وأحست بلذة غريبة إزاء هذا التصغير الواقعي لكل شيء في الحياة ما عدا نفسها، فقد كانت هي هي، بحجمها المألوف، ووزنها العادي تقف في النافذة، بل لعلها زادت حجما ووزنا بالنسبة لما تراه تحتها.
وتنبهت على صوت البواب يقول: هل أعجبتك الشقة يا هانم؟ واستدارت إليه وهي تقول كالحالمة: نعم؛ ولكن عينيها اصطدمتا بالسرير الصاج فقالت: ولكن، ألا يمكن تخفيض الألف جنيه؟ إن هذا الأثاث لا يساوي أكثر من ... وسكتت، وهمس البواب في أذنها: إنه لا يستحق شيئا، ولكن الشقة ... هذه الشقة الآن لا تؤجر بأقل من ثلاثين أو أربعين جنيها في الشهر. وقالت: هذا صحيح، ولكن لو بعت نفسي في السوق الآن فلن أحصل على ألف جنيه، وابتسم الوجه الأسود كاشفا عن أسنانه ناصعة البياض، وقال: أنت تساوي ثقلك ذهبا، وانشرح صدر فؤادة للمجاملة العابرة انشراحا كبيرا خيل إليها أنها لم تحسه منذ زمن بعيد وابتسمت ابتسامة عريضة وهي تقول: أشكرك يا عم ... وقال البواب: عثمان، فقالت: أشكرك يا عم عثمان.
وهبطا في المصعد إلى الدور الأرضي، وصافحت البواب وشكرته وتركته لتواصل سيرها، لكنه قال: لماذا تؤجرين شقة يا هانم؟ للسكن؟ قالت فؤادة: لا، ستكون معملا كيمياويا. وصاح بغير فهم: كيمياويا؟ قالت: نعم كيمياويا. وكشف مرة أخرى عن أسنانه البيضاء، وقال كأنه فهم: نعم نعم كيمياويا، إنها شقة مناسبة جدا لأن تكون كذلك. وقالت فؤادة: إنها مناسبة جدا ولكن ... وقرب البواب فمه الأزرق من أذنها، وقال: يمكنك التفاهم مع صاحب الشقة، قد يخفض المبلغ إلى ستمائة جنيه، أنت أول من أقول له هذا السر، ولكنك إنسانة طيبة القلب وتستحقين كل خير، وقالت فؤادة لنفسها: ستمائة جنيه؟ أيمكن أن تعطيها أمها ستمائة جنيه؟ ونظرت إلى البواب بعينين حائرتين وقال الرجل: يمكنني أن أحدد لك موعدا مع صاحب الشقة إذا وافقت على ذلك، وفتحت فمها لتقول لا، لكنها قالت نعم. وقال: غدا الجمعة، وهو يأتي هنا كل يوم جمعة ليتفقد أحوال العمارة، وابتسم في زهو: إنه صاحب العمارة أيضا. وقالت: ومتى يكون هنا؟ في أي ساعة؟ قال: في العاشرة صباحا تقريبا. وقالت: سآتي في العاشرة والنصف، ولكن عليك أن تخبره أنني لا أملك ستمائة جنيه الآن. وقال البواب: يمكنك أن تدفعي ما معك وتقسطي الباقي، يمكنني أن أتوسط لك عنده في هذه النقطة وهو لن يتشدد، وقرب فمه الأزرق مرة أخرى، وقال: فالشقة خالية منذ سبعة شهور، ولكن لا تظهري له أنك تعرفين هذه الحقيقة لأنه سيعرف أنني أنا الذي قلت لك، أنت أول شخص أقول له هذا السر، ولكنك إنسانة طيبة القلب وتستحقين كل خير. وابتسمت فؤادة وهي تقول: أشكرك يا عم عثمان، سوف أكافئك على هذه الخدمة الكبيرة التي أديتها لي، وكشف الوجه الأسود عن الأسنان الناصعة البياض في ابتسامة عريضة مفعمة بالأمل.
وصلت فؤادة بيتها قبل حلول الظلام، ورأت أمها جالسة في الصالة متدثرة بالصوف ومعها أم علي الطباخة، وما إن وضعت المفتاح في الباب حتى هبت أم علي وصاحت من الفرح: الحمد لله أنها وصلت. ولفت جسمها اليابس الصغير في ملاءتها السوداء ووضعت صرتها الصغيرة تحت إبطها استعدادا للعودة إلى بيتها؛ ورأت فؤادة عيني أمها الواسعتين وقد طفا على سطحهما الأبيض اصفرار باهت كالغشاء الرقيق، واحمرت أرنبة أنفها كأنها مصابة بزكام، وسمعت صوتها الضعيف يقول: قلقت عليك طول النهار، لماذا لم تتكلمي في التليفون؟ وقالت فؤادة وهي تجلس إلى المائدة لتأكل: لم يكن بجواري تليفون يا ماما، وقالت الأم: لماذا؟ أين كنت كل هذا الوقت؟ ودست في فمها ملعقة أرز بالصلصة وقالت: كنت ألف في الشوارع، وردت الأم في دهشة: تلفين في الشوارع، لماذا؟ وانتظرت حتى ابتلعت ما في فمها ثم قالت: كنت أبحث عن الاختراع العظيم. وارتسمت على وجه أمها دهشة أضافت إليه بعض التجاعيد الجديدة وقالت: ماذا تقولين؟ وابتسمت فؤادة وهي تعض على قطعة لحم محمرة: هل نسيت بسرعة دعوتك القديمة؟ ورفعت فؤادة كفيها إلى فوق مقلدة حركة أمها حين تتأهب للدعاء وهتفت بلهجتها نفسها: ربنا يفتح عليك يا فؤادة يا بنتي لتخترعي اختراعا عظيما في الكيمياء، وانفرجت شفتا أمها اليابستان عن ابتسامة ضيقة، وقالت: ياما دعوت لك يا ابنتي. وأحست فؤادة بانتعاش ومرح وهي تلتهم قطعة من الطماطم المتبلة بالفلفل الأخضر وقالت في سرور: يخيل إلي أن دعوتك قد وجدت باب السماء مفتوحا، وتهلل وجه أمها فزادت كراميشه وقالت: ماذا؟ هل أعطوك علاوة في الوزارة، أو ترقية؟ الوزارة! لماذا نطقت بهذا اللفظ؟ أما كان في إمكانها أن تنتظر حتى أنتهي من طعامي؟ وأحست فؤادة بلذة الأكل وكأنما تجهض، وبدأ ذلك الألم المزمن يزحف إلى معدتها، يصاحبه ذلك الغثيان الجاف بغير قيء، ونهضت لتغسل يديها دون أن ترد، لكن صوت أمها انبعث مرة أخرى قائلا: أفرحي قلبي يا بنتي، هل حصلت على درجة؟ وخرجت فؤادة من الحمام ووقفت في وسط الصالة أمام أمها، وقالت: ما قيمة درجة أو علاوة يا أمي؟ بل ما قيمة الوزارة؟ أنت تتصورين أن الوزارة شيء ضخم عظيم، إنها ليست إلا مبنى قديما آيلا للسقوط، وأنت تتصورين أنني حين أخرج كل يوم في الصباح الباكر وأعود بعد الظهر أكون قد أديت عملا ما في الوزارة، ولكنك لا تصدقين إذا قلت لك إنني لا أعمل شيئا، لا أعمل شيئا على الإطلاق، إلا أن أكتب اسمي في دفتر الحضور والانصراف! ونظرت إليها أمها بعينيها الصفراوين الواسعتين وقالت بصوت واه: ولكن، لماذا لا تشتغلين يا ابنتي؟ إنهم لن يرضوا عنك بسبب هذا، ولن تحصلي على ترقيات. وابتلعت فؤادة ريقها وقالت: ترقيات! الترقيات تعطى حسب شهادة الميلاد، وحسب مرونة عضلات الظهر! وقالت أمها في دهشة: مرونة عضلات الظهر! هل أنت في قسم الأبحاث الكيميائية أم الألعاب الرياضية؟ وضحكت فؤادة ضحكة قصيرة سريعة ثم وضعت أصبعها على فم أمها قائلة: لا تقولي الأبحاث، إنها من الألفاظ الجارحة! وقالت الأم: ماذا؟ وقالت فؤادة: لا شيء، إنني أضحك معك؛ المسألة كلها هي أنني سأنشئ معملا كيمياويا.
وجلست فؤادة إلى جوار أمها، وراحت تشرح لها بحماس ما معنى أن يكون لها معمل خاص، وأنها ستجري فيه تحليلات للناس وتحصل على أموال كثيرة، وأنها إلى جانب هذا ستجري فيه أبحاثا كيميائية وقد تكتشف شيئا خطيرا يغير العالم. كان لا بد من هذه المقدمة الحماسية حتى تصل فؤادة إلى تلك النقطة المادية السخيفة، حين تطلب من أمها مالا. وكانت أمها تنصت باهتمام وسرور لكل ما يمكن أن تقوله فؤادة إلا تلك التلميحات الخفية لمطالب مادية. وفهمت الأم المدربة أن تلك الرنة المجلوة في صوت فؤادة إنما تعني في النهاية مطلبا.
وقالت الأم في النهاية: هذا شيء جميل جدا، وليس لي إلا أن أدعو لك بالتوفيق يا ابنتي، وقالت فؤادة: ولكن الدعوات وحدها لا تكفي يا أمي، لا يمكن أن أنشئ معملا كيمياويا بالدعوات؛ لا بد من مال لشراء الأدوات والأجهزة.
وقالت الأم وهي تنفض يديها المعروقتين: مال؟ من أين المال؟ أنت تعرفين «البير وغطاه». وقالت فؤادة: ولكنك قلت مرة إن عندك ما يقرب من ألف جنيه. وقالت الأم وقد اختفت النبرة الضعيفة من صوتها: ألف! لم يعد هناك ألف! ألم نسحب منها جزءا لتبييض الشقة وتجديد العفش، هل نسيت؟ وقالت فؤادة. وهل أنفقت الألف جنيه كلها؟ وقالت الأم وهي تمصمص شفتيها اليابستين: لم يبق إلا ثمن كفني. وقالت فؤادة: بعيد عنك الشر يا ماما. وقالت الأم بصوتها الواهي وقد تضعضعت نظراتها مرة أخرى: ليس بعيدا يا ابنتي، من يدري ماذا يحدث غدا، لقد حلمت حلما سيئا منذ أيام. وقالت فؤادة وهي تنهض: لا، لا، لا تقولي هذا الكلام، ستعيشين مائة عام، وأنت الآن في الخامسة والستين؛ أي لا يزال أمامك خمسة وثلاثون عاما من الحياة، ليست الحياة العادية، وإنما الحياة السعيدة الرغدة، لأن ابنتك فؤادة، سوف تحقق في هذه السنوات المعجزات! وتنهال الأموال عليك من السماء!
وقالت الأم وهي تبتلع ريقها الجاف: لماذا لم تدخري بعض المال؟ لقد ادخرت الألف جنيه من معاش أبيك الذي يقل عن مرتبك بثلاثة جنيهات. أين تبددين أموالك؟ وقالت فؤادة: أموالي! إن مرتبي لا يشتري لي فستانا محترما !
وسادت لحظة صمت طويلة، وسارت فؤادة إلى باب حجرتها، ووقفت على عتبة الباب لحظة تنظر إلى أمها المتكومة تحت الأغطية الصوفية فوق الكنبة، الكفن أم الاختراع العظيم؟ أيهما أكثر أهمية أو فائدة؟! وفتحت فمها لتقول في محاولة أخيرة: كأنك لن تعطيني شيئا. وقالت الأم دون أن ترفع عينيها إليها: هل ترضين لي أن أدفن بغير كفن؟
ودخلت فؤادة حجرتها وألقت نفسها فوق السرير. لم يعد هناك أمل في شيء، لم يعد هناك شيء، كل شيء اختفى، كل شيء ضاع، المعمل الكيمياوي، والبحث وفريد، والاكتشاف الكيمياوي، لم يبق شيء، لم يبق شيء إلا جسمها الكئيب الثقيل، الذي يأكل ويشرب ويبول وينام ويعرق. ما فائدة هذا الجسم؟ لماذا يبقى وحده دون كل الأشياء؟ لماذا هو وحده داخل تلك الدائرة المغلقة؟
Bog aan la aqoon