فقطع شمر كلامه وهز سيفه وأجابه بفتور وصوت منخفض وهو يبتسم: لم يختاروا غيري لهذه المهمة، وسأقتلك بهذا السيف الصقيل.
فصاح عبد الرحمن: اقتل، قتلك الله. لو أنكم أبقيتم على سلمى لكنت آسف على الحياة من أجلها، ولكنكم ألحقتموها بأبيها، فألحقونى بهما. آه يا سلمى! قتلوك بلا رحمة. آه ما أقسى قلوبهم! اقتلني يا شمر، ولكن تمهل قليلا. دعني أندب سلمى. أعوذ بالله من شروركم! كيف تقتلون فتاة طاهرة؟! أما تخافون الله؟! أما تخافون يوم الحساب؟!
فابتدره شمر قائلا: لقد كنت عازما على استبقائك برهة لأتلذذ بعذابك ولكنني أراك تطلب البقاء لتندب حبيبتك فما أنا مبق عليك، وها أنا ذا قاتلك الساعة فاختر لك موتة. قال ذلك ووخزه برأس السيف في كتفه وهو يقهقه، فصاح فيه عبد الرحمن: اضرب يا شمر، اقتل، اضرب عنقي. قال ذلك وحرق أسنانه ثم قال: آه! لولا خوفي من أن تظن بي الخوف من الموت لاستمهلتك لأندب سلمى. •••
كان عامر ينظر ويسمع، فلما سمع بمقتل سلمى وكان يحسبها في أمان، ورأى ما رآه من شمر، خاف أن يسبقه بالسيف فيقتل عبد الرحمن فتتضاعف المصيبة، فأسند ظهره إلى الباب وتجمع بكليته وخنجره مسلول بيده ورفس الباب رفسة كسره بها، ووثب حتى وقف في وسط الحجرة، فأجفل شمر ووقع السيف من يده ثم هم بأن يلتقطه، فابتدره عامر بالخنجر وطعنه في جنبه، فوقع يتخبط في دمه ولكنه لم يمت، وتحول عامر إلى عبد الرحمن وحل قيوده وكسرها وعبد الرحمن مأخوذ يحسب نفسه في منام ولا يدري ما يقول، ولم يزد عامر على قوله: لا تخف يا عبد الرحمن، جاءك الفرج، وأخذ في حل القيود ولم يبق في الحجرة صوت غير أنين شمر وهو ملقى على الأرض.
فلما فرغ عامر من حل القيود قال له: اتبعني. وعاد إلى السرداب، فمشى عبد الرحمن في أثره، فقال له عامر: امسك بذيل ردائي بيمينك وتحسس الحائط باليسرى، ففعل ومضى في أثره وهو ما زال مأخوذا، فقضيا في السرداب زمنا طويلا ولم يخرجا إلى النور، فظن عامر أنه أخطأ الطريق، ثم أحس بانحباس الهواء عنهما وضاق تنفسهما، فحدثته نفسه أن يعود، ثم تذكر الناسك وما أنذره به مما سيلاقيه من المشقة والخطر فاستمر في طريقه حتى اشتد بهما الضيق وأوشكا أن يختنقا من كثرة العفونة وقلة الهواء، ولحظ عبد الرحمن حيرته، فقال له: لا تأسف على حياتنا يا عماه. لا بأس من موتنا معا في هذا السرداب لا يعلم بنا أحد؛ فإني لا أرى الحياة عزيزة بعد موت سلمى، وأما أنت ...
فابتدره عامر قائلا: وأنا لا أحب البقاء بعدكما، ولكنني لا أريد أن نموت قبل الانتقام من هؤلاء الأشرار، وا أسفاه! أرانا مشرفين على الموت إذا لم يدركنا منفذ نتنفس منه الهواء.
فقال عبد الرحمن: دعنا نمت يا عماه. يا ما أحلى الموت؛ فإنه يقربنا من حجر وابنته. لا تأسف على الحياة بعدهما، ولكنني أحب قبل الممات أن أعلم كيف قتلوها وما الذي أوصلها إليهم وكيف وقعت في الفخ؟
فقص عليه عامر كل ما وقع له مع سلمى من بعد ذهابه، وعبد الرحمن يعجب بشهامتها ويتنهد ويحرق أسنانه حتى أتى على آخر الحديث.
وفيما هما في تلك الحال سمعا دقا على سطح السرداب فوقهما كأنه نبش بالمعاول، فقال عامر: إني أسمع نبشا فعسى أن يكون الله قد فتح علينا، فأصاخا بسمعيهما وإذا بصوت النبش يتعاظم، وبعد قليل رأيا التراب يتساقط عليهما فتقهقرا إلى الوراء، ثم انفتحت كوة في السقف دخل منها نور ضئيل كأنه نور الفجر، وجرى النسيم فانتعشا، فقال عامر: لقد فتح الله علينا بابا للفرج، وهما بالمسير فسمعا جلبة وفيها صوت رجل يقول لرفيقه: إنهم أبوا إلا أن يدفنوها في هذا الفجر، وما ضرهم لو صبروا إلى الصباح؟!
فأجابه الآخر: يظهر أنك لم تفهم السر يا أحمق؛ ألا تعرف عادة الخليفة في مثل هذه الحال؟
Bog aan la aqoon