الفصل الأول
في اليوم الثاني من شهر يولية 1798م كانت الشمس تدرج من خدرها، فترسل أشعتها فوق النيل براقة وهاجة كالذهب النضار، وقد تكسرت أمواجه وهبت عليه نسمة شمالية وئيدة الخطا، بلل البحر الأبيض أذيالها بمائه، ونفحها ببخاره المملوء بعناصر القوة والحياة.
وكانت مدينة رشيد في هذا الصباح جاثمة فوق الشاطئ الغربي، بعظمة منازلها وارتفاع مآذنها، تنعم بلذة الهدوء الذي احتواها في أثناء الليل، إلا ما كان من العملة الذين اتجهوا أفواجا إلى مضارب الأرز (الدوائر)، وإلا ما كان من زمر الفلاحين الذين قدموا من الشمال والجنوب لبيع حاصلاتهم من الخضر والفاكهة، واللبن والبيض والدجاج، وقد أخذ فتى منهم غض الشباب يرسل صوته عذبا مشجيا بأغنية يذكر فيها ما يبذله من الجهد لجمع مهر حبيبة فؤاده، ثم يتم الأغنية بأن كنوز الأرض وثروة «البك الكبير» بمصر لا تكفي مهرا لهذا الجمال الرائع والحسن الفتان، ويسمعه بعض النساء والعذارى اللائي بكرن إلى النيل لغسل ثيابهن وملء جرارهن، وقد انتثرن على شاطئه في ثيابهن الزاهية الألوان كأنهن عقد اختلفت حباته حول جيد الحسناء، وقد زاد جمال الصبح في جمالهن، وأمن نظرات العيون فكشفن عن سوق خدال، ومعاصم رخصة صافية البياض، لولا ما يحبسها من حجول وأساور لسالت في الماء، كما يسيل الماء.
ضحكت إحداهن في دلال وعجب، وقالت لإحدى صويحباتها: أتسمعين غناء هذا الفلاح الأبله؟
فأجابت: لعله يا فاطمة يتغزل في جاموسة لأحد جيرانه يريد شراءها، فأسرعت فتاة لا تعرف مكر النساء ولا أساليبهن، تقول في سذاجة: ولكنه يصفها بأنها سوداء العينين، صغيرة الأذنين! فأرسلت فاطمة ضحكة مغرية الرنين وقالت: إنها الجاموسة بعينها كما قالت سعاد! وهي التي من أجلها يكدر علينا هذا الفلاح الجافي جمال هذا الصباح بصوته المنكر، من أين يأتي لهؤلاء الفلاحات الجمال؟ ولو قدر لهن شيء منه لطمسنه ببلاهتهن وقذارتهن، وجهلهن بطبائع الرجال، إن الجمال مهارة قبل أن يكون خلقة وفطرة، والمرأة التي لا تستطيع التعبير بعينيها وابتساماتها، وأسارير وجهها عما تحب وتكره، والتي لم تدرس طبائع الرجل، ولم تعرف مواطن ضعفه وغروره، لن يكون لها حظ عند زوجها، ولو بلغت في الجمال ما بلغت زبيدة بنت البواب.
ارتفعت الشمس وعاد النساء بجرارهن، واستيقظت المدينة الآهلة بسكانها، الزاخرة بنزلائها من جميع أقطار الشرق، فقد بلغت رشيد في هذا الحين شأوا بعيدا من الثروة واتساع التجارة واستبحار العمران، وكانت ترد إليها السفن من مصر والشام، وتركيا وأوربا، محملة بأصناف البضائع، وكانت تمتد على شاطئ النيل من الشرق، ويحيط بها من الغرب الكثبان الرملية التي ملأها نشاط أهلها بالنخيل والكروم، وأشجار الزيتون والتين، وكان بجهتها الشمالية والجنوبية حدائق فيح، وبساتين خضر، ازدحمت بأشجار الموز والليمون، والبرتقال والنارنج، وأنواع الزهر والرياحين، فكان النسيم في غدوه ورواحه يحمل أريجها إلى المدينة، لا يكاد يخلو منه منزل ولا طريق، فحيثما ذهبت شممت عطرا، وأينما أقمت تنفست طيبا.
وكانت شوارعها ضيقة ملتوية، تقوم على حافتيها منازل بنيت بطوب صغير الحجم أجيد إحراقه، حتى أصبح كالحجر الصلد، وصناعة هذا الطوب خاصة بأهل رشيد ودمياط، وأعظم ما كانت رشيد تزهى به شارعان عظيمان، أحدهما شارع البحر، والثاني شارع مواز له يبتدئ من مسجد المحلى، وينتهي جنوبا بالمسجد الجامع المسمى بمسجد زغلول، وهو من المساجد النادرة المثال بمصر، تزيد رقعته على رقعة الجامع الأزهر، به مساكن لطلاب العلم الغرباء، وكان يلقي الدروس به طائفة من كبار علماء المدينة، أشهرهم الشيخ أحمد الخضري ، والشيخ إبراهيم الجارم، والشيخ محمد صديق.
وكان يسكن عظماء المدينة وكبار تجارها بشارع دهليز الملك، وهو يبتدئ من الغرب بمسجد العرابي، وينتهي في الشرق إلى النيل، ويمتاز بسعته واستقامته، وبالمنازل على جانبيه فقد كانت فخمة البناء شاهقة الارتفاع، تتألف في أكثرها من أربع طباق، وتكثر بها الزخارف الفنية والشبابيك، والمشربيات التي أبدعت صناعتها من قطع الخشب الصغيرة المخروطة، ذات الأشكال الهندسية البارعة الدقة، الرائعة الحسن، وكان يسكن بهذا الشارع عثمان خجا حاكم رشيد من قبل مراد بك، وكان رجلا فاتكا بطاشا، ظالما جماعا للأموال أين وجدها ومن أي طريق وصل إليها، وكان به منزل محمد بدوي جوربجي سردار مستحفظان، والسيد محمد البواب، والسيد إبراهيم الجمال - وهما من كبار تجار الأرز بالثغر - والحاج عبد الله البربير شاعر المدينة وزجالها، إلى غير هؤلاء من الأعيان والعلماء والكبراء.
وميناء المدينة أشد أحيائها ازدحاما وأكثرها جلبة وصخبا، تراصت به السفن آتية من أقطار الشرق والغرب، وسار ملاحوها في شارع البحر يلغطون، وقد اختلفت أزياؤهم وألسنتهم وألوانهم، واختص شارع البحر بمضارب الأرز فطل عليه منها أكثر من ثلاثين دائرة، يبيض فيها الأرز بطواحين تدور بالخيل والبقر، وكان بهذا الشارع متجران: أحدهما لفرنسي يدعى مسيو فارسي، وهو يتجر في الحبوب والعقاقير الطبية، والثاني لإنجليزي يتجر في المنسوجات الحريرية والصوفية، هو مستر أوليفر نيكلسون، وقد كان عند بدء تاريخنا هذا في سن الأربعين، رحب الجسم قوي العضل، يدل تألق عينيه الزرقاوين على قوة العزم، ويوحي انبساط أسارير وجهه بالوداعة واللطف وسلامة دواعي الصدر، وكان كامل الثقافة وافر العلم بأحوال الدول والأمم.
في ضحوة هذا اليوم جلست زبيدة بنت السيد محمد البواب في غرفة نومها، وكانت تلبس قميصا من الحرير الأبيض الشفاف، يتسع كماه ويضيقان عند الرسغين، فوق صدار من القطيفة القرمزية طرز بالقصب، وكثرت أزراره حتى التصق بعضها ببعض، أما سروالها فكان من الأطلس البنفسجي واسعا فضفاضا، زين عند نهاية الساقين بطراز من الفضة المموهة بالذهب، وقد انتطقت فوقه بحزام حريري، جعلت عقدته إلى الجانب الأيسر من خصرها ، واتشحت بوشاح (يسمى الشمار) دمشقي الصنعة، بديع الألوان، وكان فوق رأسها قرص من القطيفة رصع بالماس ونفيس الجواهر، أما شعرها: فقد ضفر «بالصفا» وهو خيوط من الحرير وصل بها كثير من القطع الذهبية، وفصل بين كل قطعة بنظم من اللؤلؤ.
Bog aan la aqoon