنها قالت له: لا يمكننا الذهاب إلى هوليرود خشية أن تنتقل عدوى مرضك إلى ابنك الصغير.
فسألها: إلى أين نذهب إذن؟
ولما ذكرت له قصر «كريجميلر» هب واقفا من فراشه، فوقعت قطعة القماش التي كانت تخفي وجهه، وظهر ما لحقه من التشويه، فما وسع الملكة أن تخفي اشمئزازها من بشاعة منظره المرعب إلا بكل صعوبة، وصاح هو: إلى كريجميلر! إذن فلقد كان حقا ما أخبروني.
فقالت وهي تحدق فيه النظر وقد شحب وجهها: وبماذا أخبروك؟
وكانت أخبار ما حدث في قصر كريجميلر قد وصلت إلى مسامعه، فأخبرها أنه سمع بأن خطابا قد قدم إليها في ذلك القصر لتمهره بإمضائها، وأنها رفضت الإمضاء.
فقالت له: كذب وهراء كل ما أخبروك! فإني لم أر أي خطاب ولم أوقع، بل ولم يطلب إلي أن أوقع أي خطاب! وإنني لأقسم على صحة ذلك. أما ذهابك إلى قصر كريجميلر فإنني لا أضطرك إليه، ولك ملء الحرية في أن تذهب إلى أي مكان تشاء.
فاطمأن قليلا واعتقد في صدق كلماتها ثم قال: هناك منزل كيرك أوفيلد، وله حديقة غناء، وهو يطل على أخصب بقاع أدنبره، وأنا في أشد الحاجة إلى الهواء النقي، وقد نصحني الأطباء بعمل حمامات كثيرة للتخلص من هذا المرض. لا ريب أن منزل كيرك أوفيلد يصلح إذا وافقت على ذلك.
ووافقت هي في الحال وأصدرت أوامرها بإصلاح ذلك المنزل، وبنقل بعض الأثاث الموجود في قصر هوليرود لتزيين مدخله حتى يكون لائقا بقدر الإمكان لسكنى ملك.
وانتقلا بعد بضعة أيام إلى ذلك المنزل، فما لبثت شكوكه أن هدأت؛ إذ رأى ما تحيطه به من عطف وحب، وخاصة لوجود كثير من أتباعه هناك.
وأخذ حبهما ينمو من جديد إبان الاثني عشر يوما التي قضاها وهو يتماثل إلى الشفاء في منزل كيرك أوفيلد، وكانت هي كثيرة العبث واللهو معه كما تكون المرأة مع عشيقها، حتى أخذ الناس يتحدثون عن عودة حب الملكة لزوجها، وأملوا بأن يكون ذلك الصلح سلاما للأمة، وهناء يستفيد منه الجميع، ولكن على الرغم من ذلك كان هناك من ينظر إلى ذلك الصلح بعين الحيرة والاستغراب، ويبحث عما إذا كان في خلق المرأة وعاطفتها ما يسمح بمثل ذلك التغير الفجائي من الكراهية الشديدة إلى الحب؟
مخاوف وشكوك
وكان دارنلي ينام في الدور الأعلى من المنزل في غرفة أثثت أثاثا فاخرا، وفرشت أرضها بالأبسطة الشرقية، ووضع له بجانب الفراش ذلك الحمام الخاص، الذي كان جزءا من علاجه، وعدة مقاعد وثيرة.
أما الملكة فكانت تنام في غرفة بالدور الأسفل تحت غرفة زوجها تماما، وكانت نوافذها تطل على الفضاء الواسع، أما بابها فيؤدي إلى الممر الموصل إلى الحديقة.
وكأن الحياة هناك قد راقت للملكة على الرغم من أنها لم تكن تزور قصر كيرك أوفيلد في الماضي إلا نادرا، وكانت تمضي شطرا كبيرا من اليوم في غرفة زوجها لتسليه في فترة نقاهته من مرضه. أما الوقت الذي لم تكن توجد فيه في غرفة زوجها فقد كانت تسير أثناءه للنزهة في الحديقة، وكثيرا ما كان زوجها يسمعها تغني وهو في فراشه.
لم تظهر الملكة ماري لزوجها الحب في أوانه كما أظهرته في تلك الآونة، اللهم إلا عقب زواجهما مباشرة؛ ولذا فقد غادرته شكوكه، إلا أن ذلك النعيم لم يدم مدة طويلة؛ إذ ما لبث أن وصل إليه اللورد روبرت يحمل إليه تحذيرا ألقى الرعب في قلبه، فقد أخبره أنه إذا لم يغادر ذلك المكان في الحال؛ فإنه لن يغادره إلا بعد أن يفقد حياته، وصارح دارنلي الملكة بتلك الإشاعة التي وصلت إلى مسامعه عن طريق اللورد روبرت، فأنكرت كل شيء، وأرسلت في الحال تستدعي اللورد روبرت، وسألته أمام زوجها عما ذكره، فما وسعه غير الإنكار، وقال: إنه لم ينذر الملك بشيء ، وأن كل ما هنالك قد يكون سوء فهم لحديثه، بل وأضاف إلى ذلك أن حديثه لم يتعد حالة الملك الصحية التي ربما تقتضي تغيير طريقة العلاج، والبحث عن هواء أنقى من هواء تلك البقعة.
ولم يدر دارنلي أي القولين يصدق، وعاودته شكوكه ووساوسه، إلا أنه مال إلى تصديق زوجته ماري التي أكدت له سلامة حياته، وكان يشعر بالطمأنينة ما دامت إلى جانبه.
وقد رضيت الملكة أن تقضي بضع ليال من كل أسبوع في قصر كيرك أوفيلد؛ ليطمئن زوجها ويأمن على سلامته. وفي الأسبوع الأول من شهر فبراير قضت الملكة مع زوجها في قصر كيرك أوفيلد ليلة الأربعاء وليلة الجمعة، وكانت تنوي قضاء ليلة الأحد لولا أن خادمها سبستيان - الذي اصطحبها من فرنسا، والذي كانت تقدر إخلاصه - كان ينوي الزواج في ذلك اليوم، وقد وعدته جلالتها بأن تحضر الحفلة الراقصة التي سيحييها من أجل هذه المناسبة السعيدة في هوليرود.
وعلى الرغم من ذلك لم تهمل زوجها في ذلك اليوم، بل ركبت في المساء بصحبة بوثول وهنتلي وآرجيل وآخرين تقصد كيرك أوفيلد، ولما وصلت بصحبة هؤلاء إلى القصر تركتهم في الدور الأول يقتلون الوقت بلعب الورق، وصعدت هي إلى غرفة زوجها في الدور العلوي وجلست إلى جانب فراشه، فلاحظت على وجهه أمارات الاضطراب كأنه يتوقع حدوث شيء، وما كادت تجلس إلى جانبه حتى بدأ يلحف في الرجاء فقال لها: لن تتركيني هذه الليلة، أليس كذلك؟
فقالت: يا للأسف! يجب أن أغادرك؛ فإن سبستيان يتزوج هذه الليلة، وقد وعدته بحضور الحفلة.
فتأوه وقد ازداد اضطرابه ثم قال: سأشفى قريبا، وإذ ذاك سيغادرني كل ما أشعر به من اضطراب يزيد في إزعاجي، أما الآن فإنني لا أحتمل أن تغيبي عن نظري. إني أشعر بالراحة ما دمت إلى جانبي، وأحس أن كل شيء يجري في مجراه، أما إذا ابتعدت عني فإن نفسي تمتلئ بالخوف واليأس وأنا وحدي في هذا المكان.
فسألته: ومم تخاف؟
فقال: إنني أخاف تلك الكراهية الحية التي يحس بها الجميع من نحوي .
فقالت: إنك لتصور لنفسك أشباحا تزعجك.
وصاح في تلك اللحظة صيحة رعب وهو يحاول القيام من فراشه: ما هذا؟ أصغي إلى هذا الصوت!
وأصغت فسمعت صوت وقع أقدام في الغرفة السفلى، وصوت وقوع شيء على الأرض، فقالت: لا ريب أن هذه أصوات الخدم وهم ينظمون غرفتي.
فسألها: ولماذا يرتبونها ما دمت لا تنامين فيها هذه الليلة؟
ثم رفع صوته ونادى خادمه الخاص.
وسألته هي بدورها وقد شعرت بالخوف: وماذا تريد من خادمك؟
فلم يجبها، وأمر خادمه بالنزول لرؤية ما يحدث في الغرفة السفلى، ونزل الشاب. ولو قدر له أن يؤدي مهمته بإخلاص لرأى أعوان بوثول من هاي وهبرن ونيقولا هيبرت خادم الملكة يشتغلون بتعبئة رصاص ومقذوفات نارية أخرى لوضعها تحت غرفة الملك، إلا أن الخادم في طريقه قابل بوثول نفسه وقد التف في عباءة واسعة، ووضع قبعته على رأسه، وسأله بوثول عن المكان الذي يقصد فأخبره.
فقال له بوثول: لا شيء هناك سوى أنهم يشتغلون بنقل فراش جلالة الملكة من مكانه حسب رغبتها.
وتأثر الخادم من وجه بوثول الذي كان يدل على الأمر والقوة، وكان يسد عليه طريقه بقامته؛ ولذا فضل عدم المقاومة، وعاد إلى الملك وأخبره بما سمعه من بوثول كأنه ذهب بنفسه ورأى ما يروي.
واطمأن دارنلي قليلا وانسحب الخادم، فقالت الملكة ماري: ألم أخبرك بما هناك؟ ألم تكن كلمتي كافية؟
فأخذ دارنلي يرجوها قائلا: سامحيني على شكوكي! إنني لا أشك فيك مطلقا بعد أن أظهرت كل هذا العطف على ما أصابني من محن.
وتأوه ثم نظر إليها بحزن وأسى وأردف قائلا: كم أود لو كان الماضي يختلف في وقائعه عما حدث بيني وبينك! أظن أنني كنت صغيرا حين وليت الحكم؛ كنت في صغري أستمع لمشورة السوء، وكنت شديد التأثر بالغيرة، سريع الخضوع لسيئاتها ورذائلها، ولما شئت أن تطرديني من لدنك أخذت أتجول في العالم الواسع بلا صديق، فأسرني الشيطان بشروره، ولكنك إذا وافقت على أن ندفن الماضي في قبور النسيان؛ فسأصلح كل شيء، وستجدين أنني أكبر قيمة بما يخطر لك.
وقامت هي وقد ابيضت شفتاها، وأخذ جسمها يرتعش تحت عباءتها، واتجهت إلى النافذة وأخذت تطل منها، أخذت تنظر من النافذة إلى ذلك السكون والليل المحيط، وكانت قدماها لا تقويان على حملها من شدة ارتعادهما.
وصاح هو: لماذا لا تجيبي؟
فقالت وصوتها يرتجف: أي جواب تريد؟ أولم أجبك من قبل؟
ثم أردفت وهي لا تكاد تقوى على الحديث: أظن أن الوقت قد أزف للرحيل.
وسمعا إذ ذاك صوت وقع أقدام على السلم وصوتا أشبه بصليل السيوف، وما لبث باب الغرفة أن فتح وظهر بوثول على بابها وهو ملتف في عباءته الحمراء، وأحنى كتفيه عند الباب، وكانت في عينيه الواسعتين نظرة ساخرة ألقاها على دارنلي؛ فبعث بالخوف والغضب إلى قلبه في الحال، وقال بوثول يخاطب الملكة: لقد أوشك الليل أن ينتصف يا مولاتي.
كان بوثول قد حضر في الوقت المناسب ليذكر الملكة بأن كل شيء قد تم لتنفيذ ما اتفق عليه من قبل دون مراعاة لعطف أو شفقة.
وقالت الملكة: هأنذي قادمة.
ولبث بوثول ينتظر ليعجل من قيامها، إلا أن الملك أخرها قليلا.
وأخذ بوثول يلحف في الرجاء ودارنلي يقول: انتظري لحظة واحدة، كلمة واحدة.
ثم خاطب بوثول قائلا: دعنا نتحدث وحدنا يا سيدي وغادرنا.
ولكن على الرغم من أنه الملك لم يطعه ذلك الجبار عشيق الملكة، ولبث ينتظر أمر الملكة دون أن يتحرك، فلم يغادر الغرفة إلا بعد أن أشارت إليه تطلب منه الخروج، بل حتى بعد أن أمرته الملكة بالخروج لم يكن منه إلا أن انتقل إلى الجانب الآخر من الباب؛ وذلك كي يكون قريبا منها يساعدها إذا بدا منها ما يدل على الضعف في تلك الساعة الرهيبة.
وأخذ دارنلي يجاهد حتى تمكن من الجلوس في فراشه، ثم أمسك بيدها وأخذ يرجوها: لا تغادريني، بربك لا تغادريني.
فصاحت بصوت يظهر الاضطراب في نبراته: ولكن ما هذا؟ هل تريد أن ييأس سبستيان من حضوري ويحزن لذلك، وهو الذي يحمل لي الكثير من الحب والإخلاص؟
فقال : لقد فهمت. إذن فأنت تهتمين بسبستيان أكثر من اهتمامك بي.
فقالت: إن هذا من الجنون؛ فليس سبستيان إلا خادمي المخلص.
فقال: أولست أنا كذلك خادمك المخلص؟ ألا تصدقين أن كل غرضي سيكون منذ الآن أن أخدمك بإخلاص. آه! ولكن شفقة لضعفي، إنني ممتلئ بالخوف والتشاؤم هذه الليلة. اذهبي إذا كان واجبا أن تذهبي، ولكن دعيني أسمع - على الأقل - تأكيدا لحبك، وعديني بالحضور غدا بحيث لا تفترقين عني مرة أخرى.
نظرت الملكة إلى ذلك الوجه الأبيض الشاحب الذي كان يتذلل صاحبه إلى هذا الحد، والذي كان رائع الجمال في الماضي، فاضطربت نفسها، ولم تشعر بالقوة إلا عندما ذكرت أن بوثول ينتظرها بالباب، وأنه يسمع كل ما يدور بينها وبين زوجها من حديث.
وحدث بعد ذلك أن خلعت خاتما من أحد أصابعها ووضعته في أحد أصابعه وقالت: إليك الدليل على صدق وعدي وحبي؛ فاسترح ونم مطمئنا.
وقد انتقدت الملكة على تصرفها هذا ولامها الكثيرون عليه، بل لقد اعترف موراي نفسه فيما بعد لما له من صلة بالمسألة، بأن ما صنعته الملكة من نزع خاتمها ووضعه في أصبع زوجها لمما تستحق عليه أشد اللوم. والظاهر أنها قصدت من ذلك أن تضع حدا للمنظر المؤثر الذي كان يزعجها، وقد تمكنت فعلا من إنقاذ موقفها بذلك العمل.
إنذار خفي
وغادرت الملكة زوجها وقد شحب وجهها وبدا عليه الاضطراب، ووصلت إلى الباب ووضعت عليه يدها تحاول فتحه، ولكنها تريثت وأعادت النظر إلى زوجها، ويظهر أنها اشمأزت من نفسها عندما فكرت في خيانتها له، خاصة عندما رأته يبسم لها وقد عادت الثقة إلى وجهه. ولا شك أنها شعرت بالرغبة في تحذيره إذ ذاك، ولكن بوثول كان قريبا منها، فعرفت أن أي كلمة تذكرها لزوجها سيكون معناها تعجيل المأساة مع اقترانها بنتائج خطيرة قد تمس بها.
ولكي تتغلب على ضعفها استعادت ذكرى دافيد ريزيو الذي قتله دارنلي وهو على مقربة منها، والذي كانت تنتقم له في تلك الليلة، ولكن غريزة المرأة لم تغادرها حتى في تلك اللحظة، بل لقد تغلبت عليها ، فبدلا من أن تجد في ذكرى ريزيو ما يشجعها على الانتقام من زوجها وجدت من تلك الذكرى وسيلة لتحذيره.
وقفت شاحبة مضطربة عند الباب، وألقت عليه آخر كلماتها له بصوت يتخلله الاضطراب فقالت: لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت بالضبط من العام الماضي.
وبعد ذلك، أسرعت إلى بوثول الذي كان ينتظرها، وما وصلا إلى السلم حتى تمهلت الملكة ثم وقفت وقد وضعت يدها على كتف بوثول وأخذت تهمس بخوف: هل من الضروري عمل ذلك؟ هل من الضروري؟
كان النور ضعيفا، ولكنها على الرغم من ذلك رأت ذلك النور الذي يلمع في عينيه وهو يتكئ إلى ناحيتها وقد وضع يده على وسطها وجذبها إليه بذراعه القوية، وهكذا تمكن بإرادته الحديدية من أن يجعلها تسير في الطريق الذي اختطه لها.
كانت الجياد قد أعدت في الخارج، وكان هناك عدد كبير من الأشراف في انتظارها لمرافقتها في الطريق إلى قصر هوليرود لحضور حفلة زواج خادمها سبستيان، وكذلك كان نحو ستة من الخدم يحملون المشاعل، وكانت اللادي ديز تنتظر مولاتها. وتقدم أحد الرجال لمساعدتها على الركوب، ولكنه كان أسود اليدين والوجه من تأثير البارود والمفرقعات الأخرى التي كان يعدها، حتى إنها لم تعرفه، وضحكت ضحكة عصبية مغتصبة حين سألته عن اسمه فذكره لها وصاحت: أيها اللورد، لم اسود وجهك؟
ثم ركبت جوادها، وسارت بصحبه الأشراف يتقدمها الخدم من حملة المشاعل؛ لينيروا لها الطريق، إذ كان الوقت بعد منتصف الليل.
الانفجار
وفي الغرفة العليا بقصر كيرك أوفيلد مكث زوجها دارنلي يفكر وينعم النظر فيما قالته الملكة، وقد تأكد من قرب حدوث شيء بسبب تلك اللهجة التي خاطبته بها، ومن نبرات صوتها وهي تحدثه، بل ومن النظرة التي ألقتها عليه وهي تخاطبه، وعرف أن كلماتها تحوي رسالة غامضة موجهة إليه:
لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت بالضبط من العام الماضي.
أدرك دارنلي أن نفس هذه الكلمات ليست صحيحة، وأن قائلتها لم تتحر الصحة وهي تذكرها، فإن ذكرى مرور عام على مقتل ريزيو كانت تقع بعد مرور شهر كامل على ذلك التاريخ الذي ذكرته الملكة! وتساءل دارنلي عما يدفع الملكة إلى تذكيره قبل رحيلها بما اتفقا على دفنه في قبور النسيان؟ وفي الحال أجاب نفسه بنفسه، وعرف أنها قصدت إنذاره بأن الانتقام قريب الوقوع، وتذكر إذ ذاك كل ما وصل إلى مسامعه عن الأمر الملكي الذي وقع في قصر كريجميلر، وذكر كذلك إنذار اللورد روبرت له، وهو الإنذار الذي أنكره أمام الملكة، وذكر إذ ذاك كلمات الملكة التي وجهتها إليه عقب مقتل ريزيو؛ فقد قالت له: «فكر فيما تسمع مني الآن، فكر فيه واذكره؛ فإنني لن أستريح بتاتا قبل أن أسبب لك مثل هذا الحزن الذي أشعر به الآن!»
وذكر بعد ذلك صيحتها التي تمثل فيها الألم وحب الانتقام الوحشي وهي تقول بالفرنسية: لن أنسى، لن أنسى إلى الأبد! نعم، إلى الأبد! وزادت مخاوفه زيادة هائلة ولم تهدأ في النهاية إلا حين نظر إلى أصبعه فرأى الخاتم الذي وضعته فيه دليلا على تجدد عهد حبها. نعم! لا ريب أن الماضي قد مات ودفن، حتى إذا هدده الخطر فهي ستحميه بلا شك، وستكون درعا فولاذيا يقيه شر الحوادث. هذا ما ظنه وصمم على أن يسألها عنه عندما تحضر في اليوم التالي، ولا ريب أنها ستكون أكثر صراحة، وستفتح قلبها له ولا تخفي عنه شيئا، ولكن على الرغم من كل هذا احتاط لتلك الليلة حتى لا يؤخذ على غرة.
أرسل دارنلي خادمه وطلب منه أن يغلق جميع الأبواب بإحكام، فصدع الخادم لأمر سيده وأقفل جميع الأبواب ما عدا الباب الذي كان يؤدي إلى الحديقة؛ إذ لم يكن هناك ما يغلق به، علاوة على أن مفتاحه كان مفقودا، ولكنه لم يخبر سيده بذلك لئلا يزيد في غضبه وحدته الظاهرة على وجهه.
وطلب دارنلي أن يحضروا إليه الكتاب المقدس ليقرأ فيه استعدادا للنوم، وجلس الخادم على مقعد في ركن الغرفة وقد غلبه النعاس، وهكذا أخذت الساعات تمر، وفي النهاية نام الملك نوما خفيفا، ولكنه ما لبث أن قام من نومه فزعا حوالي الساعة الثانية صباحا، وجلس في فراشه وقد امتلأ رعبا دون أن يعرف لرعبه سببا، وأخذ يصغي بأذنين مرهفتين وقد كاد قلبه يكف عن الحركة.
وأخيرا تمكن من أن يفطن إلى الصوت الذي أيقظه، وكان ذلك الصوت يشبه الصوت الذي سمعه من قبل حين كانت زوجته الملكة ماري معه، وظن أن هناك شخصا يتحرك، ولكنه ما لبث أن كف عن الحركة حين بدأ هو يصغي، وعاد السكون الشامل إلى القصر، ولكنه لم يعد إلى قلب الملك المسكين، بل ازدادت مخاوفه.
وأطفأ الملك النور، ونزل من فراشه، وسار إلى النافذة وأطل منها على الفضاء والظلام الدامس الذي لم يكن ينيره غير ضوء ضئيل منبعث من جزء صغير من القمر، وكان لا يزال في الربع الأول، وخيل إليه أن شبحا يتحرك في الظلام، فأخذ ينعم النظر ويراقبه وقد اشتد رعبه. لم يكن هناك شبح واحد، بل لقد كانت هناك أشباح عدة تتحرك بين الأشجار، ورأى وهو يراقبها شبحا يخرج من المنزل وهو يجري، وما لبث أن التحق بالآخرين في الحديقة، ورأى أنهم قد صاروا مجموعة كبيرة: «ترى ماذا يقصدون؟» أخذ دارنلي يسأل نفسه هذا السؤال، ثم ما لبث صدى صوت كلمات ماري الأخيرة أن رن في أذنيه وسط ذلك السكون: «لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت من العام الماضي!»
واشتد رعبه فما وسعه إلا أن يقفز من الغرفة إلى حيث كان خادمه نائما على المقعد، وأخذ يهزه هزا عنيفا وهو يقول له هامسا بصوت أجش: قم أيها الغلام، قم، قم؛ فقد هاجمنا الأعداء.
كان دارنلي يريد أن يصرخ بهذه الكلمات، ولكن صوته خانه؛ إذ تملك الرعب كل جزء من جسمه حتى حنجرته.
واستيقظ الخادم في الحال، وأسرع الاثنان - والملك بلباس نومه الذي نزل به من فراشه - وخرجا من الغرفة في الظلام الدامس وهما يتلمسان الطريق إلى أن وصلا إلى النوافذ الخلفية التي كانت موجودة في الردهة، وفتح دارنلي نافذة منها وأرسل الخادم ليأتيه بغطاء تمكنا بواسطة ربط طرفه في النافذة من النزول إلى الحديقة، وما وصلا إليها حتى أسرعا إلى الحائط يقصدان تسلقه للهرب من القصر كله.
كان الخادم يسير في المقدمة والملك يتبعه وأسنانه تصطك من تأثير البرد والخوف الذي تملكه، إلا أنه في تلك اللحظة عينها خيل إليهما أن الأرض قد مادت تحت أقدامهما، فوقعا على وجهيهما دون أي إنذار سابق، وما لبثا أن رأيا ضوءا قويا جدا أنار الظلام السائد، وصحبته أصوات فرقعة هائلة مرعبة كأن الأرض كلها قد تأثرت بها.
ولبث الملك والخادم بضع لحظات حيث وقعا وقد فقدا نصف شعورهما، وكان الخير لهما لو أنهما استمرا منكفئين على الأرض حيث كانا، إلا أن دارنلي استعاد شعوره بسرعة وقفز واقفا على قدميه، ثم جذب إليه الخادم وأعانه على الوقوف معه، وبدأ يتحرك، فما لبث أن سمع صوت صفير منخفض ينبعث خلفه من الظلام، ونظر من وراء كتفه إلى القصر فرأى الدخان وقد بدأ يتصاعد منه. وفي وسط ذلك الدخان المتكاثف لاحظ الأشباح التي رآها من نافذة غرفته وقد بدأت تتحرك في الظلام وتقترب منه، فعرف أنهم قد شاهدوه؛ فإن لباس النوم الأبيض الذي كان يلبسه دلهم على مكانه في الظلام.
وصرخ صرخة خافتة وهو يجري نحو حائط الحديقة وخادمه يتعثر من خلفه، وسمعا خلفهما وقع أقدام كثيرة، ما لبث أن وقعا أسيرين وقد أحاط بهما الرجال، وأخذ الملك يلتفت يمينا ويسارا عله يهتدي إلى مخرج من بين هذه الدائرة القاتلة من الرجال الذين كانوا يحيطون به وبخادمه، ويكونون أمامهما سدا منيعا، وصاح بصوت ضعيف وهو يحاول يائسا أن يسأل بشيء من السلطة: ماذا تريدون؟ ماذا تريدون؟
وتقدم إليه رجل ملتف في عباءة، وكان بوثول، وقال له: إننا نريدك أنت أيها الأحمق.
وغادرت الملك تلك العظمة الملكية التي لم يحسن الظهور بها في يوم من الأيام، غادرته نهائيا، فأخذ يصيح: الرحمة! الرحمة!
فأجابه الطاغية بوثول: تطلب الرحمة التي أظهرتها في الماضي لدافيد ريزيو؛ أليس كذلك؟ ها! ها!
وسقط دارنلي على الأرض وحاول أن يقبل قدمي القاتل، إلا أن بوثول مر فوق جسمه، ثم أمسك بلباسه ونزعه عن جسمه المرتعد، وربط أكمام اللباس في عنق الملك، وأخذ يشدهما بقوة وقسوة، ولم يتركهما إلا بعد أن كف الملك المسكين عن الحركة، فعرف أن الحياة قد غادرته.
وذهبت الملكة ماري، بعد أربعة أيام من هذه الحادثة، لرؤية جثة زوجها في كنيسة قصر هوليرود حيث نقلت بعد قتله، ووصف أحد معاصريها تلك الزيارة فذكر أن الملكة أطالت النظر إلى جثة زوجها، وقال: «إن نظرتها إلى جثة زوجها لم تكن فقط خلوا من أي شعور بالحزن، بل كانت تدل على الرضاء والتشجيع.»
ودفنت الجثة سرا بعد ذلك إلى جانب جثة ريزيو، فاجتمع القاتل والمقتول في نهاية الأمر جنبا إلى جنب.
نهاية العاشقين
اتهمت الملكة ماري بطريق غير مباشر بأنها قاتلة زوجها اللورد دارنلي، وعرف أن الجريمة دبرت بعلمها، وأن فاعلها الأصلى هو اللورد بوثول صديقها المخلص. وقد ثار أعداء الملكة لهذه الجريمة، وأخذوا في تحريض الناس ضدها، وكانت النتيجة أن قدم بوثول للمحاكمة بتهمة نسف قصر كيرك أوفيلد وقتل دارنلي، ولكن المحكمة برأته في النهاية.
وبعد تبرئة بوثول دبر جريمة أخرى هي اختطاف الملكة في الظاهر، ولكن غرضه الحقيقي كان نقلها والاستئثار بها في قصر دنبار؛ ولذلك سامحته ماري على اختطافها من قصرها، وبعد أن تم الطلاق بينه وبين زوجته تزوجته هي. ويشك الكثير في صحة هذا الزواج الذي تم بين الملكة ولورد بوثول؛ لأنه لا يطابق قوانين الكنيسة الكاثوليكية. والظاهر أن الملكة نفسها كانت تشك في صحته؛ حتى إنها تزوجته مرة أخرى فيما بعد طبقا لقواعد الكنيسة البروتستنتية.
ولكن البلاد ما لبثت أن ثارت ضد حكم ماري ولورد بوثول بتحريض النبلاء واتحادهم، وشبت الحرب الأهلية، فهزم فيها بوثول واضطر إلى التسليم. وقد طلب منه النبلاء أن يغادر اسكتلندا في الحال، فخضع لأمرهم على أن تظل زوجته الملكة على عرشها، وسافر بوثول إلى بلاد النرويج حيث قبض عليه، وأرسل من هناك إلى كوبنهاجن عاصمة الدانيمرك ، وألقي به إلى غياهب السجن.
أما الملكة، فإن النبلاء بعد أن أمنوا شر زوجها المحارب أمروا بالقبض عليها، وسجنوها في قلعة لوك ليفن، بعد أن وقعت وثيقة بالتنازل عن العرش لابنها الصغير جيمس. وفي عام 1568، تمكنت ماري من الهرب من سجنها بمساعدة بعض أنصارها، وجمعت جيشا صغيرا، ولكنها ما لبثت أن هزمت، فاضطرت إلى الهرب إلى إنجلترا، ووضع نفسها تحت حماية اليصابات ملكة إنجلترا، ولكنها كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإن اليصابات كانت شديدة البغض لها؛ لأنها تعرف أنها صاحبة الحق الأول في عرش إنجلترا الذي تتبوءه هي، ولما كان ينقل إليها كثيرا من أن ماري تتطلع إلى هذا العرش وتنوي أن تضمه إلى عرش اسكتلندا في يوم ما.
ولذلك قبض على ماري، ملكة اسكتلندا، بمجرد دخولها في حدود إنجلترا، وظلت مدة 19 عاما تنقل من سجن إلى آخر.
وقد وجدت لها بعض الأنصار في إنجلترا، فأخذوا يدبرون فرارها من السجن، وأخيرا في عام 1586، اكتشفت مؤامرة واسعة النطاق دبرها أحد أنصار قضيتها، واسمه بابنجتون، فقدمت الملكة إلى المحاكمة بتهمة اشتراكها في المؤامرة.
وأنكرت الملكة أثناء المحاكمة اشتراكها في المؤامرة، كما أنها لم تعترف بهيئة المحكمة التي تنظر قضيتها، ولكن المحكمة أدانتها وحكمت عليها بالإعدام، فنفذ فيها الحكم يوم 8 فبراير من عام 1587، واطمأنت اليصابات قليلا على عرشها.
أما اللورد بوثول، فقد بقي في سجنه هو الآخر حتى جن ومات في 14 أبريل من عام 1578.
وقد تولى ابن ماري عرش إنجلترا واسكتلندا فيما بعد باسم جيمس السادس في اسكتلندا، وجيمس الأول في إنجلترا، فكان في ذلك العزاء بلا ريب لوالدته وهي في قبرها.
جلالة الملك جورج السادس والملكة اليصابات
أول مقابلة
في عام 1905 كان الملك إدوارد السابع يحكم إنجلترا، وكانت إنجلترا التي يحكمها تتميز بروح المرح التي تسود أهلها؛ فقد كان الملك هو الآخر مرحا، وكان يسمح لنفسه بشيء كثير من الحرية، ولكن دون أن يقلل ذلك من الاحترام الذي يحتفظ به ويظهره في كل مناسبة للملكة إلكسندرا.
وكان ولي العهد، الأمير جورج، موضع احترام الجميع؛ لسلوكه الذي لا غبار عليه، واهتمامه بشئون أسرته وأمته. وفي ذات يوم من ذلك العام، صرح الأمير جورج لابنه الثاني، الأمير هنري، بالذهاب إلى حفلة خاصة للأطفال تقيمها اللادي ليستر.
ولما وصل الأمير هنري الصغير إلى قصر اللادي ليستر، قدمته ربة المنزل إلى زملائه وزميلاته من صغار الفتيان والفتيات في الحفلة، وقد التف الصغار جميعا حول الأمير يحدقون النظر في وجهه، وقد عقدت الدهشة ألسنتهم لما عرفوا بمقام زميلهم ومركزه.
ولكن فتاة واحدة من بين حاضرات الحفلة لم تهتم بالضيف الجديد، واستمرت تأكل ما وصلت إليه يدها من الحلوى دون أن تعبأ بأي شيء آخر؛ مما أدى إلى استياء أصحاب الحفلة، فأقبلوا عليها وهزوها من كتفها تنبيها لها إلى ما يجب مراعاته من آداب اللياقة في حضرة الأمير الصغير.
وتنبه الأمير هنري أخيرا إلى ما يحدث حوله؛ فحول عينيه ناحية الثائرة الصغيرة وألقى عليها نظرة، فوجدها فتاة ذات عينين زرقاوين وشعر متجعد، وكانت نظرته نظرة الغاضب؛ لأن الصغيرة لم تفهمه، ولم تقدر سمو مركزه وما يجب أن تظهره أمامه من احترام.
وكانت تلك الصغيرة هي اليصابات بوزليون.
بعد 13 عاما
جلالة جورج السادس؛ الملك والإمبراطور.
مر 13 عاما تخللتها حوادث كثيرة هامة، فلم يعد الأمير هنري هو الأمير الصغير الذي يرتدي السراويل القصيرة. ولو أنه كان صغير السن في عام 1918، إلا أنه صار فتى صقلته التجارب؛ إذ اشترك في الحرب وقام بنصيبه في معركة جتلند على ظهر البارجة كولينجوود. وقد عرف الأمير منذ ابتدأت الحرب في عام 1914 أن الأمر جد كل الجد، وخاصة إذ مر والده المرحوم جورج الخامس مرة يستعرض بعض البحارة، وكان هو بينهم، وكاد الولد يخرج من بين الصفوف ويتجه نحو والده الملك لكي يحييه، ولكن والده مر به دون أن يظهر على وجهه ما يدل على أنه يعرف أن ولده الثاني، الأمير هنري، يوجد بين صفوف البحارة الذين يستعرضهم.
واضطر الولد أن يحيي والده مثل غيره من جنود البحر دون أن ينبس ببنت شفة.
وفي عام 1920، نصب الأمير هنري دوقا على يورك، وكان قد ذهب قبل ذلك الوقت بمدة قصيرة إلى حفلة راقصة أقيمت عند سيدة كبيرة في لندن، وهناك قابل فتاة ذات عينين رقيقتين، كانت هي بنفسها الصغيرة التي رفضت في الماضي، وحين كانت سنها لا تزيد عن ستة أعوام، أن تخضع لأحكام البروتوكول، ولكنها صارت اليوم فتاة بسيطة ممتثلة.
وتحادث الاثنان في الحفلة، ولما غادرها الأمير عند انبلاج الصبح كان قد بدأ ينسج الخيوط الأولى من حلمه الجميل الذي احتفظ به مدة طويلة لنفسه فقط.
ولم يحتفظ الدوق لنفسه بحلمه الجميل؛ لأن الفتاة التي أعجب بها لا تليق به؛ فقد كانت من أسرة من أقدم الأسرات الاسكتلندية، وكان أجدادها قد خدموا ملوك اسكتلندا منذ القرن الرابع عشر، وكان في إمكانهم المفاخرة بأن الدم الملكي يجري في عروقهم. وقد حدث في وقت من الأوقات أن حارب أعضاء أسرة بوزليون ضد ملوك إنجلترا حربا لا هوادة فيها؛ ولذلك لم يكن هناك ما يلام على الأمير هنري لو اعترف بحبه للفتاة ابنة الكونت ستراثمور وكينجهورن، ولكن الأمير كان شديد الخوف من والده الملك.
في القصر المسحور
بعد ذلك بمدة قصيرة، ذهب الأمير الصغير إلى قصر غلاميس في استكلندا، وكان ذلك القصر ملكا لوالدي اليصابات، وهو من أقدم القصور الإنجليزية. وقصر غلاميس هو غلاميس مكبث، هو غلاميس الأساطير، هو القصر الذي امتزج اسمه بقصص الأشباح ورواياتها!
ولم يخف الأمير شيئا وهو يزور القصر العتيق، ولم يظهر من الأشباح ما يمكن أن يرعب الضيف الملكي لمرآه، ترى هل كانت صورة الفتاة الصغيرة الضاحكة المضيئة الوجه هي التي طردت الأشباح من القصر القديم؟
وكان الأمير يقوم بنزهات بعيدة في وديان الريف مع اللادي اليصابات بوزليون، عرف سموه في أثنائها أن الفتاة الجميلة موضع إعجابه لم تولد في ذلك القصر المسحور، ولكنها ولدت على مقربة من لندن. وكان من الغريب أن يكتشف كل واحد منهما في الآخر مواضع شبه بالآخر في كثير من النواحي، وقالت له في ذات يوم: لقد علموني اللغة الفرنسية منذ نعومة أظفاري؛ وذلك بإجباري على استعمالها وحدها في يوم من أيام الأسبوع.
وأجابها هو: أما أنا، فإن جدي الملك إدوارد السابع هو الذي أجبرني على تعلمها؛ إذ كنت عندما أقبل عليه لأحادثه باللغة الإنجليزية يقول لي: «تكلم الفرنسية يا بني! تكلم الفرنسية!»
وفي يوم آخر، دخل الأمير متخفيا في أحد المنازل الصغيرة، فأخذت العجوز ربة المنزل وهي جالسة على مقربة من النار تقص عليه قائلة: إن آنستنا هي ملاك الرحمة؛ فمنذ مرضت سيدتي الكونتيسة واليصابات تستقبل جميع الزائرين والوافدين على القصر؛ من رجال لندن ونبلائهم إلى أصغر العمال والفلاحين شأنا.
وقد حدث مرة أن شبت النار في غلاميس، فما كان من اليصابات إلا أن نظمت فرقة للإطفاء في الحال؛ لعلمها أن رجال المطافئ لا يصلون بسرعة لبعد المكان، وتمكنت بهمتها ومجهودها من إنقاذ القصر وكنوزه وضيوفه.
نبوءة
وفي يوم آخر، عاد هنري واليصابات من زيارة قاما بها في الأنحاء المجاروة عند غروب الشمس، وفي أثناء عودتهما كادت سيارتهما تدهس عجوزا كانت تسير عند حافة الطريق، ونزل الاثنان بسرعة من السيارة يقدمان المساعدة للعجوز التي أصيبت بالخوف أكثر مما أصيبت بضر، وكانت من طائفة «الغجر».
ونظرت «الغجرية» إلى الفتاة بسرعة وقالت لها بلغة إنجليزية لا تكاد تفهم: أعطني يدك.
وقدمت إليها اليصابات يدها، فأخذت العجوز تسرد على مسامعها أشياء عن الماضي، وقالت لها: لك ثلاثة إخوة وأختان. يجب أن تعني جيدا بصحة والدتك. أنت تمتلكين ثلاثة منازل منها اثنان لا بأس بهما، وثالث يجلب الشر.
وشحب وجه الفتاة وأرادت أن تسحب يدها، إلا أن الغجرية أمسكت بها بأصابع حديدية واستمرت تنظر فيها، وفجأة سمعت اليصابات العجوز وهي تصيح بها: سوف تصبيحين ملكة! وسوف تصبحين أم ملكة كبيرة!
ونظر الاثنان، هنري واليصابات، إلى بعضهما في حيرة، ولما انتهى كل منهما من النظر إلى الآخر وأخذا في البحث عن العرافة لم يجدا لها أثرا، وكان الليل قد أرخى سدوله.
ملاك الرحمة
بدأت الملكة ماري بعد ذلك تلاحظ ما بدا من اهتمام ولدها الثاني ، الأمير هنري، ببلاد اسكتلندا، وعرفت بالطبع سر هذا الاهتمام؛ ففاتحت زوجها الملك جورج الخامس باكتشافها، وسر الملك للخبر؛ إذ إنه كان يشعر دائما أن ولده الثاني هو أقل أولاده اختلافا عنه، حتى إنه كان يطلق عليه لقب «الأمير الرزين».
كان الأمير الرزين يبدي اهتماما بالعلوم الميكانيكية والاقتصاد السياسي، وكان حاضر الذهن والبديهة فيما يعرض من أمور تستدعي التفكير الدقيق.
على أن الأمير هنري كان يشكو عيبا صغيرا في نطقه هو أشبه باللجلجة؛ ولذلك كان لا يتكلم كثيرا، ويكتم شعوره في داخل نفسه؛ فيبدو لمن لا يعرفه جيدا بارد العاطفة غير متقد الإحساس. ولا يزال الملك يذكر إلى اليوم كيف وجه إليه أحد أساتذته في دارتموث هذا السؤال: ما هو نصف النصف؟
وسكت تلاميذ الفرقة استعدادا لسماع إجابة زميلهم الأمير، ولكنه شعر بأن فمه المغلق لن يفتح ليجيب على السؤال، وقد ظن المدرس أن سكوت الأمير دلالة جهله، وأعلن أن استعداده لدراسة العلوم الرياضية قاصر جدا.
وأحست اليصابات بما يشعر به الأمير الشاب من ألم عميق مكتوم؛ فصممت لطيبة قلبها على أن تقدم إليه كل مساعدة ممكنة، وتحبوه بعطفها حتى يتمكن من الانتصار على دائه.
أما الملكة ماري فقد أحست بأن ملاكا من ملائكة الرحمة على وشك أن يندمج في حياة ابنها؛ ولذلك فقد قررت أن تقوم بزيارة طويلة لآل ستراثمور تراقب في خلالها اليصابات، وفي أثناء الزيارة كشفت الملكة الوقور عن فضائل كثيرة فيمن وقع عليها اختيار ابنها؛ فقد تبينت فيها الخلق الكامل، وأناقة الملبس، والتقوى والصلاح. ولما عادت إلى لندن عقب الزيارة اكتفت بأن تقول لزوجها الملك جورج الخامس: الحمد لله على أن اليصابات بوزليون ليست من أولئك الفتيات العصريات.
الملك يوافق
وما لبث السر بعد ذلك أن ذاع في أروقة القصر الملكي، ومنها انتشر في لندن، فأخذت الصحف منذ نهاية عام 1922 تكثر من الحديث عن اليصابات، وتنشر لها الصور المختلفة في الأثواب المتنوعة، ونشرت لها صورة سر لها أهل شمال إنجلترا جميعا؛ هي صورتها بالملابس الوطنية الاسكتلندية، وأخذت الصحف كذلك تتحدث عن مهارة الملكة في مختلف الشئون المنزلية من طهي وتطريز.
وكان كل ما ينشر بمثابة جس النبض للرأي العام، وهو الهيئة الثانية التي يجب أن توافق على الزواج بعد الملك والملكة، وقد أحسن الرأي العام استقبال اليصابات.
وتحت يوم 16 يناير من عام 1923، يمكن أن نقرأ في سجلات البلاط البريطاني ما يلي:
وافقنا، ونحن نسجل هنا موافقتنا، على زواج صاحب السمو الملكي الأمير ألبرت فردريك آرثر جورج، دوق يورك، من اللادي اليصابات أنجيلا مارجريت بوزليون.
وكانت بعد ذلك حفلات استمرت ثلاثة أشهر، وانهالت في أثنائها الهدايا على الخطيبين من جميع أنحاء العالم.
وبعد حفلات وستمنستر الدينية، سافر الزوجان لقضاء شهر العسل في مقاطعة صرى، وبعد أن بقيت الدوقة في لندن يوما واحدا ودعت في خلاله أمها بشكل مؤثر، سافرت مع زوجها للاستمتاع بالسعادة في قصر غلاميس.
الرجل الجديد
اليصابات؛ «ملكة إنجلترا».
والذين شهدوا دوق يورك بعد زواجه بشهور قليلة، رأوا فيه رجلا جديدا زال عنه اضطرابه وخجله السابق، وأخذ يعالج ما ينتاب كلامه من لجلجة متبعا في ذلك نصائح أحد الأطباء الأخصائيين.
وكان الدوق يشعر بألم شديد لحالته؛ إذ كان يحتاج إلى وقت طويل جدا لكي ينطق كلمات قليلة حتى يجعل سامعه يرثي لحاله، فلما صحت عزيمته على التخلص من دائه أخذ يثابر على الكلام، ويتمرن عليه في كل يوم؛ حتى نجح في التخلص من عيبه إلى حد كبير، وكانت اليصابات نفسها لا تتوانى عن تشجيعه وحثه على وجوب التخلص من دائه؛ ولذلك فإنه يعترف حتى اليوم بأن فضل زوجته عليه في التخلص من عيب النطق الذي كان يعانيه لا يقل عن فضل الطبيب الأخصائي نفسه.
وإن الإنجليز، وقد عرفوا بالميل إلى الصمت وقلة الكلام، لا يجدون في لجلجة الملك الحالي واضطراب نطقه عيبا، وهم يقولون في ذلك: إنه إذا كان مليكنا يتكلم قليلا؛ فهو يتكلم حسنا، وهو فوق ذلك يعرف ثمن الكلام، وسوف يتمكن من استعماله بحيطة وحذر.
وقد حاول بعض الذين لا يعرفون في أحاديثهم غير انتقاد الغير والتقول عليهم بالباطل، أن يصغر من شأن اليصابات، فقال عنها: إنها من عامة الشعب. ولكنها في الحق أثبتت أنها تجيد الظهور في الحفلات، كما تتقن الحديث والمناقشة، وترأس المآدب الكبيرة، ولها فوق ذلك تلك الابتسامة الجذابة المتواضعة التي تجمع من حولها قلوب الجميع، وفي مقدمتهم زوجها.
كان دوق يورك، وهو لا يزال يقطن «بيكاديللي نمرة 145»، يقوم بأعباء كثيرة في الحياة العامة الإنجليزية، شأنه في ذلك شأن باقي إخوته، فكان إذا عاد في المساء إلى المنزل أسرع إلى مداعبة ببغائه يهرش له منقاره، ثم لحق بزوجته الدوقة يجلس إلى جانبها لكي يقرأ كتابا أو يستمع إلى الراديو، وهو يستشيرها من وقت لآخر في كل صغيرة وكبيرة فيما يعرض له من المسائل.
واليوم، وقد صار دوق يورك ملكا وإمبراطورا في الظروف التي يعرفها القارئ، صارت زوجته اليصابات ملكة إنجلترا وإمبراطورة الهند.
وقد لا يجد جلالته اليوم الوقت الكافي لكي يجلس إلى جانب زوجته في أوقات الفراغ كما كان يفعل من قبل، ولكن فكره سيتجه بلا ريب في كل مناسبة إلى إشراك زوجته فيما يضطلع به من أعباء، ما دام الحظ قد ساعده أكثر من شقيقه الملك السابق؛ فمكنه من أن يجعل «المرأة التي يحبها» السيدة الأولى في البلاد، ملكة 500 مليون نسمة.
Bog aan la aqoon