هاتي كفك يا رابحة، إني أرى فيك أنك ستموتين، ولكني لويت عنه وجهي وقلت: أيها الحاكم إنك ستموت في هذا البلد بعد سنتين، وسيكون موتك بين السماء والأرض. فضحك سليم بك، وقال الشيخ البربير ساخرا: أخشى يا سيدي الأغا أن يكون لك جناحان تخفيهما تحت ثيابك، ثم التفت إلي وقال: انصرفي يا رابحة، إن شيطانك اليوم ساخط عليك، يأبى أن يطلعك على لمحة من الغيب، فانصرفت بعد أن لمحت في وجه الحاكم الفزع والغضب فعلمت أنه فهم ما قلت على الرغم من سخرية أصحابه بي واستخفافهم بقولي. - ولكن عثمان خجا فر بجنوده يوم دخول الفرنسيين المدينة، وأكبر الظن أنه لن يعود ما داموا فيها. - إنه سيعود حتما، وسيعود بعد أيام، وسيصلب في رشيد. - وإنني سأكون ملكة حتما؟ ومتى؟ - قريبا وإن كنت أعتقد أن حكم الفرنسيين لا يدوم طويلا. - لا يدوم طويلا! إذا متى أكون ملكة؟ - ستكونين ملكة فلا تخافي. - وكيف لا أخاف وقد عقد القدر مآلي بمآلهم بعد أن أصبحت زوجة لأحد كبرائهم؟ - هذا ما لست أدريه، لكن الذي أعلمه حقا أنك ستكونين ملكة مصر، والله وحده هو الذي يصرف الأسباب ويقلب الليل والنهار، لقد زرت أمك منذ أيام فساءني ما رأيت من ذبولها وشدة حزنها لاختفاء أبيك، أما أعجب العجب فابتهاج أخيك علي الحمامي وازدهاؤه بصهره الجديد! لقد نسي المسكين كل معنى للرجولة بعد أن أغدق الجنرال عليه وجعله رئيس التجار وموضع الشفاعات، وأجرى عليه النعم، فهو اليوم يركب جواده في كبر وتيه، وأمامه ثلة من الجنود الفرنسيين توسع له الطريق، ولن تذهب سفينة إلى القاهرة أو الإسكندرية إلا بإذن منه، ولن يصدر هذا الإذن إلا بمال يكاد يصل إلى قيمة ما تحمله السفينة، كل هذا ثمن أسرك يا فتاتي في هذا السجن الجميل المشرف على نهر النيل المبارك. وبينما هي في الحديث إذا صوت جهير تتردد صيحاته في الأفق تبينتا فيه صوت الشيخ علي سريط وهو يقول: «طأطئوا الرءوس، للعروس، وإن ذهب الإسلام، وعبث الذئب بالأغنام».
فتجهمت زبيدة ووجمت رابحة ثم قامت وهي تقول: سأطأطئ الرأس للملكة، أما الإسلام فله رب يحميه، وانفلتت كأنها الطائر المروع، وبعد خروجها دخل المترجم إلياس فخر ليلقن زبيدة درسا في اللغة الفرنسية، وقد عهد إليه مينو في ذلك، فكان يلقي عليها جملا بالفرنسية مع بيان معانيها بالعربية ويطلب إليها تكرارها، وكان لهذه الجمل سبيل واحدة، فكلها من أمثال: أحبك، لقد ملأ حبك قلبي، لقد ملكت فؤادي، إن غيابك يؤلمني، إلى غير ذلك من أمثال هذه الترهات، وكانت زبيدة تكرر هذه الجمل ذاهلة حزينة كأنها بريء من العصور الوسطى يحمل على الاعتراف بوسائل التعذيب، وبعد انتهاء الدرس أخذ المترجم كعادته يفيض في عظمة الجنرال وشرف محتده وعلو منزلته، ويصور لها ما ينتظرها من المجد الشامخ والعز السامق، وهي تهز رأسها بحركات آلية لا أثر للحياة فيها، وبعد قليل سمعت أصوات الأبواق، وعلا صياح الجند بالتحية لقدوم الجنرال مينو، واصطف الحراس واهتزت أرجاء المكان، ودخل مينو القصر في عظمة وجبرية، فسار توا إلى حجرة زبيدة فانحنى أمامها يقبل يدها، وحيا إلياس فخر بإيماءة من رأسه، وقال: كيف تلميذتك اليوم؟ إنها أدهشتني بالأمس، فقد فهمت كل ما ألقيته في أذنها من الجمل اللطيفة، ثم التفت إلى زبيدة قائلا: ألم تكن لطيفة يا حبيبتي؟ فأسبلت عينيها في ضجر يشبه الخفر، وقالت بعد أن تنهدت: نعم لطيفة، ثم قامت تتعثر في أذيالها كما يمشي الحالم، وغادرت الغرفة، وهنا التفت مينو إلى إياس وقال: سيكون يوم الجمعة يوما تاريخيا في رشيد، أتعرف حاكم رشيد التركي عثمان خجا؟ - كيف لا أعرفه يا سيدي وفي كل بيت في هذه المدينة من ظلمه دماء ودموع؟ - أرسل إلي نابليون من عشرة أيام كتابا من أبي قير يخبرني فيه بانتصاره على مصطفى باشا كوسه، وأنه أسر من جيشه عددا عظيما بينهم عثمان خجا هذا. - ولكن عثمان خجا كان قد فر إلى إستانبول عند دخول الفرنسيين. - نعم ولكنه عاد مع جيش مصطفى باشا ليطردنا من مصر، ويقضي على البقية الباقية من رشيد، قاتل الله هؤلاء الترك! نريد أن نصانعهم فيأبون إلا الانضواء تحت راية أعدائنا الإنجليز، أرسل إلي نابليون كتابا كما قلت يشيد فيه بانتصاره الحاسم، ويطلب مني أن أجمع مجلسا من العلماء والأعيان لإصدار فتوى بقتل عثمان خجا، وقد اجتمع المجلس وأصدر الفتوى، وسيصل المسكين إلى رشيد بعد أسبوع، ثم أخرج من جيبه ورقة فقرأها إلياس، وترجم لسيده ما فيها، فكانت هذه عبارتها لم تغير فيها حرفا: «وصلتنا مكاتبتكم، بالأمر أننا نستخبر ونكشف عن جميع الأعمال التي حدثت في طرف عثمان خجا كردلي، وننظر إن كان حصل منه الشر أكثر من الخير، وبموجب هذا الأمر بحضور: حضرة سيدنا شيخ الإسلام العالم المتورع الشريف أحمد الحضري المفتي، ونقيب الأشراف المكرم المحترم الشيخ بدوي، وقدوة الأعيان أحمد أغا السلحدار، والمكرم علي شاويش كتخدا، وقدوة التجار إبراهيم الجمال، والشريف علي الحمامي، والشيخ مصطفى طاهر، والشريف إبراهيم سعيد وبحضور جماعة المسلمين خلاف المذكورين أعلاه.
ثم حضر رمضان حموده، ومصطفى الجيار، وأحمد شاويش عبد الله، والحاج حسن أبو جوده، وبدوي دياب، وحسن عرب، وثبت من إقرارهم ومن شهاداتهم أن عثمان خجا المذكور كان ظلمهم ظلما شديدا بالضرب والحبس بدون وجه حق، ونهب أملاكهم، وخلاف ذلك سئل جماعة من المسلمين الحاضرين في المجلس إن كان حصل من عثمان خجا الشر أكثر من الخير، فكلهم قالوا بلسان واحد: إنه حصل من عثمان خجا الشر أكثر من الخير، وبسبب ذلك يقطع رأس عثمان خجا حاكم رشيد سابقا».
وبعد أن أتم إلياس قراءة هذه الفتوى، دخل علي الحمامي فحيا الجنرال كما تحيا الملوك، وانتحى ناحية قاصية في الغرفة حتى إذا أومأ إليه مينو بالجلوس جلس مطرق الرأس يجمع أطراف ثوبه في أدب وذلة، ويخفي قدميه تحت الكرسي مبالغة في الخضوع، فلما اطمأن به المجلس سأل مينو: هل سافرت السفن إلى القاهرة؟ - نعم يا سيدي سافر اليوم عشرون سفينة محملة بالأرز الأبيض، فيكون ما بعث به إلى القاهرة في هذا الشهر سبعين سفينة، منها ثلاثون محملة قمحا. - هل تألم التجار من إرسال هذا المقدار العظيم؟ - إنهم دائما يتألمون يا سيدي، ولو ترك لهم الأمر ما سمحوا بسفينة واحدة؛ لأنهم يبيعون أردب القمح خفية بسبعة عشر ريالا، في حين أنه يباع للجيش الفرنسي بثلاثة ريالات، أما الأرز فكثيرا ما ضبطت السفن وهي ذاهبة به إلى دسوق ليباع هناك بسعر مرتفع، ثم التفت إلى المترجم ليعينه في ترجمة ما يصعب على الجنرال فهمه، وقال: هؤلاء التجار يا سيدي لا يملأ عيونهم شيء، وهم يعلمون حق العلم أن هذه الحبوب ترسل إلى الجيش الفرنسي الذي يدفع عنهم فتك الترك ونهب العرب، ومع هذا لا يخرجون شيئا من الأرز أو القمح إلا بعد التهديد والتعذيب، ولولا الخوف الذي يملأ نفوسهم ما جادوا على الجيش بحبة واحدة، ومن الغريب المعجب أني كنت بالأمس عند الحاج سالم الغزولي، وهو رجل ماكر ختال واسع الحيلة، عبقري في تزويق الكذب وإحاطته بإطار من الأيمان التي تغمس صاحبها في النار، لذلك أعددت العدة لمكره ومحاله، فبعثت حوله العيون وأصحاب الأخبار حتى علمت أنه يخبأ قدرا عظيما من الأرز في مخازن داره، فلما ترادفت عندي الأخبار ذهبت إليه في دائرته بعد أن أرسلت إلى داره طائفة من العمال والحمالين لينقبوا جدار مخازن الدار، ويستخرجوا منها ما يجدونه من أرز وقمح، فلما رآني تهلل وجهه بشرا، ونثر فوقي من عبارات الترحيب والشوق ما تعجز عنه أم عاد إليها وحديها بعد لوعة وإياس، والعجيب أن لألفاظه رنين الذهب الخالص الذي لم يشبه زيف، ولم يخلط به ما يكدر معدنه الكريم، ثم وثب مع التحية إلى امتداح الفرنسيين والإشادة بعدلهم وسماحة حكمهم، وأخذ يوازن بينهم وبين الترك في ذلاقة لا يستطيعها سواه، ثم التفت إلي وقال: كن معهم يا سيدي الشريف كما أنت، ولا تبال ما يقول الناس، فإنهم اعتادوا الظلم فإذا رفع عنهم تشوقوا إليه، وأسفوا على أيامه الماضية، إن الخفافيش لا تعيش إلا في الظلام، فإذا سطع عليها النور اضطربت ولاذت منه بالفرار، وهؤلاء العبيد الذين نسومهم الخسف لو أطلقنا سراحهم في الصباح لعادوا إلينا في المساء، ولحنوا إلى الذل الهنيء في ظلال ساداتهم، ثم انطلق إلى حديث ثان وثالث، وأظنه كان يتوجس أني جئت لطلب شيء فأخذ يملأ الحجرة حديثا حتى لا يتسع فيها قول لغيره، وحتى يصرفني بسحر محاضرته عن أن أنبس بكلام، ولكني قاطعته وهو ينتقل إلى موضوع فسيح يستطيع أن يتكلم فيه اليوم كله، وطلبت منه مائة إردب أرز للجيش الفرنسي، فقال: آه يا سيدي هؤلاء الفرنسيون لو أطعمناهم المن والسلوى ما كافأناهم، ولو شوينا لهم فلذات أكبادنا ما وفينا ديننا لهم! من يضن على هؤلاء المجاهدين بقوته وقوت عياله؟ إنه لن يكون إلا حجرا صلدا لا خلاق له من الرجولة والإحساس الكريم.
ولو أن لقمة كانت في أذيال السحاب، وكان لي نهوض الطائر لحلقت حولها واختطفتها لأضعها في فم فرنسي، إن ما نحن فيه من نعمة واطمئنان وثروة لم يكن إلا منحة أيديهم وفضل سماحتهم، دع مسألة الدين بالله عليك يا سيدي، فإن الدين لله، وأنف العمامة راغم، وأنف العلماء راغم، على أن صفات الوفاء والاعتراف بالجميل وشكر المحسن على إحسانه لا تعرف مذهبا ولا جنسا ولا دينا، من يا سيدي لا يبذل كل ما عنده للفرنسيين؟ ولكني أقسم بذات الله العلية، وقدرته الصمدانية، وبقبر المصطفى صاحب المقام المحمود، والشفاعة العظمى في اليوم المشهود، إني لا أملك حبة أرز ولا أحوز حبة قمح، وإليك الدائرة يا سيدي الشريف ففتش كل مكان فيها إن شئت، ولقد كنت أتمنى أن تمتلئ هذه المخازن سمنا وعسلا وحبا لأهبها جميعا للفرنسيين! آه ما أشد حزني حين أريد فلا أقدر، وقد كنت في أيام الترك أقدر ولا أريد! ليت الأرض تمور بي مورا، وليت الموت ينسفني نسفا، بعد أن عجزت عن أن أعمل شيئا يكون آية إخلاصي للفرنسيين وفنائي في حبهم، وبينما هو منهمر في حديثه كالسيل الهدار؛ إذ أقبل أحد عماله صائحا في ذعر وهلع: يا سيدي إن بعض عمال السيد علي الحمامي نقبوا جدار المخازن بالدار، وهم الآن يحملون كل ما فيها من أرز وقمح، فبهت الرجل وهو ممن لا يبهتون سريعا، غير أن المفاجأة خلطت عليه أمره وأذهلته لحظة عن نفسه استطاع بعدها أن يثوب إلى طبعه، فالتفت إلي وأخذ يقهقه ويضرب الأرض بقدميه، ويهز كتفي هزا عنيفا، ويقول والضحك يفصل كل كلمة من كلماته عن صويحباتها: كنت أختبر ذكاءك يا سيدي! وكنت من الغرور بحيث أظن أن حلاوة منطقي وبريق ألفاظي يذهلانك عن الحق، وأقسم بذات الله العلية، وقدرته الصمدانية، ولو أنك خدعت لاحتقرتك وازدريتك، وحزنت أشد الحزن أن يكون سليل النبي الكريم فدما مغفلا، أما الآن فالحمد لله ثم الحمد لله على أن لم يضع أملي فيك وأنت صديق ابن صديق، وعزيز ابن عزيز، خذ ما حمله رجالك من مالي حلالا وإن شئت فادفع ثمنه أو فدع.
فعجبت من حسن انفلات الرجل وسرعة عارضته، ودفعت له الثمن وهو مرح ضحوك، وهنا قال الجنرال: هذا رجل ذكي دوار ولكني أخشى ألا نكون قد تركنا لأهل البلد من الحبوب ما يكفيهم. - الواقع يا سيدي أنهم في ضائقة، ولكن غلة العام القابل ستكون وافرة.
وفي هذه اللحظة دخل إينال مملوك الجنرال الخاص وقال في صوت خافت: حان وقت الجمعة يا سيدي الجنرال، والجنود على استعداد لموكب الصلاة التي ستكون في مسجد زغلول، فظهر على وجه مينو الامتعاض الذي يظهر على وجه مريض تقدم إليه جرعة لا تساغ، وقام في تثاقل وهو يقول: الصلاة، الصلاة، دائما الصلاة، ولا شيء غير الصلاة! ثم خرج فإذا موكب حافل من فرسان الفرنسيين وجنود المماليك والترك، وقد حمل كل فارس الراية الفرنسية خفاقة في الهواء متخايلة في الفضاء، والموسيقى تعزف النشيد الوطني الفرنسي، وكان مينو في وسط الموكب فوق جواد كميت يختال في مشيته كأنما سرى إليه زهو صاحبه، حتى إذا بلغ الركب المسجد دخل مينو حاسرا عن رأسه، فتلقاه الإمام وفي يده عمامة خاصة به كانت تحفظ في خزانة بالمسجد، فلما وضعها على رأسه طافت حول شفتيه ابتسامة خفيفة مبهمة، تذكر عندها باريس، وتذكر ملاهيه في مرسيليا وبوردو، وعجب من الضرورة التي دفعته إلى دين لا يعرفه بعد أن طلقت فرنسا كل دين، وتذكر هنري الرابع الذي اعتنق المذهب الكاثوليكي ليفوز بملك فرنسا وقال: ليس بغال أن يشترى عرش فرنسا بقداس، تذكر كل هذا فتملكه زهو الملوك، وطاف بنفسه أنه فوق طبقة البشر، غير أن صوتا جهيرا في هذه اللحظة انطلق من المئذنة فصك أذنيه صائحا: الله أكبر! الله أكبر! فلم يلبث المسكين أن نكس رأسه في استخذاء، وعلم أنه لا شيء.
الفصل الحادي عشر
انفردت زبيدة في حجرتها بعد أن تركت مينو، وقد ساءها كثيرا حديث العرافة وتكهناتها، وهجم عليها هم جاثم لا تستطيع له دفعا ، وهالها أن تصطدم آمالها بصخرة من الحقائق لا ترحم حزينا ولا تواسي بائسا، وبينما هي تحملق في صور ماضيها الجميل، وهي تمر بخيالها متتابعة، وتود لو تستطيع أن تطيل وقفة هذه الصور المرحة الضاحكة قليلا، أو أن تحول دون ظهور أية صورة من ماضيها القريب الذي كله هموم وأحزان، إذا خادمها سرور يدق الباب ويعلن قدوم سيدته نفيسة، ولم يمض إلا قليل حتى دخلت أم زبيدة وقد برح بها المرض حتى أصبحت لا يكاد يعرفها من رآها، فقد زادت غضون وجهها، وانطفأ بريق عينيها، وانحنى ظهرها تحت ما يحمل من أرزاء وأعباء، دخلت فقبلت وجنتي بنتها في شغف واحتراق، ثم حاولت أن تكتم ما يبدو من جزعها بضحكة مصنوعة أو نكتة بارعة فلم تستطع، ولكنها قالت في النهاية: كيف حالك يا زبيدة؟
فتنهدت زبيدة طويلا وقالت: تسألين عن حالي يا أماه؟ أو تريدين حقا أن تعريفها؟ إذا فاسمعي: لقد كنت يا أمي في سفينة بين أهل وأحباب، حديثهم ابتسام، ومناجاتهم غرام، ينعمون فيها بنعيم الروح ولذة الجسد، بين روح وريحان، وضحك من القلوب لا من الأفواه، وحب تعجز أن تعبر عنه الشفاه، كأن الدنيا لم تخلق إلا لهم، والسعادة لم ترف إلا عليهم، ألغوا الزمن فلا ليل ولا نهار، وألغوا الفكر فلا خوف ولا حذر، وألغوا الغيرة فلا حقد ولا دخل، وبينما كانت هذه السفينة الفردوسية تمخر العباب يا أماه مزدهية مختالة، تجري فتداعبها اللجج، وتجر ذيلها فتقبله الأمواج، إذا عاصفة عاتية هوجاء كالجنون، مدمرة كالموت، ترفع البحر ثم تقذف به، ثم ترفعه ثم تقذف به، ثم ترفعه ثم تقذف به، كأنه كرة في يد مارد جبار، فلم تلبث السفينة يا أماه أن ذهبت بددا، وتمزقت قطعا، وهالني الأمر، وأخذ مني الهلع فنسيت التدبير، ونسيت الرأي، ونسيت الحيلة، وتشبثت بقطعة من السفينة خائرة قذفتني بها الأمواج إلى جزيرة فيها أشجار، وفيها أنهار، ولكن ثمر أشجارها زقوم، وماء أنهارها سموم، وهي قفر من بني الإنسان إلا مخلوقا غريب السمة جاء يتودد إلي ويتخذني له زوجا، أما أهلي، وأما أحبائي، فقد تفرقوا أيدي سبا، وبقيت وحدي في هذه الجزيرة الملعونة مع هذا المخلوق الغريب، هذه حالي يا أمي، وكيف حالك أنت؟ - أنا كنت في ركاب هذه السفينة، وقذفت إلى جزيرة أخرى ليس فيها أحد من بني الإنسان، ولكنها ملأى بوحوش من هموم وآلام، أما أبوك فرماه الموج إلى جزيرة نائبة لا نعرف إليها طريقا. - وابن خالتي محمود في جزيرة رابعة!! آه يا أماه! هل يلتقي هذا الجمع الشتيت؟ وهل تعود تلك الأيام التي كانت حلما هنيئا؟ - تعود عندما تهدأ العاصفة، ويسكن البحر المائج، وتجري فيه السفن مرة أخرى، حينئذ يستطيع كل منا أن يلوح لإحدى السفن بطرف ثوبه لتنتشله من جزيرة الأحزان، إلى الدار التي كانت تجمعنا في ظلال العز والنعيم، لهفي على محمود! لقد وضع بين يديك حبا لو فرق على الناس جميعا ما ترك في صدر غلا ولا حفيظة؛ فنبذته في قسوة وعزوف، فلم ييأس بل ثنى يده على قلبه صابرا وفيا وقلبه يقطر دما، وراح يناجي الطير لما صرفت عنه أذنيك، ويضاحك الآمال لما أقصاه عنك العبوس، وقد كنت عنده رضيت أم غضبت، وصلت أم هجرت، القدس الطاهر الذي لا يطلب على حبه ثوابا. - كفى يا أمي إنك لا تعرفين، قاتل الله رابحة العرافة، وقاتل الله الطموح الكاذب، وقاتل الله الخيال الخصيب الذي جعلني أبيع عزا حاضرا، وحبا طاهرا، بأمل عقيم وأمنية حمقاء، فقدت ما في يدي لأقبض على برق خلب يلمع في أجواز الفضاء! - أكنت تحبين محمودا حقا؟ - كنت أحبه؟ كنت ولا أزال ولن أزال، وسأموت شهيدة حبه، وسأردد للملكين عند سؤال القبر أني أحبه. - ولماذا رضيت بهذا الفرنسي؟ - لأن القدر هو الذي رضي به لي، على أنني أظن أني ساعدت القدر بجنوني وتسويفي وتمسكي بخرافة بعت بها روحي وجسمي للشيطان، بالله دعي الحديث في هذا يا أمي، فإنني أتخيل دائما أن شبابي ميت مسجي، وأنني بجانبه أنثر عليه الدموع. - ولكن هذا يقتلك يا بنيتي، فاطوي الماضي، وأصلحي من شأنك بالطمأنينة لحكم الله، إن حسن الأشياء وقبحها أمران خياليان: فالنفس الجميلة الراضية ترى كل شيء جميلا، والنفس الساخطة الصاخبة ترى كل شيء قبيحا، انظري إلى ما أنت فيه من عز وجاه، وإلى هذا القصر الفخم والرياش الفاخر، ثم إلى هؤلاء الخدم والعبيد وقولي: إني سعيدة، وأقنعي نفسك بأنك سعيدة تكوني سعيدة حقا. - هيهات يا أمي! هذا كلام لطيف براق، إن الجائز أن يقنع الإنسان غيره بما يحس أنه حق، أما أن يقنع المرء نفسه بعكس ما يحسه فهو محال، إن محمودا خلق ليكون لي زوجا، وخلقت لأكون له زوجة، ولكن القدر الساخر أراد أن يتحكم في طبائع الأشياء، وأن يعبث بالغرائز والميول، فاستهوى غرائزي وخدع ميولي، فأغلقت باب سعادتي بيدي، وسننت السكين لقطع كل صلة بيني وبين السعادة والحب والحياة، ويحي عليك يا محمود! إنك تظنني امرأة غادرة فاجرة، ولك الحق في أن تظن ما تشاء، أفنيت كل أساليب الاستعطاف والغزل والتذلل والاستجداء أمام قلب صخري كان عنك ذاهلا تغويه الأحلام، وتصده دونك الأوهام، لم لا أطير إليه في القاهرة وأحطم هذه القيود الظالمة التي يسمونها قيود الزوجية؟ وهل كانت الصلة بيني وبين هذا الفرنسي شرعية؟ وهل ينعقد زواج فتاة فر أبوها فاقتنصتها طائفة من أصحاب المنافع من أهلها فكتبوا ما كتبوا وسجلوا ما سجلوا؟ وهل يعد قبول فتاة في هذيان حمى الأوهام، وجنون الطموح المأفون قبولا؟ لا يا أماه، إن الناس جميعا يعدونني خليلة لهذا الفرنسي، وإن ائتمار طائفة من العمائم بفتاة مسكينة، وتدوين عقد زواج في محكمة، لا يغير من المسألة شيئا، إن الشرع الشريف كما أخبرني الشيخ صديق يوجب الكفاءة بين الزوجين، وأول ما أفهمه من معنى الكفاءة إنما هو تماثل الأخلاق واتساق الطبائع، وأين ذلك التماثل بين فتاة مصرية في رشيد وشيخ فرنسي من باريس؟ وقد كان محمود العسال يقول لي: إن زوج الرجل يجب أن تكون قطعة منه، ويكرر الآية الكريمة
Bog aan la aqoon